عندما تطل الورود بين الحطام.. إنها غزة
15 محرم 1434
تقرير إخباري ـ نسيبة داود

هذه الصورة التقطتها في منزل عائلة الدلو -أو ما بقي منه- بعد أن دمرته قوات الاحتلال قبل أيام في مدينة غزة.

 

الصورة بكل تضاربها؛ ما بين الورد ولونه النابض بالحياة، وذلك الركام الميت.. ما بين التحدي رغم الغصن الغض وبين الانكسار رغم الصلابة والخشونة .. ترسم ملامح غزة الأبية رغم ضعف إمكاناتها في مواجهة الاحتلال الغاشم رغم اجتماع الوسائل.

 

كتلك الوردة الشامخة لم تنكسر بين الركام، تقف غزة اليوم رافضة التحطم أمام قوات الاحتلال. رغم الألم تعض على جراحها لتنهض وتواصل المسيرة. رغم الشهداء المتلهفين المتصاعدين تباعا يحث بعضهم بعضا.

 

في ذلك المنزل الذي لخص قصص المعاناة مجتمعة.. أبناء استشهدوا وأمهات وإخوة، وزوجات وأبناء عم وأصدقاء.

 

جمال، سهيلة ، سماح ، تهاني، إبراهيم، يوسف، سارة، ومحمد؛ هم بعض أسماء الضحايا الإثنى عشر الذين قضوا في القصف الغاشم الذي استهدف أحد عناصر كتائب القسام التابعة لحركة المقاومة الإسلامية حماس.

 

قضت المجرزة على الأسرة لكنها تركت الناجي الوحيد فيها الأب لتجرع جراحه دون أنيس من أهله، إلا أهل غزة. رغم ذلك كان صابرا، قابلنا بابتسامة وسمح لنا أن نأخذ تذكارات من البيت لنبقى أبد الدهر نتذكر كيف ضحى أبناء فلسطين لتلك الأرض الطاهرة.

 

وبينما تمر في ذلك الشارع الذي لاتزال دار العزاء فيه مفتوحة ومعلق عليها لافتتات تدين الهجوم الوحشي وتظهر صور الأطفال القتلى، يتجلى أمامك ركام البيت الكبير الذي ضم تلك العائلة الطاهرة بين حناياه سنوات. وبينما تتسلق الركام إذا بك داخل غرفة نوم قد خلت إلا من سرير مهدم. كان ذلك مطبخ وكانت تلك غرفة الطعام، أما هذه فلا أثر يعرف منها.. ربما كانت غرفة معيشة.

 

أصحاب البيت تركوا بعض المعالم للزوار تشهد عليه. الكل يلتقط بعض الحجارة ليحتفظ بها لتظل شاهدة على تلك المجزرة البربرية. هناك من التقط قطعة فنية منقوش عليها لفظ الجلالة كانت تزين ما كان ذات يوم جدارن لهذا البيت.

 

ملابس الأطفال الدامية لا تزال في مكانها وأشلاء وقطع من ألعابهم وأوراق دراستهم. تمر بين ركام ما كان أروقة البيت لترى آثار هؤلاء الأحباب قبل أن تغتالهم صواريخ الغدر.

 

كان هذا في غزة. أما في رفح، مأساة أخرى. طائرة صهيونية تقصف شابين كانا يستقلان دراجة نارية فتسفر عن مقتلهما. أحدهما أب لطفل له من العمر 18 يوما فقط.. وفي مجلس العزاء حملته أمه تهدهده صابرة متجلدة رغم صغر سنها. ولسان حالها يقول: ستكبر ذات يوم لتثأر لنا ولأبيك.

 

الشهيدان هما أحمد عابد أبو مر (25 عام) وأخيه محمد (20 عام). أحمد أبو مر هو أحد أفراد الوحدة القسامية الخاصة في رفح، وكان شابا ملتزما منضبطا كما يروي أهله.

 

كانت الزوجة المكلومة تجلس في وسط محفل العزاء وقد كسى الحزن أوداجها لكن سكينة ربانية تنزلت عليها لتزيد وجهها نضارة وحلاوة تخفي من ورائها الغم والحسرة.
 لم تتوقف العبرات عن الانسكاب لكن بريقها على وجنتيها أضاءلها نورا من الأمل بأن ذلك الطفل في حجرها يوما ما سيكبر ليعرف طريق والده فيكمل المسير ويثأر للدم وللأرض ولتلك النفس التي زهقت وضاعت معها فرحة شباب تلك الأم الصغيرة الصابرة.

 

قالتلي خالته إنه منذ كان عمره ١٢ سنة لم يترك صلاة في المسجد حتى صلاة الفجر. هكذا نربي أبناءنا، تقول وقد تبللت وجنتيها من فرط البكاء. قالت وهي مكلومة على وفاة ابنها الذي ارتبط بها بعد وفاة أمه إنها ضغطت عليه ليتزوج، فكان دائما يقول لها أنه لا يريد دنيا إنما يريد الآخرة. قالت بفخر أنه كان يعتبر مكانه في ساحة الجهاد والاستشهاد، وها قد نالها.

 

هكذا هي فلسطين.. تخرج من بين المآسي شامخة بشبابها نضرة بدمائهم رطبة بذكر الله قوية بسواعد المجاهدين، ظاهرة كما تلك الزهرة التي انتصرت على ركام حطمته يد الغدر.