البناء القيمي في السيرة النبوية
8 ذو الحجه 1432
حميد بن خبيش

إن رصد مظاهر الحرص النبوي على إرساء منظومة القيم الإسلامية , واعتبارها اللبنة الاساس لبناء الانسانية  يحملنا على الجزم بأن شرف الانتماء لهذا الدين لا يتم إلا من خلال صون هذه القيم وحراستها , خصوصا في ظل متغيرات عالمية تدفع الى التشكيك في جدواها و فاعليتها , وتعتبر ربانية المنبع القيمي تقييدا لحركة المسلم المعاصر و عائقا أمام الانطلاق الفكري و النهوض المجتمعي !

 

لقد بُعث النبي صلى الله عليه و سلم في بيئة تمتزج فيها بقايا قيم  الملة الحنيفية الابراهيمية , من مروءة و نبل و كرم ووفاء . مع ما تولد عن الوثنية من قيم شائهة ومنحرفة  كوأد البنات خشية الفقر و العار , و الحمية الجاهلية التي تُسعر نار الحرب ثأرا لناقة او بعير . فكان نهجه صلى الله عليه وسلم في اصطفاء القيم النبيلة و السمو بها نهجا غير مسبوق , وكان له  عظيم الأثر في نسج الشخصية الاسلامية التي ستُرسي في أقل من قرن من الزمان دعائم حضارة لم تشهد لها البشرية مثيلا !

 

فما هي سمات هذا النهج النبوي , وما هي ابرز شواهده من السيرة النبوية ؟
يقول الدكتور جابر قميحة ".. ثم جاء الاسلام – خاتما للأديان- وهذه الخاتمية تقتضي أن يكون أكمل الأديان وأوفاها بحاجات الانسانية , وأبرعها في معالجة الأدواء التي حوتها قائمة القيم الجاهلية , واختلف موقف الاسلام من هذه القيم تبعا لنوعيتها ..
1-    فقابل بعضها بالرفض وقضى عليه قضاء مبرما .
2-    و أقر بعضها و شجعه و دعا إليه .
3-    وسما ببعضها الآخر فعاد بالنفع على الدين و الناس " (1)

 

فكان الموقف النبوي من القيم السائدة مبنيا على ثلاث : التحريم , و الإقرار , والإعلاء مع مراعاة التدرج في إحداث النقلة الأخلاقية المطلوبة  , و تمكين النفوس من التشرب المطمئن لهذه القيم  في صيغتها الاسلامية الجديدة  !
ومن يتصفح كتب السيرة يشعر أنه أمام رحلة مضنية في سبيل تثبيت القيم الإيجابية , وتخليص النفوس من درن القيم الجاهلية المنفرة من خلال الحرص على وصل البناء القيمي بالمنبع الرباني مصداقا لقوله تعالى " إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم" . وبما أن المقال قد لا يتضح إلا بالمثال , فسنعرض في الأسطر الآتية شواهد لهذا النهج النبوي الفريد  .

 

لقد بُعث المصطفى صلى الله عليه وسلم في بيئة تحفل بنماذج اللامساواة , بيئة يقوم نظامها الاجتماعي على مبدأ القوة , و تعتمد في موارد عيشها على التجارة و السلب و الإغارة . فكان من الطبيعي أن تنشأ طبقة العبيد و الأرقاء , و تُسن أعراف و تقاليد تُنزل العبد  منزلة الدابة ,لا بل أسوأ من الدابة نفسها !
كما كان التفاخر بالأحساب و الانساب باعثا على الانحياز للظالم مادام من ذوي القربى , و اعتبار الذوبان في ذات القبيلة شرفا وعزا حتى و إن كان ديدنها الجور و البطش و أكل القوي للضعيف . يقول  أحد شعرائهم في هذا الشأن – وهو دريد بن الصمة - :

                  فـلما عصوني كنت منهم وقـد              أرى غوايتهم وأنني غير مهتد
                  وهل أنا إلا من غُزية إن غوت                غويت و إن ترشد غزية أرشد

 

فتوالت الآيات و الأحاديث الشريفة التي تُبطل التفرقة العنصرية و المحسوبية , و تُرسي قاعدة المساواة بين الناس و تؤسس لمعيار جديد في التفاضل هو معيار التقوى . كما حرص النبي صلى الله عليه وسلم في مواقف عدة على  التطبيق الحازم لهذا المبدأ السامي , فقد روى الامام مسلم بسنده عن عائشة رضي الله عنها أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا : من يكلم فيها  رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا : ومن يجتريء عليه إلا أسامة  حب رسول الله صلى الله عليه وسلم , فكلمه اسامة , فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أتشفع في حد من حدود الله ؟ ثم قام فاختطب فقال : " يا أيها الناس إنما أهلك الذي قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه , وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد , وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها " (2).

 

وبالمقابل نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم بارك القيم النبيلة التي كانت سائدة في المجتمع الجاهلي قبل بعثته , وأثنى عليها . ومنها الأحلاف التي كانت تعقدها القبائل العربية لنصرة المظلوم و إجارة المستجير و إغاثة الملهوف , كحلف " المطيبين "  و " حلف الفضول " الذي شهده رسول الله صلى الله عليه و سلم في دار عبد الله بن جدعان , و اثنى عليه بقوله " لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم , ولو أدعى به في الاسلام  لأجبت"(3) .
ذلك أن هذه الوثيقة "الجاهلية" تطرقت إلى الدفاع عن حق اساسي من الحقوق الانسانية , وكان لها قصب السبق على "الماجنا كارتا" و إعلان المواطن الفرنسي" بمئات السنين , مما يُثبت مرة أخرى أن البيئة العربية قبل الإسلام  وإن لم تبلغ شأن الحضارتين الفارسية و البيزنطية إلا أنها لم تخل كذلك من شواهد النُبل الإنساني الذي ماكان على الإسلام إلا وصله بالسماء لتنهض أرقى الحضارات على أكتاف رعاة الغنم !!

 

وهذا ما حدث بالنسبة لقيم أخرى كان الباعث لها هو النخوة العربية و العصبية القبلية فحرص النبي صلى الله عليه و سلم على السمو بها و تنقيتها من شوائب الغريزة و عوامل الاثرة . و يظهر ذلك جليا من خلال موقف الاسلام من الشعر و القيم التي يروج لها .
فمن المعروف أن الأمة العربية أمة شاعرة , و أن الشعر ديوانها و نُسغها وخزان بطولاتها و ثاراتها , و الصائن لذاكرتها . أما ميلاد شاعر مفلق في القبيلة فحدث عظيم تقام له الأفراح و تسير بذكره الركبان . بيد أن المضمون الفكري و القيمي الذي يحفل به هذه الشعر كان يتقلب بين الوضاءة والوضاعة , ففيه الغزل الفاحش المتهتك , و الهجاء المقذع , و المديح الموغل في الكذب . كما أن فيه الغزل العفيف , و التغني بأنبل الخصال الانسانية من حلم و كرم و فداء , و صوغ الحكم و العظات التي كان لسماعها فعل السحر في النفوس .
فلما بُعث المصطفى صلى الله عليه و سلم و طرقت آيات القرآن الكريم مسامع قريش , أذهلهم البيان القرآني فحاولوا عبثا أن يُرجعوا الأمر إلى ملكة شعرية أو خبرة بالكهانة و السحر , لكن الحق سبحانه تولى الرد على مزاعمهم تخليصا لهم من حالة الذهول و الارتباك  في قوله تعالى" وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر و قرآن مبين" (4).

 

أما السمو بالقيم الفنية وفي مقدمتها الشعر فسيبينه الرسول صلى الله عليه و سلم حين نزل قوله تعالى " و الشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم في كل واد يهيمون * و أنهم يقولون ما لا يفعلون * إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات * و ذكروا الله كثيرا * و انتصروا من بعدما ظُلموا * و سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون" (5) ذلك أنه لما نزلت هذه الآيات جاء حسان بن ثابت و عبد الله بن رواحة و كعب بن مالك وهم يبكون , فتلا النبي صلى الله عليه و سلم : إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات , وقال : أنتم . وذكروا الله كثيرا.قال : أنتم . و انتصروا من بعد ما ظُلموا. قال : أنتم (6). و بذلك كشف النبي صلى الله عليه وسلم عن دلالة الاستثناء في الآيات وما يرمز إليه من دعوة للانسجام بين المضمون الشعري و تعاليم القرآن .

 

وحين أخذ الشعراء دورهم في المعركة بين الحق و الباطل , كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحث شعراء الصحابة على نُصرة الدين بألسنتهم كما ينصرونه بسيوفهم , خصوصا و أن ما يذيعه شعراء المشركين من هجاء للرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه كان بمثابة حملة إعلامية مغرضة تصد القبائل العربية عن الدخول في دين الله أفواجا . ومما رُوي في هذا المنحى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان بن ثابت رضي الله عنه : شُن الغطاريف على بني عبد مناف , فوالله لشعرك أشد عليهم من وقع السهام في غلس الظلام . ثم إن حسانا أخرج لسانه فضرب به أرنبة أنفه , وقال : و الله يا رسول الله , إنه ليخيل إلي أني لو وضعته على حجر لفلقه , أو على شعر لحلقه . فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أيد الله حسانا في هجوه بروح القدس " (7)

 

هي إذن مداخل ثلاث عالج من خلالها النبي صلى الله عليه وسلم منظومة القيم السائدة : مدخل التحريم , ومدخل الاقرار , ومدخل الإعلاء و التسامي . وتلك خطوة أولى في البناء القيمي تلاها انصهار هذه القيم في بوتقة الايمان لتكتسب صفة الخلود و الثبات .
إن المتتبع لمنهج النبي صلى الله عليه وسلم في إحداث النقلة المطلوبة من قيم الجاهلية إلى قيم الإسلام الحقة يُدرك سماحة الاسلام في ثنائه و إقراره للفضائل التي سادت قبل البعثة " حلف الفضول " , كما يُدرك فطرية هذه القيم و اصالتها وكفايتها للمجتمع الإسلامي أمام دعاوى العلمنة الزائفة ! .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
                الهوامش :

(1)    : د.جابر قميحة . المدخل إلى القيم الاسلامية .ص30  دار الكتاب المصري ط1 1984
(2)    : صحيح مسلم . رقم : 1688
(3)    :  أخرجه البخاري في الأدب المفرد (567) و البيهقي في سننه الكبرى (6/367) من حديث طلحة بن عبد الله ين عوف وهو حديث صحيح و إسناده مرسل .
(4)    :  سورة يس .الآية 69
(5)    : سورة الشعراء . الآيات 223-226 .
(6)    : ابن كثير.تفسير القرآن العظيم .3/354 .دار المعرفة بيروت 1982
(7)    : ابن عبد ربه الأندلسي. العقد الفريد .5/277 مطبعة لجنة التأليف و الترجمة و النشر. القاهرة ط 3 1965 .