الترسل الإعلامي و بلاغة الانقياد
21 ذو الحجه 1433
حميد بن خبيش

شاع في العصور السابقة لون أدبي سلطاني حرص رواده على نشر و تثبيت أخلاق الطاعة و الولاء للمتسلطين , و إكساب مراكزهم بُعدا جبريا من خلال توظيف النص الديني و الموروث الفارسي .عُرف هذا اللون الأدبي بفن " الترسل ", وشكل برأي بعض الباحثين مدخلا لتأسيس منظومة قيم ماكرة,   يُسخر القوالب اللغوية المتنوعة لتؤدي مهمة التبرير الديني و البرهان العقلي للاستبداد و التسلط

 

و يبدو أن الترسل قد حقق مراد الحكام طوال العصور اللاحقة ليؤسس بالتالي ما يمكن أن نسميه " بلاغة الانقياد" .

 

 و في العصر الحديث الذي تولى فيه الإعلام وظيفة كاتب السلطان , لم يكتف الخطاب الإعلامي بتمجيد النظم الحاكمة فحسب, بل تولى مهمة شرعنة الولاء لأنساق فكرية و اجتماعية و قيمية تصادم الهوية و العقيدة .

 

إن نافذة التغريب التي ظلت مُشرعة بعد أفول العهد الاستعماري مكنت من تغذية الشعور بالاستعلاء لدى فئة عريضة راهنت على التجرد من أي شيء , بل ومن كل شيء , لقاء الحفاظ على وضع اعتباري أو امتيازات سابقة .

 

 وكان من تبعات الاستعلاء أن راهنت هذه الفئة على إرساء خطاب إعلامي و سياسي و ثقافي ينحاز لمرجعية "الغالب" و حضارته , ويدعم كل أشكال الاستلاب ووأد محاولات النهوض الذاتي .

 

و إذا كانت أهم سمات الإعلام اليوم , كما بسطها هربرت شيللر في كتابه : المتلاعبون بالعقول , هي التضليل و " استحداث معنى زائف , و إنتاج وعي لا يستطيع أن يستوعب بإرادته الشروط الفعلية للحياة القائمة أو أن يرفضها , سواء على المستوى الشخصي أو الاجتماعي " (2) , فإنها لدى المولعين بثقافة "الغالب" تمتد لما هو أعمق من التضليل حين تنحو منحى الترسل في تبرير الاستلاب و التغريب و الدفاع عن طروحات  و قيم شائهة !

 

إن الترسل الإعلامي لا يكتفي بتمجيد النظم العلمانية الحاكمة أوتثبيت الهيمنة الأجنبية على ذاكرة الأمة و مقدراتها فحسب , بل يدفع بسيطرته التوجيهية إلى أبعد من ذلك حين يصوغ الفساد و الرخاوة و الانحلال في قوالب حتمية تشجع على الانقياد لما هو سائد , و القبول بالوضع الشاذ و المنافي للثوابت و القيم ! .وهذه السيطرة لا تكف عن تجديد أدواتها وتأثيث فضائها لا بالقوالب اللغوية وحدها أو الطرح الفكري المخاتل , بل  كذلك من خلال الاستعانة بكل منتجات التكنولوجيا الإعلامية الحديثة .

 

ينهض الترسل الإعلامي كذلك على الخلط المتعمد بين التحديث و التغريب , و الحرص الدائم على إيهام الأغلبية الصامتة بأن أي تفكير أو مبادرة تنافي منظور "الغالب" و تصوارته و أطره المرجعية  هو بمثابة تراجع عن المكتسبات , وإعاقة فرص التقدم و النمو .

 و هذا يفسر موقفه المناوئ للمشروع الإسلامي الذي يستمد أطره و أدواته من رصيد الأمة التاريخي و الحضاري . أما أبرز تجليات هذا الخلط فتكمن بالأساس في إضفائه طابع العالمية والكونية على قضايا و تحديات تؤرق المجتمع المتقدم وحده , وتهدد وجوده وانفراده بالصف الأمامي .

 

في المقابل هل يمكن الجزم بانصياع الأغلبية الصامتة لبلاغة الانقياد ؟ 
إن ما يحفل به المجتمع الإسلامي اليوم من  آفات أخلاقية و سلوكية لا يدع مجالا للشك بأن المرامي المتوخاة بلغت حدا مرعبا من التحقق ! وأن حديث الهوية و الخصوصية و الانتماء يتطلب جهدا كبيرا لتتشربه العقول الناشئة.

هكذا إذن يزج الترسل الإعلامي بالأغلبية الصامتة في خضم الحيرة و الضياع , وفقدان الحرية الداخلية , كما يدفع بالمجتمع صوب تبني قيم هشة و القبول الذاتي لكل صور المسخ الفكري و المظهري .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 (1) : هربرت شيللر : المتلاعبون بالعقول .ترجمة عبد السلام رضوان . منشورات المجلس الوطني للثقافة و الفنون و الآداب . الكويت 1999 . ص 5