الصداقة بين العلماء
29 جمادى الأول 1433
سعد العثمان

إنَّ وظيفة العلم أشرف الأعمال قدراً، وأسماها منزلةً، وأرحبها أُفقاً، وأثقلها تبعةً، وأوثقها عهداً، وأعظمها عند الله أجراً.
وإنَّ العلماء هم ورثة الأنبياء، الآخذون بأهمِّ تكاليف النُّبوَّة، وهي الدَّعوة إلى الله، وتوجيه خلقه إليه، وتزكيتهم بالعلم، وترويضهم على الحقِّ؛ حتَّى يفهموه، ويقبلوه، ويعملوا به، ويعملوا له.
وإنَّ الصَّداقة لعاطفةٌ ساميةُ القدر، غزيرة الفائدة، لذيذة المطعم.

 

وإنَّ الحديث عنها لحلوٌ، عذب، شائق، رائق، كيف لا، والشَّارع الحكيم قد قرَّر هذا المعنى، وأرسى دعائمه، ورغب فيه؟!.
ألا ترونه كيف يقرِّر أنَّ الأرواح جنود مجنَّدة، ويُرَغِّب في أن تكون المعاملة بين المسلمين قائمة على هذا الأساس؟!.
ألا ترونه كيف أمر المسلم أن يحبَّ لأخيه ما يحبُّه لنفسه؟! بل استُحبَّ للمسلم أن يؤثر أخاه المسلم، وإن كان به خصَّاصة، وذلك أقصى ما يفعله الصَّديق مع صديقه.

 

ولئن كانت الصَّداقة عذبة سائغة في أصلها، فهي بين أهل العلم والإيمان أعذب مشرباً، وألذُّ مساغاً، وأجمل وأنبل معنى؛ إذ هي مؤسَّسة على التَّقوى، ومبنيَّة على طلب السَّلامة في العقبى؛ فليست لمنفعة، أو لذَّة، وإنَّما هي لفضيلة، باعثُها اعتقادُ كلٍّ من الشَّخصَين أنَّ صاحبه على جانب من كمال النَّفس؛ فلذلك هي أحرى بالدَّوام، قال الله تعالى: ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ﴾التوبة: 109. ثمَّ إنَّ أهل العلم أوثق مودَّة من جهة أنَّهم أعلم بالله، وأتقاهم له. والله عزَّ وجلَّ يقول: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً ﴾ مريم: 96. 

 

ولأنَّهم أعرف النَّاس بأقدار بعضهم لبعض، وإنَّما يعرف الفضل من النَّاس ذووه.
ولأنَّهم يعلمون أنَّ الصَّداقة الحقَّة المؤسَّسة على البرِّ والتَّقوى تؤتي أكلها كلَّ حين بإذن ربِّها؛ فلا تنتهي بالموت، أو بنهاية هذه الدُّنيا، بل هي باقية تنفع أهلها يوم لا ينفع مال ولا بنون. أليس من محكمات القرآن أنَّ: ﴿الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ﴾ الزُّخرف: 67. وأنَّ من حسرة الكافرين قولهم: ﴿ فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾ الشُّعراء: 101. أليس من السَّبعة الذين يظلهم الله في ظلِّه يوم لا ظل إلا ظلُّه، رجلان تحابَّا في الله، اجتمعا عليه، وتفرَّقا عليه؟!.

 

ولقد شاع عند بعض النَّاس مسألة تحاسد العلماء، وتغاير الأقران، وأُلِّفت في ذلك كتب، حتَّى خُيِّل لبعضهم أنَّ ذلك هو دأب أهل العلم في كلِّ عصر ومصر، وعَدُّوا ذلك قضاء مبرماً لا محيد عنه، وتملَّكهم خاطر اليأس من أن يجدوا صداقة حقَّة، ومودَّة حميمة بين أهل العلم. ولكنَّ النَّاظر في التَّاريخ، وسير العلماء يرى أنَّ الأمر أهون من ذلك؛ إذ إنَّ هناك جوانبَ مشرقةً في صداقات العلماء، ومودَّاتهم، ووفائهم، واعترافِ بعضهم لبعض بالفضل، سواء كانوا أقراناً، أو أنَّ بعضهم تلميذٌ لبعض. ولا ينكر أن يوجد بين بعض العلماء شيء من التَّحاسد، والتَّغاير إلا أنَّ ذلك قد يُبالغ فيه، ويجمع بعضه إلى بعض؛ فيُظنُّ أنَّه كثير.

 

وقد يقول عالمٌ في حقِّ عالمٍ آخر كلمة يسيرة، لا تستدعي سوى غض الطَّرف والتَّغافل عنها، فتتلقاها الركبان، ويسير بها من يسير بحسن نيَّة، أو فساد طويَّة، فَتُخْتَلَقُ عداوةٌ ليس لها من أساس. وربَّما كان للسِّعاية، وقاَلَة السُّوء نصيبٌ غير منقوص في هذا الجانب. وقد يكون هناك جفوة بين عالم وآخر؛ فتجد من يوريها؛ فينشأ عن ذلك فساد عريض. وقد تكون الجفوة في فترة ما، وتعود الألفةُ، دون أن يعلم بها كثير من النَّاس، فيظنُّوا أنَّ الجفوة باقية. وربما كان الأمر مجرَّدَ رأيٍ يُطرح، أو فهماً يفهمه العالم؛ فيخالفه في ذلك الرَّأي، أو الفهم عالم آخر؛ فيرى من لا يَقْدُر الخلاف قدره أنَّ ذلك حسد، وبغي، وعدوان. وربَّما وقر في النَّفس شيء من الجفاء، ولكن سرعان ما يزول عند اللِّقاء، وعند المصلحة العامَّة، خصوصاً إذا كان ذلك بين من ينظرون في العواقب، ويقدِّمون مصالح الأمَّة على أهواء النُّفوس؛ ومن هنا يظنُّ بعض النَّاس أنَّ الجفاء باقٍ، وأنَّ الألفة بعيدة أو مستحيلة. وليس المقصود من كتابة هذه الكلمات نفيَ وجود التَّحاسد، والتَّغاير، والبغي والعدوان بين أهل العلم؛ فما هم إلا بشر، وما كان لبشر أن يخلو من النَّقائص والعيوب.

 

وإنَّما المقصود من ذلك أن يتبيَّن أنَّ أهل العلم والإيمان أقلُّ النَّاس عيوباً، وأنَّهم أقرب النَّاس إلى التَّقوى. وإذا وجد عندهم شيء من النَّقائص والعيوب، فعند غيرهم من أرباب الوجاهة، والتِّجارة، والرِّياسة أضعاف ما عند أهل العلم. والمقصود من ذلك أيضاً إيضاح الجانب المشرق من سير العلماء، ألا وهو جانب الصَّداقة، والمحبَّة، والوفاء، وما يدور في هذا الفلك؛ حتَّى يعلم هذا الجيل الذي يقوم العلماء المصلحون، والمربُّون النَّاصحون على رعايته وتربيته، أنَّ في الدُّنيا بقايا من الوفاء والمحبَّة، تتماسك بها أجزاء هذا الكون الإنسانيِّ، وأنَّه لولا هذه البقايا التي يسخرها الله عزَّ وجلَّ لانحدر الإنسان إلى حيوانيَّة عارمة، كالتي بدت آثارها في الأمم التي جفت نفوسها من الوفاء والمحبَّة؛ فخلت من الإحسان والرَّحمة؛ فهوت بها المطامع إلى ما يراه الرَّائي، ويسمعه السَّامع. وما أحوجنا في هذا العصر  إلى تلك المعاني السَّامية التي تعيد السَّكينة إلى النُّفوس، وتزرع الطَّمأنينة في القلوب. وما أحرانا أن نقدِّر أهل العلم، ونسعى إلى جمع الكلمة، وتآلف القلوب، ولمِّ الشَّعَث، والبعد عن إيغار الصُّدور، وإثارة الكوامن؛ فهذا ما استثار الهمَّة، وأخذ برأس القلم يجرُّه إلى الكتابة في هذا الشَّأن. ولا ريب أنَّ الحديث في هذا الباب ذو شجون؛ فَسِير العلماء من الصَّحابة، ومن بعدهم من التَّابعين، ومن تبعهم بإحسان حافلة بمعاني الصَّداقة، والأخوَّة الحقَّة. ولا يخفى على كثير من طلبة العلم، ما كان بين الصَّحابة من المودَّة، والوفاء, والأخوَّة الصَّادقة، والاعتراف بالفضل. وكذلك الحال بالنسبة لمن جاء بعدهم من التَّابعين، ومن تبعهم بإحسان؛ فالذي كان بينهم من الودِّ والإخاء أشهر من أن يذكر، كالذي بين ابن المبارك، والفضيل، وسفيان الثَّوري. وكالذي كان بين أبي حنيفة وتلميذه أبي يوسف، وكالذي كان بين مالك والشَّافعي، وبين الشَّافعي وأحمد، وأحمد وتلاميذه، وكالذي كان بين البخاري ومسلم، وغيرهم رحمهم الله. ولقائل أن يقول: ﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ﴾ البقرة: 141. فأنَّى لنا بمثل أولئك.
لا تعرضنَّ بذكرهم مع ذكرنا          ليس الصَّحيح إذا مشى كالمقعد

 

 فتلك المعاني الجميلة قد ذهبت مع أولئك الرِّجال.
ويقال لمن قال ذلك: لا ريب أنَّ أولئك قد نالوا القِدْح المعلى، والنَّصيب الأوفى من تلك المكارم، ولكن الخير باقٍ في هذه الأمَّة، ولا تزال تلك المعاني تُبعث بين الفينة والأخرى، ولا يزال الله يغرس لهذا الدِّين غرساً، يتولاهم برعايته، ويصنعهم على عينه؛ ففي عصورنا المتأخِّرة صور كثيرة مؤكِّدة لهذه المعاني العظيمة. وما من شكٍّ أنَّ لتلك الصَّداقات أثراً بالغاً في تقوية الرَّابطة العلميَّة، وتآزر أهلها، واتِّحاد كلمتهم، وعدم التَّجرؤ على الوقيعة فيهم، والإيضاع خلالهم.

 

وأختم حديثي بالحديث عن صداقة الإمامَين الشَّافعي وأحمد، فقد كان الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في العراق، والشَّافعي رحمه الله في مصر، وكانا يتبادلان الزِّيارة فيما بينهما، مع بُعْد المسافة، ومشقَّة الطَّريق، قدم الإمام أحمد رحمه الله إلى مصر، بقصد زيارة الإمام الشَّافعي، فوصل إلى مصر بعد المغرب، فكره أن يطرق باب بيت الإمام الشَّافعي بليل، فرغب أن يبيت في مسجد من مساجد القاهرة الواقعة على أطرافها، فصلَّى المغرب، وجلس منتظراً أذان صلاة العشاء كي يصلِّي صلاة العشاء، وبعد أن انتهى من صلاة العشاء، بدأ بصلاة النَّافلة ويتمهَّل في صلاته، فهو ناوٍ الاعتكاف والمبيت في المسجد، ولكن فاجأه خادم المسجد يأمره أن يخرج خارج المسجد كي يغلق أبواب المسجد، والخادم لا يعرفه، وخاف الإمام العجب بنفسه لو عرَّفه بنفسه، فخرج من حرم المسجد، وجلس في فناء المسجد، وعندما خرج الخادم إلى الفناء وجد الإمام أحمد فيه، فقال له: يا هذا! أما تفهم، أما تفقه، أما قلت لك: أخرج خارج المسجد، ثم أمسك الخادم برجل أحمد بن حنبل، وجعل يجره خارج المسجد، فرآهما خباز وهو في مخبزه القريب من المسجد، فنادى على الخادم: يا هذا!. مالك ولهذا؟. دعه أنا أبيِّته في دكاني، وأخذ الإمام أحمد إلى دكانه، ولم يعرفهم الإمام أحمد بنفسه، خوف العجب، وعندما استقرَّ في دكان الخبَّاز، شرع الخباز بعمله، وهو يمارس عمله، لا يفتأ من قول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، حتَّى لفت نظر الإمام أحمد، فسأله الإمام أحمد، منذ متى وأنت مقيم على لزوم الذكر بهذه الطَّريقة، قال الخبَّاز: منذ عشرين سنة، منذ أن امتهنت مهنة الخبز، قال له الإمام: وما النَّتيجة التي حصلت عليها من دوامك على الذكر ؟. قال الخبَّاز: لم أدع الله بدعوة إلا أعطانيها، إلا دعوة واحدة دعوته بها، وأنا منتظر حصولها، قال له الإمام أحمد: وما هي يرحمك الله، قال الخبَّاز: دعوته أن يريني وجه الإمام أحمد بن حنبل. قال له الإمام أحمد: وهذا أحمد بن حنبل جاءك مجروراً من قدمه. فأكبَّ الخبَّاز على رأسه وقدمه يقبِّلها، وقام يريد إغلاق باب دكانه للقيام بإكرام الإمام أحمد في البيت. فقال الإمام أحمد: أتيت من العراق إلى مصر، لزيارة الإمام الشَّافعي، ولا أبدأ بيتاً بزيارة قبل بيته. انظر إلى وفاءه لصديقه العالم الإمام.

 

ثمَّ إنَّ الإمام الشَّافعي، بعد فترة من زيارة الإمام أحمد له في مصر، اشتاق لصديقه ورفيقه في العلم، فخرج من مصر إلى العراق، يقطع الفيافي والقفار، إلى أن وصل بيت الإمام أحمد، وكان الإمام أحمد يحدِّث أهله وأولاده كثيراً عن الإمام الشَّافعي، فجعلت ابنة الإمام أحمد ترقُب الإمام الشَّافعي، بكلِّ حركاته وسكناته، فقدَّم أهل البيت للإمام طعام العشاء، فجعل الإمام الشَّافعي يأكل بشراهة، فقالت بنت الإمام أحمد: هذه واحدة، ثم طلب الإمام الشَّافعي الوضوء لصلاة العشاء، فتوضأ ثم صلَّى، وجلس طوال اللَّيل، ولم يصلِّ صلاة التَّهجد، فقالت البنت: وهذه الثَّانية، ثم خرج لصلاة الفجر ولم يتوضأ، فقالت البنت: وهذه الثَّالثة، فقالت لأبيها: يا والدي! تحدِّثنا عن الإمام الشَّافعي مادحاً مثنياً، وقد لاحظت عليه كذا وكذا. فقال لها أبوها: لأخبرنَّه بملاحظاتك الثَّلاث، ونرى ردَّه عليها. فقال الإمام الشَّافعي: أما كوني أكلت طعامك بشراهة، فقد جوَّعت نفسي ثلاثة أيام، وأنا أعلم أن طعامك حلال، فأكلته بنية الشِّفاء. وأما كوني لم أتهجد، فقد كنت أفكِّر وأدقِّق بقول النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم: ( يا أبا عمير ما فعل النُّغير )متفق عليه. فاستخرجت منه بضع عشرة مسألة، وأما كوني لم أطلب الوضوء لصلاة الفجر، فأنا ما زلت على وضوء صلاة العشاء.
الله أكبر، خلق العلماء يجري في عروقهم، ووفاء العلماء ينبع من جوانحهم، وصدق الشَّاعر حيث يقول: أولئك آبائي فجئني بمثلهم        إذا جمعتنا يا جرير المجامع
وقال الآخر: وتشبَّهوا إن لم تكونوا مثلهم       إنَّ التَّشبه بالكرام فلاح