عملاء تقدميون
12 ربيع الثاني 1433
منذر الأسعد

بعد هزيمة 1967م راجت في سوريا نكتة شعبية تحكي عن مسؤول كبير في حزب البعث السوري التقى أحد الشيوخ وسأله: لماذا نصف أنفسنا بأننا تقدميون ونصفكم بأنكم رجعيون؟ فقال الشيخ المحنك: نحن رجعيون لأننا أرجعنا الفرنسيين إلى بلادهم وأنتم تقدميون لأنكم قدمتم الاحتلال اليهودي في بلادنا نحو الشرق!! في إشارة إلى هزيمة 1967 التي قام خلالها حافظ أسد وزير دفاع البعث بتسليم هضبة الجولان إلى الصهاينة بلا قتال!!

 

انتشرت تلك الطرفة بسبب تعبيرها العميق عن محنة أمتنا على يد الخونة أدعياء التقدمية الذين لم يكتفوا بإذلال الناس ونهب الثروة العامة، وإنما أضافوا إلى قمعهم الرهيب خيانة كبرى تتمثل في التواطؤ مع العدو الخارجي ضد الأمة وعلى حساب أرضها الطاهرة.

 

والمفارقة الضخمة أن هؤلاء العملاء أجبروا الشعوب المنكوبة بهم على تزوير وعيهم فالخونة باتوا مثال الوطنية والشرف والمقاومة والممانعة.... وانطلت الثقافة المشوهة على أجيال جديدة لم تعايش هزائمهم ومخازيهم في وقتها،إلى أن أراد الحق سبحانه أن تستعيد الأمة وعيها مؤخراً وتثور على قيودها وأغلال طواغيتها..

 

قيمة كتاب (لعبة الأمم) للأمريكي مايلز كوبلاند تنبع من كونه توثيقاً دقيقاً لخيانة القوم من ناصريين وبعثيين على لسان شخص غير عادي،فكوبلاند عميل بارز في الاستخبارات المركزية الأمريكية ( CIA) في فترة شديدة الأهمية خلال الحرب الباردة بين المعسكرين الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفياتي البائد والرأسمالي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية.

 

فالرجل ليس مجرد شاهد من أهلها وإنما هو أحد الصانعين  لحلقة الجواسيس الكبار ابتداء من جمال عبد الناصر الذي كان كبيرهم الذي علمهم السحر،وانتهاء باقزام البعث في بلاد الشام والعراق.

 

علماً بأن الأمريكان بدؤوا مخططهم لتصنيع زعماء عرب عملاء لهم في سوريا عشية انتهاء الحرب العالمية الثانية وكان نجاحهم الأول في انقلاب حسني الزعيم على الرئيس المنتخب شكري القوتلي في عام1949م. وكانت التجربة البكر محدودة زمنياً لأن الغرض منها كان كذلك،فقد كانت مهمة الزعيم تمرير خط نفط التابلاين الذي رفضته الحكومات المنتخبة أكثر من مرة، وفرض قانون فرنسا المدني على الشعب السوري،وهو الأمر الذي عجز الفرنسيون عن تنفيذه على مدى ربع قرن من الزمان هي مدة احتلالهم المباشر لسوريا!!! لكن حسني الزعيم أخفق في تحقيق وعده لسادته الأمريكيين بإبرام صلح بين سوريا والكيان الصهيوني الغاصب لفلسطين المحتلة.

 

والكتاب يفصّل في قصة عبد الناصر والمحطات المتصلة به من تأميم قناة السويس وحلف بغداد والتسلح من المعسكر الشرقي والوحدة مع سوريا....ويجمل في العناوين الأخرى ذات العلاقة بالعراق وسوريا ولبنان،ربما لأهمية دور عبد الناصر في أحداث الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين الميلادي،وربما بسبب تخصص كوبلاند وحدود مهمته التي يبدو أنها كانت تكاد تنحصر في مصر بالدرجة الأولى.

 

غير أن كوبلاند ينطلق في كتابه من موقعه كغربي يمقت الإسلام في داخله ويزدري العرب بل إن نفسيته المشحونة تمنعه من الاعتراف بوجودهم كشعب إلا في نطاق جزيرة العرب باعتبارهم سلالة صغيرة الحجم متجاهلاً العمق الثقافي الذي أدخله الإسلام على العروبة في بعدها الإنساني والثقافي وليس بالدلالة العرقية التي يفضلها الغربيون في نظرتهم إلينا.

 

ولذلك يجب قراءة كتاب لعبة الأمم بشيء من التصديق الحذر للوقائع التي يرويها المؤلف بعد مقاطعتها بمصادر المعلومات المخالفة،لكن الكتاب مرفوض في رؤاه التفسيرية القائمة على التركة العنصرية التي تتسلل بين السطور بالرغم من براعة كوبلاند في محاولة طمس معالمها.

 

وبالرغم من كل شيء،ظل كتاب لعبة الأمم متداولاً عبر هذه السنين المديدة،مع أنه  ليس جديداً لكنه يبقى ذا أهمية ولو في نطاق فضح تجار الشعارات القومية والتقدمية المزعومة التي لم يجلب أصحابها على الأمة سوى الويلات والكوارث على الصعيدين الداخلي والخارجي.

 

ومن الجدير بالملاحظة أن الأمريكيين الذين كشفوا أوراق عبد الناصر مبكراً، ما زالوا حتى اليوم يضفون حماية فائقة على حافظ الأسد عميلهم الأشد خيانة والأكبر إساءة لأمتنا ولعل حرصهم على توريث بشار الحكم في سوريا بعد مهلك أبيه كان نوعاً من الاستمرار في حماية المقبور وفي خدمات نظامه في عهد ولده،ولذلك تراهم يسعون اليوم إلى إبقائه في كرسيه بالرغم من المجازر الرهيبة التي يرتكبها على الهواء في حق شعبه!!