كشف الغمة.. عن ربيع الأمة
18 صفر 1433
د. حميد بن خيبش

أثبت الربيع المبارك الذي لازلنا نعيش امتداداته الساخنة، أن الأمة لم تفقد زمام المبادرة، وأن عقودا من التركيع والترهيب وكتم الأنفاس لم تنل من عقيدتها الراسخة، وانحيازها لثوابتها ويقينياتها، وإن قربت لأجل هذه الغاية النبيلة قرابين الدم والمال والعرض.

 

لقد خلف فوز التيار الإسلامي في الاستحقاقات التشريعية التي شهدتها تونس ومصر والمغرب صدمة عنيفة لأعداء الداخل والخارج، ولا أدل على ذلك من الغضبة الشرسة التي عبر عنها التيار العلماني بشتى تلاوينه ومسمياته، ومن سيل المقالات والتصريحات التي تنضح بالأسى على مأزق الحداثة، وأزمة الديموقراطية، والخوف من العودة إلى "الوراء"!

 

غير أن أنصار "الفكر الحر" و"الحداثي" لم ينتبهوا إلى أنهم بذلك يُسيئون للأمة من خلال الاستهانة بوعيها وتبصرها، ويطعنون صراحة في حقها الدستوري لاختيار من يحكمها. وهنا ينكشف توافق غريب بين ما يسوقونه من مبررات لهذه "النكسة" وبين الذريعة التي كان الطغاة يُضفون بها شرعية على استبدادهم وهي: أن الشعوب غير مهيأة بعد للديموقراطية!

 

إلا أن ما يغيب عن أذهانهم أن الأمة لم تضع ثقتها في الأحزاب الإسلامية لمجرد الثأر من تجارب "الحداثيين" الفاشلة والتي عجزت حتى عن توفير متطلبات العيش الكريم. لكنها عاشت نكبات عديدة هيأت لها فرصة الكشف عما تنطوي عليه شعارات الديموقراطية والتعددية وحقوق الإنسان من زيف وخداع. فقد شكل فوز الإسلاميين بالجزائر مطلع التسعينات أول محك لهذه الشعارات وذلك حين تدخل الجيش بقوة لوأد هذا الاستحقاق، وحرمان الشعب الجزائري من حقه الدستوري في اختيار من يُدبر أمور معاشه. ثم تلت ذلك نكبة اخرى هي حرب التطهير العرقي التي كانت جمهورية البوسنة والهرسك مسرحا لها، ففي كتابه " مجزرة البوسنة وتخاذل الغرب" يعرض الصحفي " ديفيد ريف " لإحدى أبشع صور التواطؤ الغربي ضد جمهورية آمنت حقا بقيم المواطنة المشتركة،و التسامح، والتعددية الثقافية، فلم ينفعها إيمانها في الإفلات من إبادة جماعية راح ضحيتها ربع مليون مسلم في ظرف سنتين!

 

وجاء الغزو الأمريكي للعراق كي يبدد ما تبقى من آمال في التعايش وصون القيم النبيلة وتحقيق السلام العالمي. فقد أعلن جورج بوش الإبن عن تقسيمه الشهير لدول العالم إلى محورين: محور للخير وآخر للشر. وشن البيت الأبيض هجمة شرسة على الحركات الإسلامية، بينما تطوع أزلامه في العالم الإسلامي لتشكيل طبقة عازلة تحول دون عودة الأمة إلى منابع دينها الصافية.وهكذا شهد العقد الأخير زخما من المعارك الساخنة حول الحجاب الإسلامي، والمرأة،وموقف الإسلام من الأقليات الدينية، والاستخفاف برموز الأمة، والتشكيك في السنة كمصدر للتشريع...إلخ. وكان من تبعات ذلك أن فشا في الأجيال الشابة ميل للاستخفاف بالشريعة الاسلامية ، وسرى في الأذهان خلط مريع بين المشروع السياسي والمجتمعي للحركات الإسلامية،وبين أحكام الدين وتعاليمه! 

 

يتبين من خلال ردود الفعل التي تلت الإعلان عن فوز الإسلاميين باستحقاقات تونس ومصر والمغرب أننا أمام استحواذ غير شرعي على مقولات الحرية والديموقراطية والحق في الاختلاف. وأننا نواجه استبدادا لا يقل ضراوة عن استبداد الحكام، إنه الاستبداد بالقيم النبيلة والمباديء الإنسانية، والسعي إلى تجاوزها وإفراغها من معانيها الحقة إذا ما آثرت أن تُعبر عن نفسها بغير ما ارتضاه حراسها!.. ففي جوانب كل مقال وتصريح أدلى من خلاله أنصار "الحداثة" و"الفكر الحر" برأيهم حول نتائج هذه الاستحقاقات يتردد صدى المقولة التالية: مرحبا بالديموقراطية إذا كانت ستقودنا نحن إلى كراسي الحكم، أما إن كانت لصالح الإسلاميين فلتذهب الديموقراطية إلى الجحيم!

 

من خلال جرد لردود الفعل هاته يمكن القول إجمالا أنها تراوحت بين ثلاث مواقف متباينة في الظاهر، لكنها متوحدة في العمق!. إذ اعتبر العقلاء منهم - وهم قلة!- أن النتائج طبيعية ومتوقعة بالنظر لما يحظى به الخطاب الإسلامي من تعاطف شعبي خصوصا من لدن الفئات المقهورة. وأن هذا الخطاب استطاع أن يكسر الطوق الأمني الذي فرضته الأنظمة الطاغية ويتحول إلى رقم يصعب تجاوزه في معادلة الإصلاح بأي بلد إسلامي. وأن الديموقراطية تقتضي احترام رأي الأغلبية والإقرار بأنه دستور نافذ لا تنفع معه مكابرة!

 

أما طائفة ثانية فاختارت المراوغة كالعادة من خلال ربط هذه النتائج ب"الظرفية الحرجة التي يمر بها العالم العربي" وب"الأزمة العالمية" التي أرخت بظلالها على المجتمعات العربية وخلفت حالة من "الاحتقان" وقلب الطاولة على تجار المهادنة والأمل الكاذب. وهذا الطرح فيه تبخيس شديد للمساحة التي يشغلها التيار الإسلامي في المشهد السياسي من جهة، واستهانة بوعي الأمة واختيارها من جهة أخرى..ولولا التذمر الذي يُخفيه اصحاب هذا الموقف لاتهمتهم بعمى الألوان الذي أفقدهم رؤية الأطياف الأخرى!. 

 

في حين اتسم الموقف الثالث بانتهازية سافرة، ومَثله المولعون بفتنة الكراسي وبريق السلطة. فقد سارع هؤلاء إلى مباركة نتائج الاقتراع، والحديث عن "التقارب الفكري" و"وجهات النظر المشتركة و"وحدة المقصد والغاية"، رغم أنهم كانوا حتى الأمس القريب في مقدمة جلادي الصحوة الإسلامية، والمؤيدين بحرارة لقرارات الرفض والإقصاء والتصفية الجسدية، والمروجين لمقولات" الخطر الإسلامي" و"الرجعية" و"الظلامية"!

 

لقد كشف ربيع الأمة عن سوأة الفعل السياسي المنحاز إلى تحقيق المنافع الشخصية، وتمكين أعداء الأمة من موطيء قدم في الشأن الداخلي يسمح لها ببعثرة الجهود الصادقة، وتشتيت الوعي وهدر الطاقات، واستنزاف الخيرات.. فليس الأمر تنافسا بين مشاريع فكرية وسياسية تتوحد حول الغاية وتتباين في المقاربات، بل هو صراع بين "الأصيل " و" الدخيل"..بين حراس لعقيدة الأمة وهويتها وكيانها الخاص، وبين دعاة الانسلاخ من الهوية والمعتقد، وضخ دماء مستوردة في شرايينها!

 

وإنا لنرجو حقا أن يُثمر هذا الربيع المبارك خطوات جادة لتخليق الحياة السياسية، ونشر وعي أصيل تمتزج فيه السياسة مع كل معاني النبل والسمو الإنساني.