مالي.. حرب فرنسية بوكالة أمريكية
9 ربيع الأول 1434
علا محمود سامي

يبدو أن الدولة الفرنسية لم تستفد من درس الإمبراطورية الأمريكية المزعومة، فعلى الرغم من الدرس القاس الذي تجرعته هذه الإمبراطورية في الصومال مطلع حقبة التسعينات من القرن الماضي، حتى خرجت ذليلة تجر أذيال الخيبة والندامة من مقديشو، تأتي باريس اليوم لتعيد ذات السيناريو، غير مستفيدة من الدرس الأمريكي، عندما وجهت أسلحتها ومعداتها الثقيلة، وكافة خبراتها العسكرية تجاه مالي، بدعوى الدفاع عن مصالحها، مستهدفة في ذلك جماعاتها الإسلامية المسلحة.

 

والمؤكد أن الدرس الأمريكي في الصومال كان ماثلا أمام مسئولي قصر الاليزيه، غير أنه يبدو أن الصلف الفرنسي واستعراض القوة وبسط النفوذ واستحضار التاريخ العسكري لفرنسا وغزوها للدول الإفريقية حال دون استيعابه، لذلك همت الدولة الباريسية بقدها وقديدها إلى مالي، وتحديدا في الشمال للإجهاز على الجماعات المسلحة، بدعوى الدفاع عن مصالحها ومكتسباتها في القرن الإفريقي، وإن كان هذا صحيحا، إلا أنه ليس كل الصواب، بل هى تكاد تكون حربا أصيلة لفرنسا من ناحية، فضلا عن كونها حربا بالوكالة عن الولايات المتحدة الأمريكية وثأرا لهزيمتها في هذا القرن من ناحية أخرى.

 

وربما لاينسى المرء هنا، ذلك الثأر الأمريكي الذي لم يقتص بعد لخسارته النكراء في الدول الإفريقية التي حاول فرض نفوذه العسكري عليها، وهزيمته في مقديشو على وجه التحديد في العقد الأخير من القرن الفائت، فضلا عن التدابير الأمريكية التي استبقت العدوان الفرنسي على مالي، عندما قامت وزير الخارجية هيلاري كلينتون بزيارة إلى العاصمة الجزائرية قبل نهاية العام المنقضي ، وقتها تباحثت مع نظام الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في الشأن المالي، وتطور الأوضاع هناك، بعدها بأقل من شهرين كانت الطلعات الفرنسية صوب العاصمة المالية باماكو وفي شمال البلاد، إلا أن كان استجلاء الصورة بشكل أكثر تفصيلا، عندما أعلنت إدارة البيت الأبيض استعدادها لدعم العدوان الفرنسي لوجستيا، إلى أن تحقق ما تم التصريح به، لتبدو أطراف الحرب جلية في أهدافها والمتورطين فيها، ويصدق توقعات الخبراء بأن أحد أهداف  العدوان على مالي أنها حرب فرنسية بوكالة أمريكية.

 

إذن هى حرب بكل المقاييس، ولاينكر ذلك مراقب أو محلل عسكري، فحالة الاستنفار العسكري الفرنسي والدعم الأمريكي بأوصافه المختلفة له، والمطاردات الجوية من قبل الدولة الباريسية لسكان مالي وأماكن الجماعات المسلحة تعكس صلف القوة وغريزة العدوان واستحضار مظاهر الغزو، ليؤكد الغرب مجددا أنه لايمكن له أن يتخلى عن نظرته العدائية تجاه العرب والمسلمين والشعوب المستضعفة، مهما قيل عن أن حروب اليوم أصبحت باردة، أو أنها صارت معلوماتية، فغرور القوة، وماضي الاستعمار دائما حاضر في ذهن العقلية الغربية، والعسكرية منها على وجه الخصوص، وإن تفاوتت أشكاله ومدده الزمنية.

 

وسيناريوهات العملية العسكرية الفرنسية الحالية في مالي، وقبل أن يتعرض لها المحللون، حكم عليها التاريخ ذاته، من خلال قراءاته واستدعاء ما شهده، إذ أن جميع الحروب التي تقودها الجيوش النظامية ضد الجماعات المسلحة، دائما ما يكون محكوما عليها بالفشل، وعدم تحقيق الدوافع من ورائها، فهذه حقيقية تاريخية، وتجارب الدول التي خاضت حروبا عسكرية تدرك ذلك، غير أنه يبدو أن الاستعلاء صار المهيمن على عالم اليوم بمختلف أشكاله، فلم يستفد من دروس التاريخ، حتى وإن كانت خسائره فيها أرواح جنوده.

 

الولايات المتحدة ذاتها كان لها نصيب كبير من هذا الفشل، فلم تثبت أمام أي جماعة مسلحة، كما لم تتمكن من الإجهاز عليها، في ظل لجوء مثل هذه الجماعات إلى حالة الكر والفر، وإتباع سياسة الأرض المحروقة أمام مثل هذه الجيوش النظامية، ما جعل الإدارة الأمريكية لم تحقق جملة أهدافها في كل ذلك، وإن تحقق بعضها فهو يسير، ولا يمكن قياسه مع هو مستهدف من حشد لكل الأرتال العسكرية التي تدفع بها، ولعل ما حدث في الصومال واليمن وأفغانستان والعراق خير شاهد على الفشل الأمريكي في مواجهاته للجماعات المسلحة.

 

واليوم تستحضر فرنسا مثل هذه التجارب، غير أنها لم تستفد بنتائجها على الأرض، فكانت نتيجة أولى طلعاتها الجوية ضد مالي أن فقدت اثنين من جنودها، إلى أن كانت عمليات القرصنة في الجزائر ضد رعايا أجانب متعددي الجنسيات، إذ لايمكن إغفال امتداد المسلحين في الجزائر إلى مالي عن هذه القرصنة ، للدرجة التي يعتبر فيها مراقبون أن معظم الجماعات المسلحة في العديد من الدولة الإفريقية هى امتداد طبيعي للجماعات المسلحة التي تسيطر بنسبة أو بأخرى على جنوبي الجزائر، ما جعل لها امتدادات في القرن الإفريقي عموما، وتحديدا في مالي وموريتانيا، وربما يكون ذلك السبب الرئيس في زيارة كلينتون للجزائر، استباقا للعملية العسكرية للدولة الفرنسية، بغية الحصول على دعم لوجستي من الرئيس بوتفليقة، استبق ذات الدعم الذي وجهته الإدارة الأمريكية للحملة الفرنسية على مالي.

 

وإذا كانت هناك ثمة توقعات بأن ضراوة العملية العسكرية الفرنسية في مالي يمكن أن تحقق بعضا من أهدافها بتقليص النشاط المسلح في شمالها، غير أنه لن يمكنها بحال أن تتمكن في الإجهاز على جميع الجماعات المسلحة، إذ أن الأخيرة تتبع معها عمليات كر وفر وحرب شوارع، أو ما يعرف بحرب العصابات، فضلا عما تحققه ذات الجماعات من مكاسب على الأرض بالتعاطف معها من قبل أبناء الشمال، الذين تزداد مرارتهم مع كل طلعة جوية للجيش الفرنسي، ما يعني أن مالي تكاد تصبح على وقع معاناة حقيقية، سواء بظهور حالات تهجير، ما سيجعل المجتمع الدولي أمام ظاهرة جديدة للاجئين، أو بوقوع نكبات في نقص المؤن الغذائية والاحتياجات الضرورية.

 

وعلى الرغم من أن أصوات منظمات المجتمع الدولي المعنية بحقوق اللاجئين بدأت تدق ناقوس الخطر لما يتعرض له سكان مالي وظهور حالات تهجير فعلية، إلا أن تبعية هذه المنظمات للإدارة الأمريكية، والتي أعلنت دعمها للعمليات العسكرية الفرنسية ستكون حائلا ضد أي تعاون مع حالات الإغاثة أو الدعم الإنساني، إذ لم تتمكن منظمات اللاجئين في كارثة إنسانية تتورط فيها دولا كبرى من احتواء كوارث المنكوبين، بسبب تبعية هذه المنظمات من ناحية، ولكون الكوارث التي تخلفها تدخل الدول الكبرى في حق الشعوب المستضعفة كوارث هائلة من ناحية أخرى.

 

هذه الشواهد على الأرض، تجعلنا أمام كارثة جديدة من مآسي المسلمين في القرن الإفريقي، طرفها الأصيل فيها دولا كبرى، باتت تستحضر تاريخها الاستعماري، بدعوى حماية مصالحها، غير عابئة بحقوق الإنسان، أو التدخل في شئون الدول، أو حتى إغاثة المنكوبين، وما يترتب على كوارثهم من تداعيات، ستظل عالقة في جبين دولا تزعم حماية حقوق الإنسان، وتطبيق الديمقراطية، واستقلال الدول وعدم التدخل في مساراتها.