اختطاف اليسار للثقافة المصرية
22 ربيع الثاني 1434
علا محمود سامي

على امتداد خمسة عقود أو أكثر ظلت الثقافة المصرية بمختلف مكوناتها أسيرة للتيار اليساري، ما جعلها رهينة له دون سواه، الأمر الذي مكنه من السيطرة على جميع روافدها، ولم يكن يسمح هذا التيار لأي فصيل آخر، وخاصة من الإسلاميين بممارسة حقه المشروع في ممارسة العمل الثقافي، للدرجة التي مارس معها إقصاء واضحاً، بدعوى حماية الثقافة من قوى "الظلام".

 

لذلك فرض هذا التيار سياجاً حصيناً حول الميدان الثقافي الذي احتكره طوال هذه العقود، فلا مجال لأحد أن ينافسه فيه، بل وعاش مقولات مضللة زائفة وهي أنه هو الناطق باسم الثقافة والاستنارة، وأن من عداه وخاصة من الإسلاميين، ينطقون بكل ما هو ظلام ورجعية.

 

لم يتورع هذا التيار أن يدعي احتكار الحقيقة المطلقة، أو تشويه غيره أو إقصائه، ولاحظ أن النظام المخلوع كان كنزاً له، فعمل على الارتماء في أحضان مؤسساته، تارة بعدائه الواضح للإسلاميين، وتارة أخرى بدعم هذا النظام بأساليب ووسائل شتى، إلى أن كانت ثورة 25 يناير فأحس هذا التيار أن ما حققه من مكتسبات اعتبرها استحقاقات توشك أن تذهب منه، فعمل بكل طاقته على استعادتها مرة أخرى، وبذل كل ما في وسعه ليحافظ على المنجز الزائف الذي صنعه.

 

وربما هذا ما يجعلنا نفهم سر الحملة المسمومة التي تعرض لها وزير الثقافة الأسبق محمد عبد المنعم الصاوي الذي كان أول وزير يتولى هذا المنصب من خارج هذا الاحتكار اليساري،ما جعله لا يحتمل البقاء في منصبه أكثر من ثمانية أيام، وعندما تردد اسمه لاحقاً بين المرشحين لهذا المنصب، وقفت جحافل اليسار لتمنع ترشحه، بل وترشح غيره ممن لا يقفون في صف اليسار، بل أعلن هذا التيار صراحة أنه لن يرضى بحال أن يتم خطف ما وصفه بوزارة الثقافة، والدفع بها إلى دعاة تقييد الإبداع، على حد وصفهم الزائف.

 

فهذا التيار التغريبي الشرس ظل تحت شعار"حرية الإبداع"، ينشر الخلاعة والفجور، ويبث ثقافة التغريب والتغييب، ما أفقد الثقافة مضامينها المعروفة بأنها "مجموعة من القيم"، الأمر الذي أشاع في المجتمع المصري بعد الثورة سلوكيات مرفوضة، لم تكلف وزارة الثقافة نفسها بأن تعمل في اتجاه مضاد لضبط المجتمع أخلاقياً، وكثفت جهودها بالتركيز على إقامة معارض الفنون التشكيلية، وتسفير فرق الفنون الشعبية، وتنظيم المهرجانات الفنية.

 

هكذا فهمت الوزارة الثقافة واختزلتها في الأنشطة السابقة، إلى غيرها من الفعاليات السطحية وكثير من الأمور التي تهدم ولا تبني، وتجعل الإبداع أسيراً لأفكار بالية، واستمر هذا الحال قبل الثورة وبعدها، حتى بعد الاستحقاق الرئاسي. وحتى في ظل أول رئيس مدني منتخب محسوب على المشروع الإسلامي، يعمل التيار اليساري على عدم التفريط في هذه الوزارة تحديداً، للدرجة التي جعلته يقف بالمرصاد ضد أي محاولة للدفع إليها بوزير من خارج قطيعه، حتى بعد استقالة وزير الثقافة محمد صابر عرب أخيراً، والتي ظهر أنها كانت محاولة لتعزيز سيطرة اليسار، عندما وجه هذا التيار تحذيراً إلى مؤسسات الدولة بعدم الاستعانة بوزير من خارج المحيط الثقافي الذي يحتكره، فيما كانت المناورة الفريدة من نوعها أن الوزير استقال ليبقى، ليحرج حكومة الدكتور هشام قنديل في ظل ما تواجهه من تحديات، حيث قام بتمثيلية بائسة من خلال توجيه قيادات وزارته بإصدار المناشدات والنداءات له لدعوته إلى التخلي عن الاستقالة، والعودة إلى عمله.

 

وتحت دعاوى الاستجابة لقيادات الوزارة عاد عرب مجدداً إلى منصبه، ليس استجابة لواجب وطني، ولكن استجابة لقيادات وزارة تحوم حولها العديد من الشبهات المالية والأخلاقية، دون أن تتمكن الأجهزة الرقابية حتى اللحظة من فتح ملفاتها، وكأنها صارت دولة داخل الدولة.

 

وعلى الرغم من مواقف عرب المضادة للتيار الإسلامي، وخاصة جماعة الإخوان المسلمين، فإن من العجب حرص حكومة قنديل على الاستعانة به في أول تشكيل لها مطلع شهر أغسطس الماضي، وأعادته إليها في نسختها الثانية مطلع العام الجاري، بعدما قام الرجل بإيثار مصلحته الخاصة على المصلحة العالمة، في وقت كانت البلاد في أشد الحاجة إلى تماسك مؤسسي، عندما استقال من حكومة الدكتور كمال الجنزوري للحصول على جائزة تقدر بنحو 200 ألف جنية، ليظل 45 يوماً مستقيلاً، إلى أن كانت حكومة قنديل لتعيد تعويمه بضمه إليها، ولم تكتف بذلك، بل جدد الرجل استقالته منها، إلى أن أعادته إليها.

 

كل هذا ليس له سوى تفسير واحد فقط تم التأكيد عليه سابقاً، وهو أن تيار اليسار في مصر لا يزال قوياً، بل ومهيمناً على مفاصل الدولة، وخاصة وزارة الثقافة، بل يكاد يكون خاطفاً لها، وهو على استعداد للتضحية بأي من المؤسسات المصرية، ما عدا وزارة الثقافة تحديداً، إدراكاً منه لأهمية الدور الذي يمكن أن تقوم به، لعلمه أن الوزارة هي المفتاح الذي تنطلق منه لتعزيز أو لمنع تعاون وزارات أخرى لضبط سلوكيات المجتمع المصري، ولذلك آثر هذا التيار أن يفرط في وزارة كالإعلام واكتفى بزرع جنوده داخلها، دون أن يفرط في قيادته لوزارة الثقافة، وتكاد تكون هذه النقطة الفاصلة في مرحلة التحول الجديد الذي تشهده مصر، بل والتحدي الأبرز للرئيس الدكتور محمد مرسي بأنه الوقت الملائم لكي ينتزع هذه الوزارة من خاطفيها .

 

وعندما ينجح نظام الرئيس مرسي في تحرير هذا المرفق من مؤسسات الدولة، فإنه حينئذ سينجح أيضاً في تحرير مكتبة الإسكندرية، التي لا تزال أسيرة لهذا التيار، وما يضاف إليه من محاولات هيمنة للثقافة الغربية عليها، بدعاوى تقديم المِنَح والقروض وإقامة أنشطة داخلها، وهى المكتبة التي لم يفتح الرئيس مرسي ملفها بعد، على الرغم من غموض الدور الذي تؤديه قبل الثورة وبعدها، فضلاً عن الدور التغريبي الذي تعمل على إشاعته في المجتمع المصري، بدعوى أنها نقطة إشعاع ثقافي من مصر على العالم والعكس!!