الإبداع المجني عليه!!
21 ربيع الأول 1433
علا محمود سامي

لم يكن مفاجئاً أن يجن جنون دعاة الليبرالية وغلاة العلمانية بعد الفوز الساحق الذي حققه الإسلاميون في مصر بانتخابات مجلس الشعب وما تلاها من انتخابات مجلس الشورى، إذ إن هذا الاحتقان تجاه إسلاميي مصر لا يزال متواصلاً منذ الإطاحة بالرئيس المخلوع حسني مبارك، بعد إدراك هؤلاء للحجم الحقيقي للإسلاميين في الشارع وتلك الأرضية الواسعة لهم في الشارع المصري، في مقابل الاندحار الواضح لغلاة العلمانيين ودعاة الليبرالية.

 

لقد هال هؤلاء ما حققه الإسلاميون من استحقاق لهم في الشارع المصري عبر وصولهم للمقاعد البرلمانية، وراحوا ينظمون مسيرات وتظاهرات، ليست ضد من يقف بالمرصاد لإجهاض أهداف ثورة 25 يناير ومبادئها، أو لحث المصريين على الإنتاج وبناء دولتهم الحديثة واستكمال ثورتهم التي يتشدقون برعايتها والحفاظ على استكمالها بدعاوى إثارة الاضطراب والعصيان في البلاد، ولكن ضد الإسلاميين من أعضاء البرلمان تحت راية "حماية الإبداع"، إلى الدرجة التي جعلت نفراً غير قليل منهم يدعون إلى تشكيل جبهة للدفاع عن الإبداع، اشترك في عضويتها فنانون ومثقفون ومفكرون ممن حصدوا غنائمهم إبان النظام السابق، الذي أتاح لهم الاستبداد بمؤسسات الدولة الثقافية والإعلامية.

 

فهم يريدون استعادة مناخ الانفلات من القيم، الذي كان يسمح لهم النظام المخلوع بممارسته على نطاق واسع، وبخاصة الخوض في الذات الإلهية من ناحية، ونشر الانحلال الأخلاقي من ناحية أخرى!!فذلكم ما كانوا يزعمون أنه "تنوير" مع أنه ليس سوى تغريب بائس مرفوض.

 

فالنور الذي يراه دعاة العلمانية هو الكلام المنفلت بإثارة أنماط شتى من الإسفاف، وهو في الواقع إبداع يعتمد على التحلل من القيم والثوابت التي يفرضها عليها دينهم ومجتمعهم، وانتهاك الآداب العامة التي يفرض القانون الوضعي نفسه أن يحرصوا على مراعاتها!!

 

كما يعتمد الإبداع بمفهومهم الضال على إثارة الاحتقانات والخوض في الأعراض، لذلك عندما شعر أمثال هؤلاء بتولي الإسلاميين للأغلبية البرلمانية استشاطوا هلعاً وغضباً على هذا الاستحواذ الجارف من جانب الإسلاميين، عندما حصدوا أصوات الشعب، فأصبحوا نوابه عن استحقاق وجدارة، في مقابل ما أظهره هذا الاستحقاق من رفض شعبي جارف للتغريبيين جملة وتفصيلاً.

 

هذه المكتسبات هى وفقط التي يفهمونها إبداعا، يدافعون عنها بكل ما يستطيعون، حتى لو كان ذلك بالسعي إلى إثارة القلاقل والإضرابات وإشاعة الفوضى ورفع الأحذية لمن اختارهم الشعب، وتوجيه السباب والشتائم لهم، تحت دعاوى حماية الإبداع، والحفاظ على روحه الثورية، والسعي إلى مواجهة القوى الظلامية، التي تسعى إلى تقويض الإبداع، على حد زعمهم!!

 

ليس هذا فقط، ولكن باجترائهم وافترائهم على الإبداع الحقيقي الهادف، بتفريغ الطاقات في مضامين تنفع الناس، غير أنهم راحوا يدافعون عن ذاك الذي يفهمونه من إبداع هدام، يهدم ولا يبني، يفرق ولا يجمع، يشتت ولا يوحد.

 

كل هذه التحركات التي تنوعت بين تشكيل جبهات للدفاع عما يفهمونه من إبداع، إلى تسيير مظاهرات وإثارة الفوضى بداخل أجهزة ووسائل الإعلام لحث الجميع على الدفاع عن هذا الإبداع، يترافق مع جهود أخرى عملت عليها وزارة الثقافة التي لا تزال تعيش بعقلية التغريب التي كانت تعمل بها في ظل النظام السابق،فقد اختارت هذه الوزارة أكثر من 500 شخصية تتنوع خلفياتها الفكرية إلا من الفكر الإسلامي، ليشكلوا فيما بعد عضوية لجان المجلس الأعلى للثقافة، في محاولة للسيطرة على مفاصل الوزارة، ومن ثم احتكار أي مؤسسة يمكن أن تصوب مسار الإبداع في حال حكم الإسلاميين، وذلك كله بهدف الحفاظ على مكتسب أساس لهم، وهو أن يصبح الإبداع إبداعا لا معنى له، إلا من كل ما يخالف دين الأكثرية الساحقة من المصريين، في محاولة للحيلولة دون أن يكون هناك إبداع نظيف يرعى تمسك أبناء المجتمع بدينهم وقيمهم وعاداتهم وتقاليدهم التي تلفظ كل إبداع يدعو إلى الفجور ونشر الرذيلة.

 

ولذلك، حرص دعاة اليسار المسيطرون على مفاصل الدولة المصرية، وبخاصة مؤسساتها الثقافية أن يعززوا من سيطرتهم على المؤسسات الثقافية المختلفة، وهو ما يبدو في حرصهم الأكيد على عدم تفريطهم في منصب وزير الثقافة، وفق ما لوحظ في دفعهم مرة بجابر عصفور ومن بعده بعماد أبوغازي، ثم حاليا شاكر عبد الحميد، فإذا اختير وزير يمكن أن يخالفهم الرأي مثل الوزير الأسبق محمد عبد المنعم الصاوي، يجن جنونهم الذي يعبرون عنه بتسيير المظاهرات وتنظيم الوقفات الاحتجاجية، على نحو ما فعلوه بعد قيام ثورة 25 يناير بتنظيم مثل هذه الاحتجاجات اعتراضاً على الدفع بالصاوي وزيراً للثقافة، حتى نجحوا في إقصائه عن منصبه، والذي لم يقض فيه أكثر من ثمانية أيام.

 

لذلك يحرص أدعياء الإبداع في مصر على السيطرة على مختلف مفاصل الدولة المصرية، في محاولة للحيلولة دون أي سيطرة من جانب الإسلاميين عليها، في ظل ما صار يبدو من أنهم هم الأقرب إلى تشكيل حكومة منتخبة بعد تسليم المجلس الأعلى للقوات المسلحة البلاد لسلطة مدنية (غير عسكرية) منتخبة بنهاية شهر يونيو المقبل على أقصى تقدير.

 

لذلك يبدو السعار العلماني واليساري في أعلى درجات الصخب حالياً لحماية ما يعتبرونه إبداعا، للدرجة التي يظلمون معها بممارساتهم الإبداع ذاته، بعد اعتبارهم له إبداعا يتوقف عند حدود نشر الكفر والخلاعة والمجون.