لماذا لا يثور الجزائريون؟!
13 رمضان 1433
ياسمينة صالح

قد يستفز العنوان الكثير ممن تأخذهم العزة بالإثم، ممن يربطون الثورة أو حتى التغيير بالفوضى، مع أننا كمسلمين أبدا لن نتمنى الفوضى لدولة مسلمة، فما بالك لدولة أحمل جنسيتها. لقد ربط الاعلام الرسمي الثورات الراهنة بالتدخل الخارجي، هو الذي كان يعتبر أي حراك شعبي للمطالبة بلقمة عيش كريمة كأنها حالة تحركها الأيادي الخارجية، بيد أن الأيادي الخارجية ظلت تساير دائما الخطاب الرسمي، كلما صرخ شخص "آه" لا بد ان ثمة دولة معادية حثته على الصراخ، لهذا كان بديهيا أن تربط الحراك الشعبي في أكثر الدول البوليسية والديكتاتورية في الوطن العربي بأنه صناعة أجنبية، ولعل أبسط سؤال يتوجب طرحه هو: هل الشعب الذي ثار في تونس وفي ليبيا وفي مصر واليمن وسورية مثلا كان يعيش في جنة؟ لن يجرؤ النظام، لأنه يعي أن رفاقه في الأنظمة البوليسية الساقطة، مارسوا قمعا منقطع النظير، وحولوا الجمهوريات الدستورية إلى مزارع خاصة، لهم ولذويهم، لآخر حفيد يولد في الخارج ليحمل جنسية الأجنبي، ثم يعود إلى الداخل سيدا على شعب لم يكن مسموح له أن يتأوه، أو يتألم، أو يعبر عن معاناته سوى في عيادة طبيب الأسنان !!

 

 

لقد سبقناكم في الثورة !

مدهش أن تقرأ هذه الجملة السهلة أو تسمعها هنا وهناك، في صحيفة أو يرددها جزائري ببغائية غريبة، مع أن الجزائر تعرف جيدا ماهية الثورة، وهي التي قادت حقا أعظم الثورات الجهادية التحريرية إبان الخمسينات من القرن الماضي انتهت بالنصر من عند الله ثمنه أكثر من مليون ونصف مليون شهيد، من الرجال والنساء والأطفال. كان الاستقلال فرصة جيدة لأجل بناء جزائر جديدة، على أساس كل التضحيات الجسام التي قدمت، وعلى أساس مطالب شهداء وشعب على حد سواء كانوا يرون في النصر بداية أخرى لدولة من المفترض أنها تخلصت من الاحتلال، وإذ بها تقع في شبيهه ! لقد وجد الشعب الجزائري نفسه بين المطرقة والسندان، بين خطابات كانت تعتمد على الثورة وعلى الشهداء دون أن تدافع عن مبادئها، ولا عن أمالهم، بيد أن سنوات الاستقلال الأولى أظهرت النمطية السياسية العسكرية التي سوف تسير عليها البلاد لسنوات طويلة، إذ أن التاريخ يذكر سنوات "الصدام المسلح" بين رفاق النضال، أيام كان الخصام ليس على الوطن أو على الأهداف الحتمية لبنائه، بقدر ما كانت على توزيع ريع الاستقلال بين النواحي المتعارف عليها. فكل قائد كان ينتمي إلى ناحية عسكرية أكثر من انتمائه إلى البلد بمعناها الكبير، وكانت النتيجة أن خرج الجزائريون المتعبون إلى الشارع للصراخ "سبع سنين تكفي" وكانت تعني سنوات الثورة التي بدأت عام 1954 إلى غاية 1962 ! ثم كان الانقلاب الأول في الجزائر يحمل صبغة "التصحيح الثوري" قاده عقيد في الجيش (هوري بومدين) ليأخذ السلطة، ليتجسد شكل السلطة في الجزائر والتي طوال سنوات الاستقلال لم يأخذها أي مدني سوى بصورة شكلية، مجرد ديكور لالتقاط صورة تصلح لنشرة الأخبار المملة، وإن يبدو بوتفليقة رجلا مدنيا فالجميع يعي أن الجيش هو الذي يحكم الجزائر منذ الاستقلال إلى يومنا هذا ! لقد كان ثمن الاستقلال كبيرا، بل عظيما، مع ذلك، اكتشف الجزائريون أنهم لم يتحرروا تماما، وأن فرنسا تظل حاضرة، بل موجودة وبقوة، وأنها خرجت عسكريا فقط، لكنها ظلت حاضرة فكريا، ثقافيا، وحتى تسييريا.. فرنسا التي أعاثت في الجزائر فسادا، تحولت إلى الصديقة العزيزة، لغتها حاضرة في كل مكان، بل والنظام نفسه ظل تابعا لها بشكل أو بآخر، بحيث كان من الصعب القيام بالقرارات المصيرية او الحاسمة (التعريب على سبيل المثال) دون الخوف من ردة الفعل التي كانت تأتي ممن يعرفون ب"حزب فرنسا" والحال أن حزب فرنسا كان متغلغلا ليس في أوساط الشعب المغلوب على أمره، بل في أوساط النفوذ والسلطة والمال والتجارة، بحيث استطاعوا أن يخضعوا البلد كلها لتصبح من دولة تحررت نتاج تضحيات جسام إلى دولة تابعة للقوى الخارجية دون وجه حق ! لقد كانت الثورة بعد الاستقلال بمثابة المادة الدسمة للقوى النافذة داخل البلد، حتى وهي تبتعد عن المسار الحقيقي للثورة نفسها، وتركب موجة التغريب الذي أدى إلى طمس الهوية الوطنية. كان ثمة الاعتقاد دائما أن النظام (الذي يتغير رجاله ولا يتغير هو نفسه في الحقيقة) يبحث دائما عن العدو لأجل اشغال الشعب به، بينما العدو الحقيقي فقد كان "صديقا عزيزا" يفرش له السجاد الأحمر، ويعطى له الأولوية في الظهور، والحضور. كان العدو إما دول جارة أو إسلاميين يتم بناء الرواية الرسمية عليهم لأجل تحويلهم إلى أمنا الغزلة ! 

 

في السبعينات من القرن الماضي، ظهر للبسطاء أن الجزائر الثائرة تدور في حلقة مفرغة، حتى ضمن "الثوروات الكثيرة" التي كان النظام "يصنعها" تحت مسميات "ثورة زراعية" و"اقتصادية" لم تخرج الشعب من عنق الزجاجة، كان ثمة دائما تلك الفئة المنسية التي تتكاثر كل يوم أكثر، حتى المجاهدين أنفسهم الذين حملوا السلاح، أبعدوا عن الساحة، وتركوا في قراهم النائية يتم ذكرهم فقط في المناسبات، ليعرضوا على شاشة التلفزيون لأجل سرد الحكاية نفسها عن الثورة، هم الذين وجدوا أنفسهم بعد الاستقلال مهمشين، وبعيدين جدا عن منطقة القرار مع أنهم كانوا أحق بالسلطة من غيرهم، على الأقل لشرفهم وقيمهم العميقة التي يؤمنون بها في جزائر أرادوها عربية ومسلمة، وأرادها النظام مفرنسة بطريقة أو بأخرى ! كان ضمن هذه الاسقاطات الرهيبة تزداد رقعة الفقراء، ويزداد تهميشهم أمام نخب جديدة، تنمو كالطحالب، بعضها يرث الثروة، وبعضها يصل إليها بالطرق الملتوية التي يمارسها النظام نفسه، على حساب شعب وجد نفسه فجأة مفعول به، إلى أبعد ما يكون الأمر لجريمة غير مغتفرة ضد الملايين من الجزائريين الذين وجد شبابهم نفسه في طريق مسدود، لا عمل ولا أمل، ولا مستقبل خارج نفس الخطاب الشوفيني الذي يتكلم عن "الجزائر الثائرة"، الجزائر التي سرقوها من الشعب قبل أكثر من خمسين سنة !

 

 

العزة والكرامة !

لقد ارتبط هذا الشعار بالرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة. خطاب جديد بلغة حماسية مشروخة، للحديث عن نفس الجزائر التي يعرفها شعبها جيدا. جزائر يديرها حفنة من المرتزقة ومن اللصوص ومن الغيلان، يحكمون من خلالها شعب ينظر إلى نفسه في مرآة واقعه اليومي، داخل مجتمع ينخره الفقر والبطالة والجريمة واللاقيم.. الكثير من قطاعات الدولة شبه معطلة، ينخرها الفساد والمحسوبية والرشوة. لأجل استخراج شهادة ميلاد بائسة، يقضي المواطن نصف يومه في البلدية، منتظرا أن يخرج بشهادة تمنح في دولة محترمة في دقيقتين. الأمراض البدائية عادت لتعصف بحياة الفقراء، في غياب مستشفيات أغلبها لا يصلح لعلاج الحمير، أمام وضع مزري لقطاع التربية العاجز عن مواجهة النزيف الحاد في التسرب المدرسي لتلاميذ في ربيع العمر يجدون أنفسهم في الشارع، لأجل أن يكبروا على الفراغ والهامش ! في الجهة الأخرى، النخبة الناهبة لا تعترف بهذه المشاكل الكبيرة المتعبة والمزمنة، ترى فيها "مبالغة"، كيف لا ورئيس الحكومة أحمد أويحيى يتفنن أحيانا في السخرية من مشاكل الشعب عبر التقليل من أهميتها، ومن ثقلها على كاهل البسطاء. الجزائر التي يسكنها الغليلان شوارعها جميلة، يقابلها البحر في العادة، والطرقات المعبدة الواسعة البعيدة عن أنين الفقراء والموجوعين. لا علاقة للنخبة بالبقية، بل ويتم القول أن مشاكل الناس غير حقيقية، بل و"مؤامرة" لإسقاط النظام، وكأن الناس بحاجة إلى الأيادي الخارجية لترسم لهم خارطة أوجاعهم اليومية التي امتدت في باطهنا من الاستقلال إلى يومنا هذا، لأن الجزائري لم يكن بخير في ظل هذه النخبة الفاسدة التي أورثت الفساد لبعضها البعض جيلا بعد جيل، بعد جيل !

 

 

هل الثورة خطيرة إلى هذا الحد؟

كيف يمكن التغيير في نظام يستسهل هذا النوع من الرداءة إلى هذا الحد؟ في الاحتفالات الأخيرة بخمسينية الاستقلال، غاب الأهم، غابت القراءة الحقيقية والمتأنية لواقع بلد يعيش في الحقيقة أزمة خانقة، ازمة حوار، وأزمة في الرؤية إزاء ما يتوجب أن يكون عليه الغد بإذن الله. غابت المحاسبة الذاتية والاعتراف الحتمي بالأخطاء، ولم تتجسد الاحتفالية سوى في الأضواء النارية التي دفعوا ثمنها من جيوب الشعب، لتنفجر في سماء الجزائر وتسقط في البحر، كما تجسدت في الهرج والمرج والغناء حتى الصباح ! لقد لخصوا سنوات الاستقلال في الحفلات فقط، في مطربين دفع لهم بالعملة الصعبة من جيوب الفقراء، تحت مسمى "ارفع رأسك أنت جزائري" !! فكيف يمكن للجزائري أن يرفع رأسه وكل هذه الهموم تثقل كاهله؟ كيف يرفع رأسه وهو يرى بأم العين كيف يتم تبذير أمواله وثرواته دون وجه حق؟ كيف يرفع رأسه وهو يسمع أن بعض دول الاتحاد الأوروبي "تأخذ" من خزينة البلد لسد عجزها المالي والشعب يعيش على الهامش؟ كيف يرفع رأسه ومطربة كاسية عارية تأخذ مليار سنتيم في ليلة غناء سافرة على عينك يا شعب ! كيف يرفع رأسه وهو يرى نفسه منقوص المواطنة والكرامة، لأنه لا يملك حقوقه كاملة أمام نخبة ترى نفسها فوق القانون؟ كيف يرفع رأسه والأمراض البدائية تنخر بيته وأهله ولا يجد حتى سريرا في مستشفى يُعالج فيه؟ كيف يرفع رأسه هو المحكوم عليه بالبؤس، عليه أن يكتفي بالثورة التحريرية التي أعلنها الرجال الشرفاء قبل خمسين سنة، ويسرق الجبناء تاريخهم ومكانهم وآمالهم كلها ! فهل الثورة مستحيلة إلى هذا الحد؟ هل هي كارثية إلى هذا الحد؟ الذين يتكلمون عن "المؤامرة" هم أنفسهم الذين نسجوها طوال سنوات من النهب السلب، والتآمر على قفا الشعب، لأن الوضع الذي يعيش فيه الجزائري البسيط يرسم أمامه مليون ونصف مليون سبب ليثور، دون الحاجة إلى ريموت كونترول يحدد له مسار غضبه إن غضب، أو مجال ثورته إن ثار ! فالجزائر ليست مزرعة أحد، هي للجزائريين كلهم، وليس من الحق في شيء أن ينهبها حفنة من اللصوص، تاركين الشعب لمصيره على المحك، يردد ببغائية تلك الشعارات الجوفاء، هذا لأن المنطق الوحيد الذي يظل هو الذي يتذكره الجزائريون في ذات الشعار المعلق أعلى البنايات الرسمية بأن "الثورة من الشعب وإلى الشعب" ولهذا على الثورة أن تعود إلى الشعب من جديد !