والعاقبة للمتقين
1 شعبان 1433
د. محمد العبدة

من السنن الكونية التي لا تتبدل ولا تتحول، والتي تكرر ذكرها في القران الكريم قوله تعالى تعقيبا على قصته فرعون مع موسى عليه السلام (تلك الدار الاخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا، والعاقبة للمتقين) [القصص/83] وقوله تعالى بعد ذكر قصة نوح عليه السلام مع قومه (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك، ما كنت تعلمها أنت ولا قومك، فاصبر إن العاقبة للمتقين) [هود/49]

هذه سنة من سنن الله تعالى (العاقبة للمتقين) ولكن من هم المتقون الذين تنطبق عليهم هذه السنة؟ يقول الشيخ رشيد رضا معقبا على هذه الآيه" أي الذين يتقون اسباب الضعف والخذلان والهلاك، كاليأس من روح الله والتنازع ، والفساد في الارض والظلم، ويتلبسون بضدها وبسائر ما تقوى به الامم في الاخلاق والأعمال واعلاها الاستعانة بالله والصبر على المكاره مهما عظمت" (1)

 

لن يفهم حركة التاريخ وما يصيب أهل الحق من ابتلاء ثم تكون لهم العاقبة، وما يصيب أهل الشر من المحق والإذلال ولو بعد حين، لن يفهمها من يجهل هذه السنة، ولا تسقط الامم ويمحى اسمها من التاريخ الا بعد نكوبها عن تلك السنن التي سنها الله سبحانه لحكمة بالغة.
وقد تكرر ذكر نصر الله للحق والمحقين والانبياء والمرسلين، وان العاقبة لهم، بعد الابتلاء والصبر (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين انهم لهم المنصورون وأن جندنا لهم الغالبون) وقال تعالى (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي) وجاء في الحديث ( وكذلك الأنبياء تبتلى ثم تكون لهم العاقبة) هذه السنة يجب أن يتعقلها المسلمون لأن ضعاف العقول يتعلقون بالظاهر الحاضر دون وعي لمصير تلك المظاهر ودون وعي لمآلاتها أخيرا.

إن عامة الناس تعرف مصير الأمور بعد فوات الأوان، فقوم قارون تمنوا مكانه بالأمس ثم ندموا على هذا الفعل بعد هلاكه، وفي واقع الحياة وواقع التاريخ فإنه ما من عمل أو فكرة مرذولة إلا وتنال عقابها أو زوالها إن آجلا أو عاجلا، ولا توجد هزائم غير مستحقة لأنها السنن العادلة التي لا تظلم أحدا، ((وقد يستطيع الخونة الإساءة إلى غيرهم ردحا من الزمن غير أن القضاء الحكيم يتربص بهم)) (2) وكما يقول الحكماء: "تستطيع أن تخدع بعض الناس بعض الوقت وتستطيع أن تخدع كل الناس بعض الوقت ولكنك لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت"

 

وحتى يعتبر الناس بهذه السنة أبقى الله سبحانه وتعالى عقوبات الظالمين المشركين آثارا يراها الناس كلما مروا عليها ولعلها تكون عبرة لهم (وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم)
إنها سنة أيضا أن عاقبة المكذبين المجرمين الهلاك والدمار (قد خلت من قبلكم سنن، فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) وقال تعالى (ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة الأولين)
وقال: (إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون) إنه مشهد لقرية أسلمها الفسق إلى الخراب، والقرآن يعرض هذا المشهد ليقدم نموذجا عن المصير الذي ينتظر من يفسق عن أمر ربه.

 

ومن العبر الواضحة المعروفة في تاريخنا ان الذين شاركوا في قتل سيدنا عثمان بن عفان (رضي الله عنه) انتقم الله منهم في الدنيا من امثال: جهجاه بن سعيد الغفاري وحرقوص بن زهير السعدي وحكيم بن جبلة العبدي وعمير بن ضابئ وكنانة بن بشر، وأما قتلة الحسين رضي الله عنه فقد سلط الله عليهم المختار بن أبي عبيد الثقفي حيث تتبعهم في دورهم في الكوفة وهدم عليهم بيوتهم أو قتلهم. وفي الأندلس حدث أن قام العلماء والعامة بثورة على الحكم الربضي وفشلت هذه الثورة مما جعل الحكم ينتقم منهم ويقتل الكثير ويشرد الباقي خارج الأندلس ، كان ذلك عام ( 202 ) للهجرة ، يقول المؤرخون : " ولم ينل الحكم بعد وقعة الربض حلاوة العيش وامتحن بعلة طاولته أربعة أعوام واحتجب فيها آخر مدته " ( 2 ) وتطول قائمة الحكام الظلمة المستبدين وكيف أهلكهم الله وأكبهم على وجوههم وكيف عاشوا مشردين بعد أن أزيحوا عن كراسيهم ، وما قصة الضباط الذين شاركوا في تعذيب الإسىلاميين في مصر في عهد عبد الناصر ببعيدة ،لقد كانت نهايتهم إما قتلا أو دخولا للسجون التي كانوا يعذبون الناس فيها .

 

إن ماوقع أخيرا من نهاية للحكام الظلمة الذين حكموا بعض البلاد العربية بالقهر والسجون وتبديد الثروات ومحاربة العلماء والدعاة هو عبرة لمن يعتبر ، كان بإمكان رئيس مصر أن يعلن انسحابه استجابة لرغبة الشعب وسيسجل له هذا الموقف ولكنه الخذلان وسنن الله في الإحاطة بالظالمين فلا يقدرون على الأفعال الحسنة عقوبة لهم على تصرفاتهم وما اكتسبوا من الإثم ، وكان بإمكان الشيخ القابع في دمشق وأمثاله الذين يؤيدون النظام السوري في إجرامه وقتله للمسلمين ، كان بإمكانهم أن يجلسوا في بيوتهم ويبتعدوا عن الفتنة ولكنه الخذلان للذين يكنون الحقد للحركات الإسلامية التي تتبع المنهج السليم ولعقيدة أهل السنة . وإذا عدنا إلى الوراء ، إلى التاريخ مرة ثانية فإنه كان بإمكان قريش أن ترجع ولاتصل إلى بدر وتصطدم مع المسلمين وتسلم مما وقع لها من هزيمة في المعركة الفاصلة ولكنه المصير الذي يريده الله سبحانه وتعالى للجاهلية المتكبرة .
إنه الإنسان الذي يخفي قصور ذكائه بما يزعمه من إحاطة علمه ، ولكنه في الحقيقة جاهل بسنن الله المقروءة والمشهودة في التاريخ  .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-    تفسير المنار 9/578
2-    الحلة السيراء لابن الأبار 1/46