فقه ترقيع الدنيا بالدين
3 ذو الحجه 1432
أسماء عبدالرازق

عند بعض الإسلاميين المنغمسين في العمل السياسي في أكثر من بلد نوع من فصل الدين عن السياسة وإن أنكروا ذلك. تراهم يُخضعون مواقفهم وبرامجهم وخططهم للحسابات السياسية المحضة، دون مراعاة لأحكام الشريعة في كثير من الأحيان وحجتهم دائماً مراعاة المصالح، ودفع المفاسد الكبرى بالصغرى، وأن العبرة بالمقاصد الكلية للتشريع، وأهمية مراعاة روح الشريعة بعيداً عن الحرفية والجمود، إلى آخر القائمة. والمصيبة أن النتيجة دائماً تكون على عكس ما اشتهوا وتمنَّوا، أو عكس ما أعلنوا ومنَّوا، والمصيبة الأكبر أنهم يعالجون الخطأ بالاندفاع في ذات الطريق بسرعة أكبر للتعجيل بتحصيل تلك المصالح الموهومة المزعومة التي هي كالسراب، والمحصلة في كل مرة:ذهاب الدنيا، وتضييع الدين! وإن كان ثمة مصلحة فزيادة قناعتنا بأن المصلحة في ما أمرت به الشريعة، وما يقرره حملتها العدول لا الذين ينطقون وفقاً لمقررات الساسة!

 

أما أوضح مثال على ذلك فهو الحركة الإسلامية الحاكمة في السودان بلا منازع! بايع كثير من أبناء الشعب الرئيس مطلع التسعينات على أن يقيم الدين، ويبسط العدل، ويسعى في تأمين الأمة، وتفاعلوا مع دعوته للجهاد أكثر من نصف عقد من الزمان، قدموا فيه الأموال، والأنفس، والوِلدان طيبة بذلك نفوسهم، والهدف من كل ذلك إقامة شرع الله في البلاد ليس إلا. ثم خالفت الحكومة مسلمات الشرع في نيفاشا، ومتشاكوس، وفي تطبيق الشريعة وأخذها الكتاب بوهن، بل قبل ذلك في تحالفاتها مع العراق إبان بعثيته، ثم اليوم مع إيران الرافضية، ومهادنتها للدولة النصيرية التي تقمع الشعب السوري الأبي، وما أشبه الليلة بالبارحة فعما قليل ينتصر ثوار الشام وترفع عنهم يد النصيرية الظالمة ولهم ألف عذر بعدها في علاقتهم المتوترة مع كل من كان يشرِّع قتلهم ويتحالف مع قاتلهم. وحصاد مخالفة الشريعة بعد أكثر من عشرين عاماً انتقاص البلاد من أطرافها بل تعدى الأمر الأطراف نحو القلب!مع تشرد كثيرين، وتردي الاقتصاد، وانتشار العقائد الكفرية، وغير ذلك من البلايا، وأحد أهم أسباب هذا التردي الحسابات السياسية التي تتجاوز مقررات الشريعة في كثير من الأحيان باسم الوسطية والاعتدال تارة، أو لمراعاة المصالح المتوهمة، ودفع المفاسد التي لا تندفع إلا بمخالفة ما يقرره أهل البصيرة والعلم ولا يخدعنك من رضي منهم بأن يكون ناطقاً رسمياً يرفع الحرج عن الساسة!

 

وإذا كان الشعب ينادي بتطبيق شرع الله، والحركة الإسلامية الحاكمة ترفع ذات الشعار، والواقع يقول إن الأمر لا يعدو أن يكون شعاراً، فلابد أن يكون السبب إما الجهل بكيفية تنزيل الشعار على الواقع، أو عدم الرغبة في ذلك. وبناء على حسن الظن نفترض أن العلة تكمن في السبب الأول وذلك لأن "مزالق السياسة وضغوط الواقع فتنة لا يصبر عليها إلا من كان عظيم الديانة عظيم البصيرة بالشريعة العاصمة، وإلاّ انجر بسبب التأويلات إلى مزالق، قد تكسر ظهره، فمخالفة مقررات الشريعة بالجهل أو التأويل قد يعذر صاحبها لكن مفسدة المخالفة لشريعة الحكيم الخبير قل أن ينجو منها، كمن يشرب السجائر متأولاً حله وهو صادق في ذلك، قد ينجو من الإثم، لكنه قد لا ينجو من سرطان الرئة وتلك سنة الله فيمن خالف شرعه" كما عبر بعضهم.

 

لكن هل يعقل أن يدعو الحزب الحاكم لتطبيق الإسلام لأكثر من ستين سنة، ويمارس السياسة في المعارضة مرات، وشريكاً في الحكم مرات وشعاره: "لا ولاء لغير الله، لا تبديل لشرع الله"، ثم منفرداً بالحكم في آخر المطاف وشعاره: "هي لله، هي لله، لا للسلطة ولا للجاه"، ثم لا يكون عنده من القيادات المؤهلة ما يحقق هدفه السامي الوحيد!

 

ولو افترضنا ذلك جدلاً فلم لا يشكل هيئة شرعية استشارية يصدر عن فتاواها، أويسترشد بها؟! أعني هيئة استشارية حقيقية لا ينحصر دورها في تحري الهلال، وإصدار البيانات بعد المصائب والنكبات، بغرض إنقاذ ما يمكن إنقاذه وحسب!
إن الواقع الذي عايشناه يقول إن بعضاً من قيادات الحركة الإسلامية؛ ساستهم الكبار، وقياداتهم الطلابية، لا يعبؤون كثيراً بالمتخصصين في العلوم الشرعية ولا حتى في السياسة الشرعية، وهذه واحدة من ثمار السوء التي بقيت جراء فكر التجديد الترابي.
بل استعار بعضهم وصف الخميني لمعممي النجف بعد نجاح ثورته "علماء الحيض والنفاس"! ومنهم من قال ما معناه: لا حاجة لنا بفقهاء الأطيان والتمور، وإنما العبرة بفقهاء الدستور! وفقهاء الدستور المقصودون هم أصحاب التوالي السياسي، وميشاكوس، ونيفاشا، الذين فيهم من ضاع، ومنهم من أضاع! وبالطبع السياسة تقتضي التعامل مع هذا النوع من الفقهاء، أعني من يصنفون في قائمة فقهاء الأطيان كأبواق إعلامية على منابر المساجد متى ما دعا الأمر، ولا بأس بتطمينهم وتقديم بعض الضمانات غير الملزمة لهم حتى تمر الأزمة، كما حصل في التصويت على فصل جنوب السودان، ولا داعي لذكر أعيان ووعود صدرت من مسؤولين كبار!

 

إن مفهوم تطبيق الشريعة، دعونا من تطبيقها فعلاً ينحصر عند بعض المكلفين بذلك في إقامة الحدود، وبعضهم يراها بالإضافة لذلك مظهراً عاماً منضبطاً، ونظاماً مصرفياً غير ربوي، وغير ذلك من التصورات القاصرة! لذا لا يستغرب أن تنشر عقائد الروافض، والجمهوريين، والنصارى الكفرية تحت سمع وبصر وربما مباركة حماة الدين، وحراس الشريعة! ولا عجب أن تقبع قيم العدل، والشورى، والأمن الاجتماعي، وغيرها من لوازم تطبيق شرع الله في صفحات المعاجم، وكتب التاريخ الإسلامي، ولا تبرحها إلا كطيف عابر في أحلام الشعب الصابر. ومصيبة هذا الشعب أنه يدفع ثمن الشعار المزعوم حصاراً وفقراً ومسغبة، كما يدفع في الوقت ذاته ثمن عدم تطبيقه زعزعة للمعتقدات، وانفلاتاً في الأخلاق، وضياعاً للقيم.

 

إن هذا الإسلام الهلامي الهيولاني، الذي لا وقوف عند مقررات النصوص فيه بسبب أدنى رأي يستحسنه مسؤول! هو الذي يجعل سياسة بلادنا متخبطة تعتمد على ردة الفعل، وتستجيب للضغوط، وتولي قِبَل الغرب مرة، وقِبَل الشرق مرة، ولا تتحرج من تولية وجهها إلى أي اتجاه ما دام ثمة مخرجاً ولو كان متوهماً لمأزق من مآزق سياسة "رزق اليوم باليوم"! لكن المؤكد أنه لا يمكن تولية الوجه لأكثر من قِبْلَة في وقت واحد، والمشكلة أن هذا هو الحل الوحيد لساستنا بعد تدنيس الرئيس الإيراني لبلادنا، وإعلانه عدم وجود عقبات أو حدود لسقف التعاون بين البلدين، مع تأزم الوضع بين إيران والسعودية وبالتالي حلفها العريض. فهل سيقع ساسة السودان في فخ حرب الخليج مرة أخرى، قبل أن يخرجوا من فخ دعم النظام السوري الدموي كنتيجة طبيعية لتبعيتهم لإيران؟ هل ستقدم عقيدة الولاء والبراء والانتصار للصحابة والسنة هذه المرة، أم دهاء وحنكة الساسة الطامعين في عون أصحاب التقية غير المحدود كما قيل لهم؟ وهل يضع الساسة في حساباتهم أنهم لا يغنون عن إيران شيئاً، كما أن إيران لن تكون أحرص عليهم من القذافي وحاكم سوريا النصيري؟ وهل وضعوا احتمال أنها لن تكون آخر من يأخذ منهم ما يريد ثم يدعهم ليفعلوا مايريدون، والخيارات المتاحة دائماً كما يعرفون ونعرف هي: الوعيد الأجوف، أو التهديد الفارغ، أو الاستجداء المهين، وقد جربناها جميعاً، فلنا الله!