حلول مبتكرة لمشكلة قديمة تعاني منها أمة " اقرأ "
18 شعبان 1433
يحيى البوليني

لم يكن من العجب والدهشة فقط , بل كان من الألم والحسرة أن تكون الأمة التي نزلت أول آيات كتابها تحمل الأمر الإلهي " اقرأ " ونزلت ثانية سورها تحمل اسم القلم , فمن الألم أنها تعاني للآن من اتصاف نسبة كبيرة جدا من أبنائها بالأمية وعدم القدرة على القراءة والكتابة مطلقا , فهل يعقل أن تخرج إحصاءات دولية عن نسب الأمية فنجد أنفسنا في ذيل الأمم ؟! .

 

فتقول إحصائيات الإيسيسكو ( المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة ) التي تتطابق  مع إحصائيات اليونسكو  : " إن نسبة الأمية في دول العالم الإسلامي السبع والخمسين تتراوح بين 70 %  في وسط الذكور، و85 % في وسط الإناث " .

 

وحتى على مستوى المتعلمين تعاني الأمة الإسلامية أيضا من حالة شديدة من ضعف الثقافة المتكونة عن طريق القراءة , إذ تراجعت فيها نسب القراءة على مستوى الكبار والصغار الذين حولوا وجهة ثقافتهم إلى الثقافة المسموعة والمرئية التي لا تنتقي شيئا مما يرد عليها من الغث الكثير مع نسبة ضئيلة من السمين

 

وفي أواخر إحصائيات منظمة التربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) والتي تعلقت بقياس ارتباط الأمم بالقراءة أظهرت " إن متوسط قراءة الطفل في العالم العربي لا يتجاوز 6 دقائق في السنة خارج المنهج الدراسي , و يقرأ كل 20 عربياً كتاباً واحداً بينما يقرأ كل بريطاني 7 كتب أي ما يعادل ما يقرأه 140 عربياً ويقرأ كل أمريكي 11 كتاباً أي ما يعادل ما يقرأه 220 عربياَ " بينما بينت نفس الإحصاءات السبب في ذلك إذ أظهرت أن " معدل ما يقضيه الطفل العربي أمام التلفاز أعلى مما هو عليه الطفل الأمريكي والأوروبي " .

 

ولهذا كما يقول الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري المدير العام لمنظمة " إيسيسكو " في مقال له " إن الأمية في العالم الإسلامي تشكل قضية أمن قومي ووطني بالمفهوم الشامل، الذي يتعلق بالمصالح العليا للوطن وللأمّة، يقتضينا أن نتعامل مع هذه القضية بأكبر قدر من الجدية والإحساس العميق بالمسؤولية  "

 

ولمقاومة هذه الإحصائيات المفزعة لابد وأن تكون هناك مع النية الخالصة الإرادة القوية لإنهاء هذا الوضع المشين للأمة الإسلامية , لابد وأن توضع حلول مبتكرة غير تقليدية لان الحلول التقليدية لم تفلح في إنهاء تلك الأزمة التي تتزايد نتيجة إهمالها .

 

حل مبتكر من النبي صلى الله عليه وسلم لقضية الأمية

 ولعل أول من لفت انتباهنا لضرورة وضع حلول مبتكرة غير تقليدية لحل تلك المشكلة هو النبي الكريم صلى الله عليه وسلم , إذا احتلت قضية محو الأمية مكانتها الهامة في ترتيب أولوياته صلى الله عليه وسلم , بل قدمها كقضية تحتاج للحل على تملك الأمة للمال الذي يفترض بان يكون أهم العوامل لتسلح دولة ناشئة تحيط بها العديد من المؤامرات الداخلية والخارجية , فالمال يفنى ولكن العلم يبقى بإذن الله وهو الذخيرة التي تدخر لأجيال مقبلة ولا ينتقص منها .

 

فقد جاء في مسند الإمام أحمد عن ابن عباس وحسنه شعيب الأرناؤوط أنه : " كان ناس من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة " , بل دلت الشواهد والآثار كذلك على أن زيدا بن ثابت رضي الله عنه كان ممن تعلموا القراءة والكتابة على يد أسارى بدر  .

 

فلماذا لا توجه طاقات كثيرة للتوجه لمثل هذا المشروع الكبير استفادة من الهدي النبوي الكريم  ؟

 

التعامل الإسلامي مع قضية الرق نموذجا

عانى العالم قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم من مشكلة الرق قرونا عديدة , ولم يستطع نظام أن يخفف من آثاره أو يلغيه لاصطدام كل الحلول مع الحقوق الأخرى , والنظام الوحيد الذي استطاع أن يحد من ظاهرة الرق وأن ينهيها تماما دون وجود خلل في منظومة الحياة هو النظام الإسلامي , بل أستطيع أن أقول : إن تعامل الإسلام مع قضية الرق يمكن أن يكون نبراسا مضيئا لإخراج الناس من ربقة الجهل والأمية , فكلنا ندرك جميعا أن الإسلام قد ضيق مداخل الرق والأسباب المؤدية له , وفي نفس الوقت وسع مخارج الرقيق من العبودية ويسر لهم السبل وجعله كفارة للعديد من الأخطاء والذنوب ليضمن في كل يوم خروجا لعدد من ربقة الرق إلى فضاء الحرية , وذلك في بحث فقهي طويل له شواهده التي يمكن الاستفادة بها في مشروع محو أمية العرب والمسلمين .

 

حلول مبتكرة ومقترحة

توجد حلول كثيرة ومبتكرة لمحاولة علاج تلك المعضلة الكبرى استفادة من المنهج الإسلامي والهدي النبوي في الرق , وبكل تأكيد سوف تضاف لها المزيد من الاقتراحات عندما توجد لها النية المخلصة والإرادة القوية لتتحول لمشروع قومي .

 

-       محاربة التسرب الدراسي بإلزام كل من بلغ السن الدراسي بالانتظام في مدرسة مع تخفيف الأعباء الدراسية عن كاهل الأسر حتى لا يكون التسرب نتيجة لثقل الأعباء المادية على الأسر

 

-       يمكن إلزام كل طالب جامعي لكي ينال شهادته الجامعية أن يتكفل بتعليم ثلاثة من جنسه – ذكورا للبنين أو إناثا للبنات - القراءة والكتابة على أن يظل هذا المطلب أثناء سني حياته الدراسية كمشروع لتخرجه يؤديه في أي وقت منه ولا ينال شهادة تخرجه إلا بعد أدائه .

 

-       يمكن الاستعاضة عن بعض الغرامات المالية بعد تكرار بعض الأخطاء مثل أخطاء قيادة السيارة في أن العقوبة لا ترفع ولا يتسلم رخصة قيادته إلا بعد أن يعلم شخصا القراءة والكتابة .

 

-       يمكن أن يشترط لتعامل أي مؤسسة مع الدولة – كمسوغ أساسي من متطلبات حصولها على الترخيص وخاصة في مجالات المشروعات الكبيرة أن تنشئ مدرسة لمحو الأمية على أن يطلب منها تعليم عدد معين القراءة والكتابة – تتناسب طرديا بحسب قدرة كل مشروع - وتتكفل بإرسال أسماء من محت أميتهم كل عام لكي يتم التجديد لتراخيصها .

 

-       يمكن أن تستفيد دول كثيرة من العمالة الخارجية المتوفرة لديها , وخاصة العمالة العربية كشرط استكمال أوراق الاستقدام أو كشرط استمرار في التعاقد أن يكون مسوغا من مسوغاته تعليم شخص القراءة والكتابة كشرط مطلوب منه بعد فترة من وجوده , ويمكن أن يكون تعليم شخص أو عدد من الأشخاص القراءة والكتابة مرحلة قبل الأخيرة يعفى بها من عقوبة إنهاء عقده عند وقوع أي خطأ منه .

 

-       ويمكن أن تستفيد بها الدول التي بها عمالة تخرج للخارج إذ يشترط لكي ينال خاتم الخروج من بلده أن يعلم شخصا القراءة والكتابة ويمكن أيضا أن توضع كشرط لتجديد خروجه وتعاقده بدلا من الرسوم المالية المجحفة أحيانا ولا تعتبر ذات مردود كبير على المجتمع .

 

-       يمكن أن توضع كشرط من شروط أي تعاقد الدولة مع الموظفين من أبناء البلد أن لا يسمح لهم بالعمل قبل تعليم شخص أو عدة أشخاص القراءة والكتابة , ويمكن أيضا أن يكون ذلك شرطا من شروط الترقي في المناصب .

-       يمكن أن يطلب من المعفين من التجنيد الإجباري والنساء الذين لا يقومون بخدمة جندية أن يكون هذا هو واجبهم الوطني الذي يجب أن يؤدوه لخدمة وطنهم بان يقوموا بتعليم عدد معين من الأميين القراءة والكتابة كشرط لازم لسلوكهم سبل العمل الداخلي أو الخارجي .

 

-       يمكن إنشاء مدارس خاصة وأهلية معتمدة ومراقبة من الحكومة لتعليم الأميين القراءة والكتابة على أن تصدر صكوكا – صكوك الاضاحي نموذجا - لمن لا يستطيع أن يقوم بنفسه من الفئات السابقة بتعليم القراءة والكتابة , وذلك بأن يثبت أنه أدى صكا مشفوعا باسم الشخص الذي تكفل به , على أن تكون هناك قاعدة بيانات تجميعية لمن تحرروا من ربقة عبودية الجهل والأمية لمنع التكرار والعبث والتلاعب , مع وجود قواعد صارمة على أداء تلك المدارس الأهلية لأداء عملها وتقييم نتائجها ونتاجها . 

 

-       يمكن أن تجيز القوات المسلحة التي تلزم المجندين الغير متعلمين بمدة خدمة إلزامية أطول عن المتعلمين – مصر مثالا تلزم غير المتعلمين بخدمة ثلاث سنوات وتلزم المتعلمين بخدمة سنتين فقط كتعليم متوسط وسنة واحدة للتعليم العالي – بأن تفتح لهم باب التعلم الداخلي أو الخارجي في الأجازات وتسمح لهم بتخفيض المدة الإلزامية أن استطاعوا التعلم خلال مدة خدمتهم .

 

-       يمكن أن تساهم الدولة في تخفيض العديد من الرسوم التي يحتاجها الناس في تعاملاتهم مع الدولة أو استبدالها كتراخيص البناء وغيرها بالاستعاضة عنها بتعليم عدد من الأميين القراءة والكتابة وهناك الكثير من مرافق الدولة التي يمكن الاستعانة بها في ذلك  .

 

لاشك أن هناك من الأفكار الكثير التي تحتاج لتقنينها ووضع ضوابط لها لعدم التلاعب بها ولكي تكون هدفا قوميا لمدة معلومة نعلن بعدها أن بلادنا قد خلت من الأمية وان أمة اقرأ صارت الآن تقرأ    

 

ومن أكثر الملاحظات جذبا للانتباه أن أول من تأسى بموقف النبي صلى الله عليه وسلم في محاربة الأمية ورفع الثقافة – سواء علموا ذلك أم لم يعلموه – هي الحكومة البرازيلية التي ابتكرت ذلك المشروع لرفع مستوى الثقافة وتغيير المجتمع للأفضل .

 

فتقدمت الحكومة البرازيلية بإطلاق مشروع أطلق عليه " مشروع الخلاص بالقراءة " , وينص على أن قراءة السجين لكل كتاب جديد يعفيه من قضاء أربعة أيام من فترة عقوبته بإجمالي 48 يوما في العام بعد قراءة 12 كتابا , ويتم التأكد من قراءته للكتاب بكتابته لمقال يلخص فيه الكتاب الذي قرأه .

 

ولنا أن نتخيل أن مدى تأثير قراءة السجناء للكتب النافعة على حياتهم تصوراتهم وأفكارهم بعد الخروج للمجتمع ومدى استفادة المجتمع من ذلك التغيير .