26 جمادى الأول 1434

السؤال

السلام عليكم: أشكركم بداية على جهودكم لتقديم المساعدة للجميع، وأسأل الله أن يجعلها في ميزان حسناتكم، أما مشكلتي فهي كالتالي: أنا الابنة الكبرى وعمري 26 سنة، وصرت أعاني خلال السنتين الأخيرتين من عدم احترام إخوتي، وأكبرهم يبلغ من العمر 22 سنة، وأخت تصغرني بسنتين، ولا أدري لماذا يتعمدون مضايقتي والتدخل في شؤوني، وللأسف أجد والدي يتهمني دائما بأنني المذنبة، وأنا لا أقول ذلك لأعفي نفسي من أي أخطاء أرتكبها، ولكني أحاول الابتعاد عن المحادثة معهم حتى أتجنب الوقوع في مشاكل معهم، لأنه بكل الأحوال هم ضدي..
وأنا ليس لي من أشتكي إليه إلا هو سبحانه، وهو من يعلم كيف هو حالي معهم، صحيح أن حياتي ولله الحمد لا ينقصها شيء، ولكن يحزنني طريقة تعامل إخوتي معي، ولا أعرف كيف أتصرف معهم، أرجو مساعدتي فأنا في حيرة من أمري.. وشكراً..

أجاب عنها:
صفية الودغيري

الجواب

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أختي السائلة الكريمة، بداية أشكرك على رسالتك، وثنائك على جهود العاملين بموقع المسلم وتقديمهم المساعدة للسائلين، وعلى ثقتك وطرحك لاستشارتك، أما بالنسبة لمشكلتك فألخصها في أمر واحد يؤرقك هو: عدم احترام إخوتك لك وأنت أكبرهم سنا، وعدم مساندة والدك واتهامك بأنك المذنبة..
بداية: أقول لأختي الكريمة أنت الأكبر سنا بين إخوتك، وهذا معناه أن الواجب يحتم عليك أن تكوني كذلك الأكبر عقلا، وحكمة، وثقافة، وسلوكا، ومعاملة..
ومن خلال عرضك لمشكلتك لاحظت بأنك لم تذكري إلا والدك وإخوتك، فأين دور الأم داخل الأسرة؟، وهل هي ما زالت على قيد الحياة؟، أم أنها غير موجودة بحياتكم لسبب ما نحن لا نعلم عنه شيئا..
وبكل الأحوال فالذي ألاحظه غياب دور الأم بحياتكم، وهذا معناه أنك تحتلين مكانة الأم داخل هذه الأسرة، وعلى هذا الأساس فوالدك يعاملك بشِدَّة وصرامة، ولا يبرِّر تصرُّفاتِك، ويتَّهِمُك دائما بأنَّكِ المذنبة، حتى لو كان إخوتك يسيئون إليك، ويقلِّلون من احترامِهِم لك، كذلك والدك يعاملُكِ معاملة الأكبر سناًّ، ويراكِ أجدر بتحمُّل المسئولية معه والقدرة على ذلك، ويُنْزِلُكِ منزلةً أعظم من منزلة باقي إخوتك، ومن ثَمَّ فمعاملتُه تتصف بالجدِّ والحزم معك، ليس بُغضًا لك ولا قلة حبٍّ فيك، ولا تفضيلاً لإخوتك عليك، ولكن لهذه المعاني فقط، ولأنه يطمح إلى تأهيلِك لتحمُّل مسؤولية مشاركته في الالتزام بالحقوق وأداء الواجبات، وفي الرِّعاية والتَّربية والتَّهذيب والتَّعليم، بدءا من نفسك ثم باقي إخوتك..
وقد يكون حُبُّه لك أعظم من حُبِّه لإخوتك، إلا أنَ المُحِبَّ يكون تأنيبُه وعتابُه لمحبوبِه أشد من غيره، وعقابه له أكثر، لأنه ينتظر منه سلوكًا مختلفاً ومميَّزًا، ومعاملةً خاصَّة، وحِرْصًا شديدًا على مظهره وجوهرِه، وكذلك شأن والدك ينتظر منك أن تكوني مختلفة عن بقية إخوتك، مُمَيَّزة عنهم بسلوكِك وتصرُّفاتِك، راقِيةً في تفكيرِك، عاقلةً حكيمة، وهكذا هو يراك وبهذا تستحقِّين في نظره الاحترام والتقدير، وبهذا السُّلوك تفرضين وجودك، وتلزمين الجميع الإذعان لاختياراتك وقراراتك.
أما بالنسبة لسلوك إخوتك معك، لاحظت بأن التغيير لم يحصل إلا خلال السنتين الأخيرتين حسب ما ذكرت في رسالتك، وهنا أطرح عليك بعض الأسئلة التي تساعدك في فهم مشكلتك وحلِّها: فما هي أسباب هذا التغيير في أسلوب تعامل إخوتك معك خلال هاتين السنتين الأخيرتين؟
وما هي أوجه الاختلاف بين تصرُّفاتِك وتصرُّفاتِهم في الماضي والحاضر؟ وما هي الاقتراحات والخطوات وسبل العلاج؟
أما بالنسبة للأسباب فأنتِ لم تذكري من خلال عرضك لمشكِلَتِك ما يبرِّر تصرُّفات إخوتك، فلابدَّ وأنَّ هناك أسبابًا مختلفة، فعلَيْكِ أن تُرَاجِعي نَفْسَكِ أوَّلاً، وتُتابِعي مِلفَّاِتك القديمة والجديدة، وتقارني بين المرحلة السَّابقة والرَّاهنة، وتفكِّري في تصرٌّفاتِك وتصرُّفاتِهِم بالماضي والحاضر، فقد تكون تصرُّفاتِك معهم خلال هذه المرحلة تُغِيظُهُم، أو ربما هم يغارون منك، إما لأنك الأكبر سناًّ، أو لتفوُّقِك، أو لمؤهِّلاتِك، أو لنجاحاتِك وإنجازاتِك، أو لأن والدك يثني عليك باستمرار، أو يفضِّلُكِ عنهم في المعاملة، أو يميِّزُك عنهم بالحديث، والأخذ بمشورتك وآرائِك، فتظهر ردَّاتُ أفعالِهم على صِيغة عدم احترامِهِم لك، أو ربما لاتِّساعِ آفاقِهِم وطموحاتِهم وأحلامِهم، فهم كما يكبرون في أجسامهم وتتغير معالم وجوههم، كذلك تتطوَّرُ أفكارهم، وتنمو ثقافتهم، وتتغيَّر غاياتهم وأهدافهم، ويختلف تقييمهم للأشياء وللأشخاص، وهذا النُّضج والتَّقدُّم بالسِّن وبالفهم، قد يخفِّف ما كان بينكم من رِقَّة في المشاعر القلبية، فينتج عنه نوع من الصِّدام والصِّراع والمنافسة بينكم، ويصير كل واحدٍ منكم يحاول أن يفرض وجوده، وسلطته، واختياراته وقراراته على الباقي، ويبدأ الاختلاف صغيرا ثم يكبر في الفهم، لينتقل بعد ذلك للتصرفات والمواقف..
أما العلاج فيأتي تدريجيا وعلى مراحل، وإليك بعضَ الطُّرق التي قد تساعدك:
أولا: اعلمي أختي الكريمة بأنك بالحب تكسبين قلوب إخوتك، وتكسرين الحواجز وتذيبين الفوارق التي بينك وبينهم، وبقُرْبِك منهم بعَطفك وحَنانك وتودُّدِك إليهم بالكلمة الجميلة التي تطرب لها الآذان، وبالمعاملة الطيبة والصفح الجميل تكسبين مودَّتهم ومحبَّتهم، وتملكين مفاتيح قُلوبهم، وبهذا تستطيعين قيادتهم والتَّأثير عليهم..
ثانيا: استخدمي معهم في أغلب الأحوال أسلوب الرِّفق واللِّين، وكوني حكيمة تستخدمين لكلِّ ظرفٍ ما يناسبُه، وتتعاملين مع كلِّ حالةٍ بما تقتضيها، وتجنَّبي التَّعامل معهم بأسلوب القَسْوة والشِّدَّة، فالعلاقات الأسرية مع الأهل وذوي الأرحام، ينبغي أن يسودها الرِّفق واللِّين، للمحافظة على تماسك بنيانها وصفاء أجوائها، ولهذا كان خطاب الحق سبحانه يعلم نبيه صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم يقول: "ما كان الرفق في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه"، ولما سأله رجلٌ - صلى الله عليه وسلم - عن أفضل الأعمال، أوجزها له في صفات ذكر منها: "لين الكلام وبذل الطعام"، وهكذا كان شأنه صلى الله عليه وسلم في سائر أحواله، حتى أن السيدة عائشة رضي الله عنها تعجَّبت من موقفه صلى الله عليه وسلم، حين استأذن عليه رجل بالدخول، فنعته بقوله: "بئس أخو العشيرة" "فلما دخل ألان له الكلام"، ومعنى هذا أنك تملكين أن تنالي احترام ومحبة إخوتك بأسلوب اللين ما لا تنالينه بأسلوب الغلظة والشدة..
ثالثا: لا تُكثِري من انتقادهم، وتتبُّع هفواتهم وزلاَّت لسانهم، فإنه يجفِّف ينابيع القلب، وتنعكس آثاره السلبية على صور مختلفة من حِدَّة في التعامل، وسوء أدب، وقلة احترام..، وقد جاء في موطأ الإمام مالك قوله: (بلغني أن عيسى عليه السلام قال لقومه: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله تعالى، فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا فيها كأنكم عبيد، فإنما الناس رجلان: معافى ومبتلى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية).
رابعا: استغِلِّي المناسبات الجميلة للخروج معهم في نزهة أو الجلوس للحديث معهم ومسامرتهم في سهرة رائعة، أو هيِّئي لهم وجبات طعام، أو قدِّمي لهم أصنافًا من الحلويات يحبُّونها، أو هدايا تناسب أعمارهم، وتنسجم مع أذواقهم، واختياراتهم، واحتياجاتهم، واستخدمي كذلك عنصر المفاجأة والتشويق، كترتيب حجرتهم، أو استخدام رسائل نصية، وبطاقات مكتوبة تضعينها تحت وسادة كل منهم، أو على مكتبهم، أو في حقيبتهم.. أو أرسلي لهم رسائل بريدية أو عبر الهاتف تكون معبِّرة، وتحمل صورا ومناظر جميلة..
خامسا: احترمي اختياراتهم وقراراتهم، وأنصتي لحديثهم، ولآرائهم، ولمنطق تفكيرهم، واحْتَرِمي رغباتهم وأذواقهم واختياراتهم وقراراتهم، كما تطلبين منهم احترامك واحترام اختياراتك وقراراتك، واعْلمي بأن لهم نفس الحقوق كما لك، وهم ليسوا مجبرين على تقليدك، ولا تطلبي منهم أن يكونوا نسخة طبق الأصل منك، يفكرون كما تفكرين، وآراؤهم تشبه آرائك، واختياراتُهُم كاختياراِتك، وأحلامُهُم كأحلامِك، بل هم شخصيات مستقلة عنك، من حقهم مخالفتك وعصيانك، ونقدك كما لَكِ الحقُّ نفسه، وعوِّدي نفسك على تقبُّل اخْتِلافِهِم معك، ولا تتعصَّبي لآرائك ..
سادسا: من حق إخوتك استمتاعهم بحريتهم، ومن حقهم أن تنزليهم المنزلة التي تليق بهم، فلا تقلِّلي من شأنهم ولا تسْتَصْغِريهم، ولا تحْتَقِري مؤهِّلاتِهم وكفاءاتهم ولو كانت أقل شأنا منك، ولا تنْظُري إليهم من برج بكِبْرٍ وتعالي، وأكثري من استخدام أسلوب الثناء والمدح، وشجِّعيهم على أيِّ إنجازٍ ينجزونه، أو نجاح يحققونه، واظْهِري أمامهم افتخارك بهم، واذْكُرِي مميَّزاتِهِم وحسَناتهم أمامَ والدك والأسرة، وأمام أصدقائهم والجميع، فهذا سيُوَثِّق رباط الحب والوُدِّ بينكم..
سابعا: تذكَّري لذَّة الثَّواب على صبرك على تصرُّفاتهم، وأنك تؤجرين على نيتك الطيبة ومواقفك الجميلة معهم، وحسبك أن الله يعلم السر والنجوى، وسيوفِّي لك الأجر ولو كان مثقال ذرة من الخير، قال تعالى: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً} [الإسراء:25]..
وختاما أقول لأختي الكريمة: استعيني بالله وتوكلي عليه، وألحِّي عليه بالدعاء والإنابة إليه، والعمل الصالح خاصة الصلاة لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153]، وثقي بأن الله قادرٌ على هدايتهم وإلقاء المودَّة والرَّحمة بينكم، وتحرَّري من هاجس أنك الأكبر سنًّا، ومن حب التسلُّط، وعامليهم معاملة الأقران، وغيِّري من نمط حياتك، وأسلوب تعاملك معهم بالكامل، وتَخَلَّيْ عن انطوائِك وعدم مشاركتهم الحديث، ولا تسمحي للشيطان أن يجد منفذًا له إلى قلبك، فيزرع سموم النُّفرة والوحشة بينك وبين أفراد أسرتك، مهما كانت الدَّواعي والمبررات، وكوني على يقين بأن محبة والدك وإخوتك لك محبة أرسخ من الجبال، وستكتشفين مع توالي الأيام تغييرا شاملا في تصرُّفاتهم معك، وسيظهر لك قدر ما يكِنُّونه لك من التَّقدير والاحترام والحب..
أسأل الله العلي القدير أن ينير بصيرتك، ويهدي قلبك، ويوثق أواصر الحب والمودة والرحمة بينك وبين إخوتك، ويؤلف قلوبكم على الخير والحق.