التكافل الإجتماعي والترابط الفكري السلوكي
26 ذو الحجه 1433
د. صفية الودغيري

[email protected]

يؤسس التكافل الاجتماعي في الإسلام بناءً فكريًّا متكاملاً، شامِلاً لمنظومةٍ أخلاقيَّةٍ تُلَبِّي حاجَاتِ الإنسان، وتربط الفرد بالمجتمع بوشائِجَ متينة، تُؤَلِّف بينهم بصِلاتِ الولاية تتحقَّقُ بالتَّعاوُن، والإشراف، والمُسانَدَة، والتَّكافُل المشترك، وِفْقًا لما وصف الله به أحوال المؤمنين والمؤمنات فقال: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) سورة التوبة: 71 .

 

لإِخْراجِ جيلٍ قويٍّ، مُتَماسِكٍ بين أعضائِه، كما وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر"..

 

ولإخراجِ جيلٍ يتحَمَّلُ المسؤولية المشتركة في الإصلاحِ وإِحْداثِ التَّغيير، وتهذيبِ النفس وتزكِيَتِها، وحِفْظِها، ورِعايَتِها، ووِقايَتِها، وإرشادِها ..

 

وجيلٍ يدرك حقيقةَ التَّكافل في توحيدِه بين المجتمعات الإنسانِيَّة - على اختلافِ أجناسِها، ولُغاتِها، وأَلْوانِها، وثَقافاتِها- بمبادِئِ تحْفَظُ لكُلِّ مجتمعٍ كرامَتَه الإنسانِيَّة، وتحْمِي حُقوقَه، وحُرِّياتِه الخاصَّة، وتحافِظُ على كَيانِه المستقل، وقِيَمِه ومبادِئِه، وأُسُسِ دينِه، وهُوِيَّتِه ..

 

 وتربط بينهم برباطِ المودَّة والرَّحمة، وتبادُل المنافِعِ المادِّيَّة، والمَعْنَوِيَّة، والعلميَّة، والاقتصاديَّة، والسِّياسيَّة ..، كما أقَرَّ قواعِدَه الحقُّ سبحانه فقال:" يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير " الحجرات :113 .

 

وهذا التَّكافُل بشُمولِيَّة مقاصِدِه هو ما نحتاجه اليوم لِحَلِّ مشاكِلِنا، ولمواجهة تَحَدِّياتِنا المعاصرة، ومكافحة ما يهدِّدنا من المخاطِر، ومن أشَدِّها أن يفقد جيلُ الحاضر ارتباطَهُ بالعلاقة المتبادَلَة بين الأغنياء والفقراء، وبين مَنْ أَغْرَقوا في المَلَذَّاتِ والشَّهوات ومَنْ أَغْرَقُوا في الحِرْمانِ من متاعِها، وبين مَنْ أَسْرَفُوا في التَّنَعُّم بالتَّرَفِ والرَّخاء ومَنْ أَسْرَفُوا في الزُّهد والإِمْلاق، وبين مَنْ أُتِيَحَتْ لهم الحياة المُرَفَّهَة الرَّاضِيَة ومن أُتِيحَتْ لهم الحياة العَسيرة البائِسَة، وبين مَنْ تَقَلَّبُوا في النِّعْمَة السَّابِغَة والعَيْشِ الهادِئ، ومَنْ تَقَلَّبُوا في المِحْنَةِ وشِدَّة البلَاَء، وبين مَنْ جُمِعَت بين أيديهم الآمالُ العِرَاض والأَحلام السَّابِحات، ومَنْ جُمِعَت بين ايديهم الآلاَمُ المُلِمَّات والجِراحُ النَّازِفات .. 

 

وأَنْ لا يُحِسَّ هذا الجيلُ بآثارِ تصرُّفاتِه على مَنْ سيأتي بعده من أجيال، ولا يَعًبأُ بما يُهَدِّدُ مستقبله، ولهذا نَبَّه الإسلام لمراعاة هذا النوع من التَّكافُل، ووجَّه الحق سبحانه خطابه لتحقيق هذا التضامن في كثير من النصوص فقال: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا"، وقال تعالى : " والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا أغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا " الحشر: 10

 

فالواجب يحتِّم علينا أن نُجَدِّد العلاقة فيما بيننا، ونراعِي مصالحَنا ومصالحَ أجيال المستقبل، ونَصِلُ ما انْقَطَعَ  بيننا مِنْ أسْبابِ المَوَدَّةِ والمَحَبَّةِ، ونَجْمَعُ ما تَفَرَّقَ مِنْ شَمْلِنا، فقد فَرَّطْنا في حقوقِنا وقَصَّرْنا في واجِباتِنا، وقَطَعْنا ما بيننا من صِلاتِ الإخاء، وما بيننا مِنْ صِلاتٍ إِنْسانِيَّة، حتى خَلاَ كلٌّ مِنَّا  إلى نَفْسِه، وتخلَّى عن مجالسةِ أَهْلِهِ، وأَقْرِبائِه، وجيرانِه، وإخوانِه، واكْتَفى كلٌّ مِنَّا بخِدْمَةِ مصالِحِه وجَلْبِ منافِعِه، فلا يلتَفِتُ إلى شؤونِ مَنْ حَوْلَه، حتى تَعْبَثُ بِنا الشَّيخوخة يَوْمًا بَعْدَ يَوْم، فَتَفْنَى أحاسِيسُنا، ولا يتبقَّى منها إلا أشياء يفْتَرِقُ لأجْلِها الناس بعد اجْتِماع، حين يستأثر بهم الرِّياء، والتَّجَمُّل، والتَّكَلُّف بحَظٍّ وافِر، حتَّى إذا جَدَّ الجَدُّ وافْتَقَدْتَهُم لم تَجِدْ عندهم إلاَّ الحزن، واليأس، وخيبة الأمل، وإذا تلَمَّسْتَ خُطاهُم لم تجِدْ إلا سراباً يَحْسَبُهُ الظَّمآنُ ماءً  ..

 

والواجب يحتِّم علينا أن نحيي عاداتٍ حِسان، حرَمَتْنا من متعة المُكاتَبَة،  والتَّزاوُر، واللِّقاء المباشر الذي يضمُّنا بضمَّات الشوق، حتَّى صِرْنا لا نلتقي إلاَّ لِقاءَ الغُرَباء، ولا نتواصلُ إلاَّ وصْلاً يشوبُهُ الجَفَاء، فسقَطْنا في هُوَّةٍ سحيقة، لا سبيلَ إلى عبورِها إلاَّ إذا تجاوَزْنا أسبابَ القَطيعة، وَتَعَوَّدْنا أن نتَجَنَّبَ فيما بيننا مِنْ صِلات ما مِنْ شَأْنِه أن يُخْزِينا، وأن ننتقِل بالإنسان من ترابُطٍ يصِلُهُ بنَفْسِهِ وذاتِه، إلى ترابُطٍ مُحْكَمٍ يَصِلُهُ أوَّلاً بأُسْرَتِه بصِلاتِ التَّشارُك في تحمُّل المسؤولية، وفي أداءِ الحَقِّ والواجِب، وتوزيعِ مسؤولِيَّات الرِّعاية داخِلَ البيت وخارجه بين الرَّجُلِ والمرأة، بما يَضْمَنُ قِيامَ أُسْرَةٍ متعاوِنَة متآلِفَة " فالرجل راع في بيته ومسؤول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها"، ويصِلُهُ ثانِياً بمَنْ هو خارِج محيطِ بيتِه وأسرته، بصِلاتِ الالتِزامِ الذي تمتزجُ فيه المَصْلَحَةُ الفردِيَّةُ بالمصْلَحَةِ العامَّة، ويتضامَن الأفرادُ فيما بينهم في حَمْلِ أثْقالِ الحياة، والنُّهوضِ بأعْبائِها، ويَتَحَرَّكون بروحٍ تضامُنِيَّة، تُحَتِّمُ عليهم الالْتِزامَ بالنِّظامِ العام، وحِفْظَ الحُرُمات، وكَفالةَ الحقوق، والحُرِّيَّاتِ المشروعة، وتَجَنُّب ما يسيءُ للآخرين أو يُعَطِّلُ مصالِحَهُم ..

 

وقد رَسَّخَ الإسلام هذه  الصُّورة التَّكافُلِيَّة، ووضَعَ قواعِدَها الرسول صلى الله عليه وسلم في أمثلة يُحْتَذَى بها في حِفْظِ النِّظامِ العام للمجتمع وأفراده، منها قوله :" مثل القائم على حدود الله  والواقع فيه، كمثل قوم استهموا سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا هذا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا "

 

ونحن كذلك علينا أن نتمِّمَ هذا البناء التكافُلي ليحتذي بنا جيل المستقبل،  وأن نخلِّف لمن سيأتي بعدنا آثارنا، لِنُشْعِرَهم بأنَّنا خلقنا للتضامن والتعاون على حماية موارِدِنا، وما نمتَلِكُه من طاقاتِ الحياة، ونَضَعُ النَّباتَ والسَّمادَ الطَّيِّب في تُرْبَةٍ تمْتَدُّ جذورُها وتتشابَكُ أصولُها بفروعِها، ونشُقُّ لهذه الأمة طريقًا يصِلُ خُطى الأجيالِ في صورةٍ إنسانِيَّةٍ مُثلى للتكافل الشَّامل يضُمُّ قلوبهم بالوُد، فتهْفو أرواحُهم شوْقاً للقاء ..