ماذا وراء حرية داود الشريّان؟
18 ربيع الأول 1434
إبراهيم السكران

الحمد لله وبعد،،

منذ مدة وأنا أسمع نفس الموضوع، بنفس التناقضات والاستغراب، يثار للنقاش في المجالس، المفارقة باختصار تقول: أن الجميع يعرف أن فضائيةmbc  فضائية موالية تتبنى الخطاب الحكومي الرسمي، والخطاب الحكومي الرسمي في غاية الحساسية من النقد السياسي واتهام مؤسسات الدولة وشخصيات المسؤولين الكبار، وهذا الظرف التاريخي، أعني الربيع العربي؛ يفاقم الحساسية تجاه إدانة الحكومة ومؤسساتها، ويهز الثقة لدى المواطن.

 

 

حسناً .. في ظل هذه المعطيات كيف تتبنى محطة mbc برنامج (الثامنة مع داود)؟

وكيف تتبنى محطة mbc هذا السقف المرتفع في نقد مؤسسات الدولة ومسؤوليها الكبار؟

أليست توجّهات المحطة المستقرة طيلة سنوات تتعارض مع نتوء مثل هذا البرنامج؟!

 

 

الحقيقة أن هذا التناقض شيّق ويثير شهية التأمل والتحليل والتفسير، دعنا نتناول أولاً ما يطرحه المراقبون.

البعض يطرح تفسيراً مفاده أن هذه بطولة وجرأة وشجاعة وبسالة من مذيع البرنامج الأستاذ داود الشريّان، وأنه لا يخشى المسؤولين. والبعض الآخر يرى أن mbc قناة مستقلة، حتى لو كان مديرها الوليد الابراهيم. وثمة آخرون يرون البرنامج مجرد (إبرة بنج) لتسكين ألم المواطن وعدم علاجه بنفس الوقت.

 

 

حسناً .. كل هذه أطروحات محترمة، ولكن في الأسبوع الماضي قدم للسعودية مارك لينش (Marc Lynch) وهو أستاذ العلوم السياسية في جامعة جورج واشنطن بأمريكا، ومدير معهد دراسات الشرق الأوسط، وقام بجولات وزيارات لعدد من الشخصيات السعودية ذات العناية بالحراك المحلي، ثم رجع لأمريكا وكتب مقالة نشرت قبل أمس القريب هذا، أعني يوم الخميس 12/03/1434هـ الموافق 24/01/2013م  في المجلة الأمريكية الأشهر "فورن بوليسي" (FP)، وهي أشهر مجلة أمريكية تعنى أساساً بنشر المقالات المتصلة بالسياسة الخارجية، وفي بطن هذه المقالة ألقى البروفيسور لينش معلومة خلابة، معلومة من الداخل الرسمي تتقافز معها حواجب الاستفهام، حيث يقول لينش:

(One prominent journalist told me that officials had recently allowed a slightly more independent political talk show onto the airwaves primarily because they were all too aware of the far more critical discourse routinely circulating on Twitter)[Lynch, FP, 24/1/2013]

 

 

-الترجمة:

(صحفي مشهور أخبرني أن المسؤولين سمحوا مؤخراً ببرامج مواجهات حوارية "talk show" سياسية مستقلة بعض الشيء، والسبب في المقام الأول أنهم مدركون جداً لتضاعف الخطاب النقدي المتداول دورياً في "تويتر" ).

 

 

وهذا هو رابط المقالة:

http://www.foreignpolicy.com/articles/2013/01/24/america_s_saudi__arabia_problem_barack_obama?page=full

 

 

 

حسناً .. هذه المعلومة تساعدنا في طرح تفسيرات، أو ترميم وإسناد بعض التفسيرات المطروحة مسبقاً، ومن ذلك:

توحي هذه المعلومة أن برامج المواجهات الحوارية في المحطات الموالية والتي فاجأت الناس بارتفاع مساحة الحرية السياسية فيها (وخصوصا برنامج الثامنة الشريانية) ليست برامج وُجدت هكذا اعتباطاً، وليس ارتفاع تدريجي أو تلقائي أو عفوي مسكوت عنه، لا، هذا يعني أنه ارتفاع مدروس مسبقاً، هدفه وغايته: سحب البساط من انفراد شبكات التواصل الاجتماعي بالنقد السياسي، وتقليص وهج تويتر في نفوس الناس.

 

 

هذه المعلومة التي أدلى بها "مارك لينش" -بروفيسور العلوم السياسية في جامعة جورج واشنطن- تساعد المراقب على فهم هذه القفزة المفاجئة في النقد السياسي في برنامج (الثامنة مع داود)، ثم برامج المواجهات الحوارية التي تبعته، وأنه كان مناخاً جديداً أُعطي الضوء الأخضر بهدف سحب زبائن تويتر عبر طرح سلعة إعلامية منافسة جديدة يمكن التحكم فيها بدوائر الخطر الفعلي، وتساهم في إرواء التهافت الشعبي لنقد الرسمي والحكومي بما يقضي على الدوافع التي تسحب الجيل الجديد للانهماك في متابعة النقد الحكومي في شبكات التواصل.

 

 

واضح أن لدى مصمم السياسة الإعلامية شعور بأن (الجوع السياسي) لدى المواطن السعودي، وخصوصاً في أجواء الربيع العربي؛ هو سبب إقباله على خطاب (نقد الحكومة) في شبكات التواصل الاجتماعي، لذلك فتح في قنواته الرسمية برنامج الثامنة الشريانية، وغض الطرف عن ما تبعها من برامج مماثلة، بهدف تقليص الفارق النقدي بين الإعلام الرسمي والإعلام الجديد لتبديد جاذبية الإعلام الجديد.

 

 

حين أشاهد ثورة mbc في برنامج الثامنة الشريانية، وأقرأ بإزائها المعلومة التي نقلها "مارك لينش"، أتذكر فلسفة ذلك الكهل الذي امتنع عن شراء الطبق الفضائي (الدُّش)، فلما رأى أولاده يذهبون لبيت الجيران ليشاهدونه، ذهب واشترى دُشّاً وقال: (يشوفون ويفسدون عندنا، ولا يفسدون عند الجيران).

 

 

أعتقد أن هذه الحالة شبيهة جداً بهذه الفلسفة: ينتقدوننا في قنواتنا وتحت نظرنا، ولا ينتقدون في شبكات ليس لنا ولاية عليها، ولا يمكن التحكم بها.

 

 

ومن النتائج المستخلصة من هذه الصورة المركبة ملاحظة الضغط الرهيب لشبكات التواصل على السياسة المحلية، والقلق الواضح إزاءها، لدرجة تغيير بعض إحداثيات السياسة الإعلامية البروتوكولية لتخفيض الطلب على أسواق تويتر.

 

 

واضح أيضاً أن أثر شبكات التواصل نفسها تطور، فحين كان تويتر مختص بالنخبة لم يكن ذا أثر مقلق، بل كان اشبه بمجلس معزول، ولكن بعد أن صار شعبياً، وصار حديث الناس؛ اختلف أثره كلياً.

 

 

وهاهنا تساؤل مهم: هل هذا يعني أن النقد الذي يقدمه الأستاذ داود الشريان مرفوض؟ لا، طبعاً، بل هذا النقد مشكور، ومحل تقدير واحترام، ولكن الهدف من هذه المقالة كلها: أن لا يتم استغفالنا بمثل هذه البرامج، وأن نعي أن هدفها الأساس الإضرار بالمنافس، أكثر من كونها تهدف للإصلاح.