أنت هنا

ما تعم به البلوى في الحج (5)
28 ذو القعدة 1432
د. نايف بن جمعان الجريدان

رمي الجمرات قبل الزوال أيام التشريق
 
توطئة
هذه المسألة لا تبعد كثيرًا عن سابقتها؛ فإن تجمع عدد كبير من الحجاج في منطقة الجمرات -المنطقة الصغيرة المساحة- لا بد أن ينتج عنه حوادث الدهس والتدافع المهلك المؤذي للحجاج، بل ويسبب هذا ذهاب الخشوع من قلوبهم، وتبدل الخوف والهلع بطمأنينة الذكر.
        وانتشرت بين أوساط أهل العلم مسألة رمي الجمرات الثلاث قبل الزوال في أيام التشريق، بين مُجيز لذلك، ومانع.
        ولما كانت هذه المسألة "مما عمت بها البلوى" بين حجاج بيت الله الحرام؛ أحببت أن أكتب ما تيسر مما قيل فيها.
        فالرمي: يطلق بمعنى القذف، وبمعنى الإلقاء، يُقال: رميت الشّيء وبالشّيء، إذا قذفته، ورميت الشّيء من يدي، أي: ألقيته فارتمى، ورمى بالشّيء أيضًا ألقاه، يُقال: أرمى الفرس براكبه إذا ألقاه. واستعمل الفقهاء الرّمي في المعاني اللّغويّة السّابقة ومنها رمي الجمار الّذي هو منسك من مناسك الحجّ([1]).
        والجَمرات والجِمار: هي الحصيات التي يُرمى بها في منى، والجَمرة: واحدة جَمرات المناسك، وهي ثلاث جَمرات، الجمرة الكبرى، وتسمى جمرة العقبة، والجمرة الوسطى، والصغرى، وموضع الجمار بمنى سمي جَمرة لأنها تُرمى بالجمار، وقيل: لأنها مجمع الحصى التي تُرمى بها من الجمرة، وليست الجمرة هي الشّاخص (العمود) الّذي يوجد في منتصف المرمى، بل الجمرة هي المرمى المحيط بذلك الشّاخص ([2]).
        وأجمع العلماء على أن وقت رمي الجمرات في أيام التشريق الثلاثة التي هي أيام منى بعد زوال الشمس إلى غروبها([3])، واختلفوا([4]) فيما إذا رُميت قبل الزوال، وأُرجع خلاصة خلافهم هذا -حسب ما وقفت عليه- إلى قولين:
القول الأول:
        وهو عدم جواز الرمي قبل الزوال، وهي رواية عن الإمام أبي حنيفة([5])، وقال به المالكية([6])، والشافعية([7])، والمشهور عند الحنابلة([8]).
        قال الإمام مالك رحمه الله: "من رمى الجمار الثلاث في الأيام الثلاثة قبل زوال الشمس فليعد الرمي ولا رمي إلا بعد الزوال في أيام التشريق كلها"([9]).
         وجاء في الأم للإمام الشافعي([10]): "ولا يرمي الجمار في شيء من أيام منى غير يوم النحر إلا بعد الزوال ومن رماها قبل الزوال أعاد"، وبمثله قال ابن قدامة في المغني([11])، وكذا جاء في الشرح الكبير([12]) قوله: "ولا يجزئ رمي غير سقاة و رعاة إلا نهارًا بعد الزوال حتى يوم يعود إلى مكةفإن رمى ليلاً أو قبل الزوال لم يجزئه". واستدل أصحاب هذا القول بمجموعة من الآثار عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم  تحكي فعله صلى الله عليه وسلم وأنه كان يرمي بعد الزوال في أيام التشريق، منها ما يلي:
1) ما أخرج الإمام مسلم في صحيحه([13])، من حديث جابر بن عبد الله  رضي الله عنهقال: "رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة يوم النحر ضحى، وأما بعد فإذا زالت الشمس".
2) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كنا نتحين، فإذا زالت الشمس رمينا"([14]). 
1.عن عائشة رضي الله عنها قالت: "أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس"([15]).  
2.    عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمار حين زالت الشمس"([16]).
3.    عن عمر بن الخطاب  رضي الله عنه أنه قال: "لا تُرمى الجمرة حتى يميل النهار"([17]).
وجه الدلالة من هذه الآثار:
        دلت هذه الآثار أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى بعد الزوال وقد قال: "خذوا عني مناسككم"، وقد أخذ الصحابة رضوان الله عليهمبهذا ورموا بعد الزوال.
 
القول الثاني
جواز الرمي قبل الزوال يوم النفر الأول، لمن كان متعجلاً، وكذا يوم النفر الآخر، في اليوم الأخير من أيام التشريق لمن كان متأخرًا، وهذا المشهور عن الإمام أبي حنيفة([18]) ورواية عن الإمام أحمد([19])، وهم في ذلك يشترطون أن يكون النفر، أي الخروج من منى بعد الزوال.
قال السرخسي في المبسوط([20]): "إن كان من قصده أن يتعجل النفر الأول فلا بأس بأن يرمي في اليوم الثالث قبل الزوال، وإن رمى بعد الزوال فهو أفضل، وإن لم يكن ذلك من قصده لا يجزئه الرمي إلا بعد الزوال؛ لأنه إذا كان من قصده التعجيل فربما يلحقه بعض الحرج في تأخير الرمي إلى ما بعد الزوال بأن لا يصل إلى مكة إلا بالليل فهو محتاج إلى أن يرمي قبل الزوال ليصل إلى مكة بالنهار فيرى موضع نزوله فيرخص له في ذلك والأفضل فعل ما هو العزيمة وهو الرمي بعد الزوال". 
وقد وردت أقوال في مذهب الحنابلة تؤيد الرمي قبل الزوال في أيام التشريق، وحكيت رواية الإمام أحمد في جواز ذلك كما في الإنصاف والفروع قولهما" وعنه يجوز رمي المتعجل قبل الزوال وينفر بعده"([21]).
 
واستدل القائلون بجواز رمي الجمار قبل الزوال في يومي النفر الأول والآخر ما يلي:
1) قوله تعالى: )وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(([22]).
وجه الدلالة: أن الله رخَّص في التعجل في يومين، وجعل اليوم كله محلاً للتعجل، فمن تعجل ورمى قبل الزوال فقد دخل في رخصة الله عز وجل، وإذا كان له أن ينفر قبل اليوم الثالث ويترك الرمي، فإن له الرمي قبل الزوال([23]). 
2)حديث عبد الله بن عمرو بن العاص  رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع فجعلوا يسألونه فقال رجل: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح؟ قال: "اذبح ولا حرج"، فجاء آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي؟ قال: "ارم ولا حرج"، فما سُئل يومئذ عن شيء قُدم ولا أُخر إلا قال: "افعل ولا حرج"([24]).  
 ووجه الدلالة
هذا الحديث الذي استدل به أصحاب هذا القول فيه إشارة ظاهرة إلى عدم اشتراط زمن معين بالنسبة لأفعال الحج من تقديم أو التأخير، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نفى وقوع الحرج من كل ما يفعله الحاج من التقديم والتأخير لأعمال الحج التي تفعل يوم العيد وأيام التشريق، فلو كان يوجد وقت نهي غير قابل للرمي لبينه صلى الله عليه وسلم، فدل والله أعلم أن ليس للرمي وقت معين، فلو قُدم أو أُخر لجاز([25]).
 
3) ما ورد "أن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص للرعاة أن يرموا جمارهم بالليل أو أية ساعة من النهار"([26]).
4) وانقل هنا قول ابن قدامة في الكافي([27]) يُعضد الدليل السابق؛ قال -رحمه الله-: "وكل ذي عذر من مرض، أو خوف على نفسه، أو ماله؛ كالرعاة في هذا لأنهم في معناهم
الخلاصة والترجيح:
        ومن هذا العرض للقولين وأدلتهم، نعلم يقينًا أن الرمي بعد الزوال هو الموافق لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الرمي قبل الزوال قال به علماء أجلاء من السلف لهم أدلتهم، وهو الذي يتفق مع سماحة الشريعة ويسرها، فإن من سنة الله في خلقه التيسير عليهم وعدم تكليفهم ما لا يطيقون، ولا ريب أن الفقهاء الذين قالوا بهذا القول قصدوا هذا المعنى، فإذا كان هذا المعنى مقصوداً في عصرهم مع قلة الحجيج فإن هذه العلة آكد وأشد في هذا الزمان الذي أصبحت فيه أعداد الحجاج تزداد عاماً بعد عام، وما يحصل في ذلك من إزهاق النفوس أحياناً، أضف إلى ذلك ما يكون من تزاحم الرجال والنساء أثناء الرمي،  لذا جاءت الفتوى من عدد من العلماء المعاصرين في زماننا بجواز الرمي قبل الزوال، فهذاالتفصيل فيه توسعة عظيمة على المسلمين في يوم النّفر الأوللاشتداد الزحام ولتعجُّل غالب الحجاج، وفيهم بعض أصحاب الأعذار.
        إلا أنني أُضيف قائلاً:
        بأن ما تم إنجازه من مشاريع ضخمة وهي التي شاهدها العالم أجمع في مكان الرمي؛ من بناء الطوابق العديدة، والتي أُسست قواعدها لتصل إلى عشرة أدوار، قد خفف وسيخفف الكثير منالعناء الذي شهدناه في السابق، وسيقلل من الحوادث –بمشيئة الله-، وأصبح الحاج يرمي وهو في سعة من أمره، ودون مشقة حاصلة له أو لأهله، لذا فإني أنصح الحجاج بعدم الأخذ بهذه الرخصة، في هذه الأزمنة بعد هذه التوسعة، إلا أن الحاجة لهذه المسألة قد تظهر مع طول الزمن مهما فُعل وخطط، وما ذاك إلا لزيادة عدد الحجاج عامًا بعد عام. والله أعلم.
____________________
([1]) لسان العرب، مادة (رمى)، 14/335)، مختار الصحاح، مادة رمى (1/267)، التعاريف (1/577).
([2]) لسان العرب، مادة (جمر)، (4/144)، ومختار الصحاح، مادة (جمر)، (1/119)، ومعجم البلدان، باب الفاء والهاء وما يليهما (4/281)، المطلع (1/198)، الزاهر (1/182).
([3])  التمهيد لابن عبد البر (17/254).
([4]) الاستذكار بن عبد البر (4/353).  
([5]) المبسوط (4/68).
([6])المدونة (2/423)، الكافي لابن عبد البر (1/167)، بداية المجتهد (1/350).
([7]) الأم (2/213)، إعانة الطالبين (2/306)، وقال في النووي في المجموع (8/211): "وبه قال ابن عمر والحسن وعطاء ومالك والثوري وأبو يوسف ومحمد وأحمد وداود وابن المنذر".
([8]) المغني (9/484)، شرح منتهى الإرادات (1/589)، وانظر: شرح العمدة (3/580).
([9]) المدونة (2/423).
([10]) الأم (2/213).
([11]) المغني (9/484)
([12]) (1/589).  
([13])  في كتاب الحج، باب بيان وقت استحباب الرمي (2/944)، (314).
([14])أخرجه البخاري، في كتاب الحج، باب رمي الجمار (2/621)، رقم (1659).
([15])   أخرجه أبو داود في سننه، في كتاب الحج، باب في رمي الجمار (1/605)، رقم (1973)، وأحمد في مسنده، (6/90)، رقم (24636)، وابن خزيمة في كتاب المناسك، باب البيتوتة بمنى ليالي أيام التشريق (4/311)، رقم (2956)، وابن حبان في المستدرك، في كتاب المناسك، (1/651)، رقم (1756)، والدار قطني في كتاب المناسك (2/274)، رقم (179)، والبيهقي في الكبرى، في كتاب الحج، باب الرجوع إلى منى أيام التشريق، والرمي بها كل يوم إذا زالت الشمس (5/148)، رقم (9443).
([16])أخرجه أحمد في مسنده (1/290)، رقم (2635)، وعلق عليه شعيب الأرنؤوط: بأن اسناده حسن.
([17]) أخرجه البيهقي في الكبرى، في كتاب الحج، باب الرجوع إلى منى أيام التشريق، والرمي بها كل يوم إذا زالت الشمس (5/149)، رقم (9449).
([18]) فعن الإمام أبي حنيفةثلاث روايات: الأولى/ عدم الجواز كما في القول الأول. والثانية/ يجوز في اليوم الثالث، و هو آخر أيامالرمي أن يرمي قبل الزوال استحبابًا. والثالثة/ أنه يجوز أن يرمي في اليومين الثانيو الثالث قبل الزوال. انظر في ذلك: المبسوط (4/68)، البحر الرائق (2/376)، حاشية ابن عابدين (2/523).  
([19]) المغني (9/484)، شرح منتهى الإرادات (1/589)، وانظر: شرح العمدة (3/580).
([20]) (4/68).           
([21]) الإنصاف (4/45)، الفروع (3/382).
([22]) الآية رقم (204)، من سورة البقرة.
([23]) حاشية ابن عابدين (2/523).       
([24]) أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب الفتيا على الدابة عند الجمرة (2/618)، رقم (1649)، ومسلم في كتاب الحج، باب من حلق قبل النحر أو نحر قبل الرمي (2/948)، رقم (327).
([25]) المبسوط (4/68)، يتصرف.
([26]) أخرجه الدار قطني، في كتاب الحج، باب المواقيت (2/276)، رقم (184).
([27]) (1/453).