سُنَّةٌ متروكةٌ: التَّحلُّل من المظالمِ
15 ربيع الثاني 1433
سعد العثمان

لا شكَّ أنَّ الظُّلم مرتعه وخيم، والظُّلم من أقبح المعاصي وأشدِّها عقوبة، وقد حرَّم الله جلَّ جلاله الظُّلم في كتابه الكريم، وعلى لسان نبيِّه الأمين صلَّى الله عليه وسلَّم، ومن يستعرض القرآن الكريم والسُّنَّة النَّبويَّة يقف على مئات الآيات والأحاديث التي تحدَّثت عن الظُّلم والظَّالمين، وتوعدت الظَّلمة ولعنتهم، والظَّالم الذكي الحصيف، من يسارع بطلب العفو والمغفرة ممن ظلمهم، قبل فوات الأوان، والعضِّ على الأنامل والشِّفاه، فما يزال في الدُّنيا حيٌّ يرزق،

 

ومن ظلمه قريب منه، يمكنه الوصول إليه بكلِّ سهولة، ولا يكلِّفه الأمر عنت ولا مشقَّة، فقط قليلاً من التَّنازل عن الكبرياء والعظمة، وقليلاً من التواضع والرحمة، والمستفيد الحقيقيُّ هو الظَّالم نفسه، لو فقِه وفهِم وعلِم. فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال: (من كانت عنده مظلمة لأخيه، من عرضه أو من شيء فليتحلله منه اليوم، قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه) رواه البخاري . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه) متفق عليه.

 

عدَّل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم صفوف أصحابه يوم بدر، وفي يده قدح يعدِّل به القوم، فمر بسواد بن غزيَّة حليف بني عدي بن النَّجار، وهو مستنتل من الصَّف، فطعنه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في بطنه بالقدح، وقال: (استوِ يا سوادُ بن غزية). قال: يا رسول الله، أوجعتني، وقد بعثك الله بالحقِّ، فأقدني. قال: فكشف رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن بطنه، ثمَّ قال: (استقد). قال: فاعتنقه وقبَّل بطنه. فقال: (ما حملك على هذا يا سواد؟.) فقال: يا رسول الله، حضر ما ترى فلم آمن القتل، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمسَّ جلدي جلدك. فدعا له رسول الله بخير، وقال له خيراً .

 

 وعن عائذ بن عمرو أنَّ أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال رضي الله عنهم في نفر، فقالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدوِّ الله مأخذها، قال: فقال أبو بكر رضي الله عنه: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيِّدهم، فأتى النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم فأخبره، فقال: يا أبا بكر لعلَّك أغضبتهم! لئن كنت أغضبتهم؛ لقد أغضبت ربَّك، فأتاهم أبو بكر فقال: يا إخوتاه أغضبتكم؟. قالوا: لا يغفر الله لك يا أخي.

 

أخي المسلم: تدارك نفسك فالدُّنيا تمرُّ وتزول، ويوم القيامة يوم العدل والحساب، الذي لا يُؤدِّي الحقوق في الدُّنيا فسيؤديها يوم القيامة، وفي الدُّنيا سيُؤدِّي المال مالاً، ويمكن أن يعفو غريمه ويسامح، أمَّا يوم القيامة فسيؤدي المال من حسناته. والمفترض أنَّ الإنسان يحتفظ بحسناته؛ لأنَّه لا يدري هل حسناته ستكفي بأن يدخل الجنَّة أو لا تكفي؟. وربُّنا أنعم على العبد بنعم لابد أن يشكر الله عزَّ وجلَّ عليها، يا ترى هل الأعمال التي عملها العبد تساوي شكر هذه النِّعم؟. قال صلَّى الله عليه وسلَّم: (لن يدخل أحدكم الجنَّة بعمله، إنَّما يدخل بفضل الله وبرحمته سبحانه). فنِعم ربِّنا تترى على عباده، ومهما عمل الإنسان من عمل فلن يوفِّي شكر هذه النِّعم، وأيضاً قد يظلم الغير، ولا يدري أنَّ هذا الغير قد يسامحه، أو أنَّه يأتي يوم القيامة ويقول: هذا ظلمني أريد حقِّي من فلان! قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: (من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو من شيء)، قدم العرض لأنَّه أكثر مظالم النَّاس فيه، والعرض شيء معنوي، وهو محلُّ المدح أو القدح، فعرض الإنسان كأن يقول: فلان كذاب، ففي هذه الحال طعن في عرضه. وكذلك إذا قال: فلان مفتر.. فلان يأكل الرِّشوة.. فلان ظالم.. فهو يطعن في عرض هذا الإنسان.

 

ومن ضمْن الطَّعن في العرض أن يقول: فلان زانٍ .. فلان يقذف المحصنات الغافلات.. فلان يفعل كذا.
ومن المظلمة في العرض: الغيبة والنَّميمة، بأن ينقل كلاماً من شخص لشخص، ويفسد فيما بينهما، فهذا من الطَّعن في عرض إنسان للإفساد بينهما، فهذا من ضمْن المظالم التي سيدفع ثمنها يوم القيامة. قال صلَّى الله عليه وسلَّم: (من كانت عنده مظلمة من عرض أو من شيء) فـ(شيء) هنا نكرة في سياق الشَّرط فتعمُّ، فمعناه: حتَّى لو كان شيئاً ليس له قيمة؛ فسيحاسب عليه العبد يوم القيامة. أحياناً بعض النَّاس قد يتساهل في أمر المظالم في الأشياء التَّافهة، فقد يقول لك: أعطني القلم أكتب به، فيكتب ثمَّ يضعه في جيبه، ثمَّ يقول: أنا سأبحث عن صاحبه وأعطيه، وانتهى الأمر ولم يعطه؛ لأنَّه لا يوجد أحد يتابع بعده. فهذه الأشياء التَّافهة هي من ضمْن المظالم، فأنت ما يدريك أن صاحبه موافق على أخذه، ولعلَّك تأخذ الشَّيء فيقول صاحبه بعد ذلك: لن أعطي أحداً شيئاً؛ لأنَّهم يأخذونها ولا يردُّونها،

 

وتقول للإنسان: أعطني قلمك أكتب، فيقول لك: لا تنسه وتضيَّعه مثلما عمل الذي قبلك. فأنت قد تستهين بالشَّيء وتمنع خيره غيرك، بغضِّ النَّظر عن أنَّك ستؤدِّيه يوم القيامة كما سنرى في بعض الأحاديث، قال لنا صلَّى الله عليه وسلَّم: (قبل ألا يكون دينار ولا درهم). ورأينا في حديث النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم كيف أنَّه خطب النَّاس وقال: (من كنت ظلمته في عرضه أو ماله فليستقد)، إذا كان النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول هذا الشَّيء، وهو المغفور له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر؛ فغيره أولى أن يتحلَّل من النَّاس في شيء من عرض أو مال أو في الجسد أو غير ذلك، قبل أن يؤخذ منه حسنات يوم القيامة.

 

قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (يغفر للشهيدِ كلُّ ذنبٍ إلا الدَّين)، وقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (لتؤدنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشَّاة الجلحاء من الشَّاة القرناء)، وقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (إذا خلص المؤمنون من النَّار، حبسوا على قنطرة بين الجنَّة والنَّار، فيتقاصُّون مظالم كانت بينهم في الدُّنيا). وقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم:(أتدرون من المفلس ؟.) قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. قال صلَّى الله عليه وسلَّم:(إنَّ المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة, ويأتي وقد شتم هذا, وقذف هذا, وأكل مال هذا, وسفك دم هذا, وضرب هذا, فيعطي هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته من قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثمَّ طرح في النَّار )رواه مسلم.

 

ويتحلَّلُ الإنسان من حقوق النَّاس بأحد أمرين: إمَّا بالوفاء، وإمَّا بالإبراء. أمَّا الوفاء فإذا كانت أموالاً يردُّها إلى أصحابها إن كان يعلمهم، وإن كان قد نسيهم فليتذكر، وإن كان يجهل محلَّهم فليبحث، فإذا تعذَّر العثور عليهم فليتصدق بها عنهم، ويكون لهم أجرها، وله هو أجر التَّوبة، وإن كان أصحابها قد ماتوا وخلَّفوا ورثة؛ فإنَّه يبحث عن ورثتهم، ويسلِّم إليهم المال، لأنَّ المال انتقل إلى الورثة بعد موت المورِّث، فإن جهل الورثة ولم يعلم عنهم شيئاً، ولم يتمكن من العثور عليهم، يتصدَّق به عنهم، لأنه انتقل إليهم، وإذا كان الحقُّ عرضاً، بأن يكون قد تكلَّم في عرضه وسبَّه فإنَّه يتحلَّل منه، بأن يطلب منه العفو فيقول: إنِّي أرجو أن تعفو عمَّا قلت فيك، فقد قلت كذا وكذا، فينبغي من المظلوم الذي طُلب منه العفو أن يعفو؛ فمن عفا وأصلح فأجره على الله، كما قال الله تعالى: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾النحل: 126. وقال تعالى: ﴿ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾البقرة: 237. وإن كان هذا المظلوم في عرضه،لم يصل إليه خبر، أي لم يعلم بأنَّك قد اغتبته مثلاً، فمن أهل العلم من يقول: اذهب إليه وأخبره، واطلب منه العفو، ومنهم من يقول: لا تخبره ما دام لم يعلم، ولكن استغفر له، وأثنِ عليه بالصِّفات التي هو متَّصفٌ بها وهي حميدة، في الأماكن التي اغتبته فيها؛ فإنَّ الحسنات يذهبن السَّيئات، وإن كان حقوقاً أخرى فعلى هذا الباب تذهب إليه وتستحلُّه، وإذا أحلَّك فإنَّ هذا من تمام توبتك، فإن قدَّر أنَّك قد اغتبت شخصاً قد مات، ولا تتمكَّن من الاستحلال من الغيبة، فإنَّ الله إذا علم من قلبك صدق النِّية فهو سبحانه وتعالى أكرم الأكرمين، ربَّما يتحمَّل عنك هذه المظلمة، ويأجر صاحبها ويثيبه عليها، فهو أرحم الراحمين، وأجود الأجودين.