تصفية القذافي.. حافظة الأسرار طويت
25 ذو القعدة 1432
أمير سعيد

[email protected]
مصاب بالبارانويا، يرفع أنفه للأعلى دوماً كلما أراد أن يتحدث عن نفسه ومآثره الوهمية.. كبرياء مدعى، كبر مفرط، نهاية مذلة.. ما بين جنون العظمة وذل الخاتمة سنوات طوال لكنها زائلة.. تبقى الكلمات الخالدات "وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم"، فهو المختص بالعظمة والكمال والجلال والسلطان في السماوات والأرض ـ كما يقول الشنقيطي ـ ، وتتجلى معاني الحديث القدسي، الذي يقول فيه رب العزة والكبرياء: (الكبرياء ردائي ، والعظمة إزاري ، فمن نازعني واحدا منهما أدخلته النار).

 

بدت النهاية بارعة في دلالتها؛ فـ(الكبر بطر الحق وغمط الناس)، كما يقول صلى الله عليه وسلم.. تنشق الأرض عن أغبر أشعث يخرج من أنبوب الصرف الصحي ـ بحسب الروايات المتكاثرة ـ ليستجدي قاتليه ويتلقى الشتائم وألوان الإهانة.. تعرفون؟ هو ملك ملوك إفريقيا، عميد الحكام العرب، الزعيم الليبي، قائد الفاتح، صاحب النهر العظيم، وساكن أنبوب النفايات.

 

ويستطيع المرء أن يتخذ من عبرها ما شاء له أن يتخذ، ومن حكمة أبت إلا أن تُرسم نهاية واسم خصومه بالجرذان بلون قاتم من المذلة والهوان يجسد فيها صورة أعدائه في مخيلته كجرذ يفر من قاتليه، وأن تتبدد أمامه كل وساوسه الفكرية وأحلامه المجنونة بقيادة العالم وخضوع البشر لنظريته العالمية الثالثة الخرقاء، لكن ما لا ينبغي مع سلسلة العظات من نهاية ديكتاتور أن يطويه النسيان هو مغزى التصفية التي تمت للعقيد الليبي الراحل، ومدى ضرورتها من عدمها، والفائدة التي قد عادت على من أمر بتصفية القذافي..

 

وفي المستهل، لا يجدي نفعاً في كثير من الأحيان تجريد مثل هذه الحوادث في صورها المعروضة أمام الشاشات، والمقاطع والروايات المتعمد تسريبها للناس عنها؛ فقرار بحجم تصفية القذافي لا يتصور أن يتخذه مقاتل هاوٍ شحنته عقود الطغيان الطوال إلا في أضيق الاحتمالات وقوعاً؛ فمهما كان الآسرون فوضويين فإن إزهاق نفس معمر القذافي هو قرار لا يمكن أن يسمح بأن يعود إلى موتور يتصرف من تلقاء نفسه، ويجر تبعات قد لا تتمكن كتيبته من لملمتها أو تقدر على تحملها.

 

وقد يصح في الأذهان أن يقود الثأر مشاعر الجنود لاتخاذ مثل هذه القرارات الصعبة، لكنه لا يصح غالباً في عالم السياسة التي لا تترك فيها مثل هذه الأشياء لاجتهادات الصغار؛ فالتصفية الجسدية لكبار الشخصيات المطلوبة بعد القدرة على أسرها معلوم أنه يعود إلى أحد احتمالات عديدة، من أهمها، دفن الأسرار مع المقتول، أو عدم كفاية الأدلة ضده، أو الخشية من تحمل مسؤولية محاكمته بما قد يؤجج مشاعر التعاطف معه، ويدفع موالين لمحاولات استنقاذه، أو هي لمنعه من التصرف في أمواله وتبديدها، أو لإحداث صدمة نفسية تجمد أطراف نظرائه.. إلى غير ذلك، والعقيد في الحقيقة هو أحد المقصودين ببعض هذه الاحتمالات.

 

وإذا كان الناتو قد "أسدى للثوار معروفاً" بتحديد مكان اختباء القذافي، أو مسار موكبه ـ بحسب أقرب الروايات للصحة ـ فإن زعماءه السياسيين لابد يدركون المصير المتوقع أو المأمول للقتيل وابنه إن وقعا في أيدي تلك المجموعة بالذات من الثوار، هذا إن لم يكونوا هم من أصدر الأوامر بتصفيته إذا لم يكونوا قد حاولوا قتله بالفعل عبر الطائرات الفرنسية والأمريكية أو الفرنسية فقط بحسب الروايات الغربية غير الرسمية والرسمية.

 

القذافي مقتولاً بطريقة مهينة أفضل منه وراء القضبان، هكذا يفضل كثيرون في لندن وباريس وروما وواشنطن وبنغازي؛ فالأولى لا تصنع منه شهيداً أمام البسطاء، كما أنها ترفع الحرج عن تلك العواصم التي تعاونت مع العقيد في ملفات عديدة تحفل بها سنوات حكمه الممتدة عبر العقود تعاون خلالها مع كثير من الحكومات الغربية التي لا يسرها أن يفتح ملف التعاون الاستخباري مع نظام العقيد إن في ملاحقة "الإرهابيين" أو في ملف تصفية الجيش الجمهوري الايرلندي الذي كان يموله القذافي، أو في صفقات الأسلحة، أو في تمويل بعض الحملات الانتخابية (كحملة ساركوزي التي تحدث عنها العقيد مؤخراً وقد تكون روايته عنها صحيحة)، أو في لململة تركة الاتحاد السوفيتي من المنظمات والحركات التي كان للقذافي علاقة بها.. والأهم من كل هذا، عشرات المليارات من الدولارات التي كان العقيد الليبي يحتفظ بها في بنوك غربية، ولا يود الغرب كالعادة أن يعيدها إلى الشعب الليبي في أي صورة كانت.

 

وما يحمل على تعزيز افتراض التصفية أكثر من عفوية القتل، ما لا يمكن تخيله عن عدم وجود خطة لدى الثوار وقيادة المجلس الانتقالي الليبي لعملية صيد القذافي والإتيان به حياً وكيفية الحفاظ على حياته لاعتباره كنز أسرار لا يمكن التفريط به، لاسيما أن كثيرين ترجح لديهم أن حاكم ليبيا الراحل كان لم يزل في مدينة سرت، مسقط رأسه، ومأرزه المنطقي، وبالتالي فحصول ارتباك أو انطلاق رصاصة طائشة ليس أمراً وارداً بكل تأكيد في مثل هذه الحالات، كما أنه لا يفترض كذلك أن يسقط الرجل في اشتباك تالٍ مع فلوله، لم يكن متاحاً حينها أن يدفع هذا الصيد إلى الخطوط الخلفية للقتال، كذلك فوقوف الرجل على قدمه يدحض فرضية مقتله متأثراً بجروحه.

 

وعموماً فإن قرارات التصفية ليست جديدة على العواصم الغربية التي دأبت في الآونة الأخيرة على قتل خصومها وحتى عملاءها الذين يسبب بقاؤهم على قيد الحياة لها الضرر، سواء للأسباب السالفة الذكر، أو لأخرى قد تتعلق بعبء المحاكمات ذاتها، أو ضعف الأدلة الجنائية لديها أو للتخوف من قدرة الأسرى على استقطاب المشاعر العاطفية، والشفقة أحياناً، والرغبة في الانتقام من قاتليهم في كثير من الأحيان، مثلما كان الحال مع الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، لاسيما أن القذافي البعيد كل البعد عن شخصية عمر المختار العملاقة كان يتوهم كثيراً أنه وريث نضاله ويحاول أن يوحي بذلك، وربما يسعى لكسب شيء من التعاطف وتأجيج الشعور القبلي لدى بعض أقاربه وعشيرته.

 

ظفرت الولايات المتحدة من قبل ببن لادن، ولم ترد أسره رغم اعترافها بأنه كان أعزل، ولها أسبابها التي تختلف بطبيعة الحال مع تلك المسوقة حول القذافي، وحاصرت الزرقاوي، وصفته رغم وقوعه في دائرة محدودة يمكن السيطرة عليها بشتى أنواع الأسلحة ومنها المخدرة له ولحراسه، وفعلت فرنسا الشيء ذاته مع رولان كابيلا بعد إحكام السيطرة عليه، وهكذا، فقرار التصفية راجح حينما تكون كلفة البقاء على قيد الحياة باهظة، وفي الحالة الليبية قد يحدث توافق بين إرادة الخارج ورغبات الداخل في غياب القذافي بتلك الطريقة؛ فقضية الإسراع في تصفية الوجود الحر في الثورة المسلحة أضحت ملحة، و"تشجيع" ثوار على تصفية العقيد مدعاة للتعجيل بتكوين الجيش والشرطة الليبية وفقاً لمعايير جديدة تستبعد أو تحد من نفوذ الإسلاميين الذين "قد يثيرون المشاكل" الآن للغرب إن بقي العقيد أسيراً ملهماً لأنصاره بالثورة المضادة.

 

ومن جهتهم، لا يجد الثوار أو المجلس الانتقالي في داخلهم حماسة لبقاء العقيد على قيد الحياة ولو لشهور المحاكمة لأن في ذلك كلفة زائدة في العمليات العسكرية من الناحيتين البشرية والمادية، كما أن محاكمته قد تطال بعض الرموز التي أكلت على مائدته ومائدة الثورة معاً، وهو ليسوا قلة في الحقيقة داخل المجلس الانتقالي، كما أن تحذير رجل الغرب في ليبيا محمود جبريل عن الفوضى التي قد ترث نظام القذافي، يمكن ترجمته على الفور بنفوذ متنامٍ تخشى واشنطن وباريس ولندن من تغذيه على بقاء حالة الحرب في ليبيا إلى أجل أبعد من الآن.. كل ذلك جعل الجميع يصم أذنيه عن تصريح رسمي بالغ الغرابة لوزير الدفاع الليبي، قال فيه إن القذافي قد "اغتيل بعد اعتقاله"، وهو ما يعد جريمة حرب في عرف القانون الدولي.. وأطرف ما في كلامه هذا ليس فقط اعتراف نظامه بالقتل خارج إطار القانون، ولكن أيضاً في استخدامه اللغوي لكلمة "اغتيال"، والتي تعني القتل غيلة أي دون استعدادٍ للدفاع عن النفس، وإذا كنا لا نفترض أن يكون وزير الدفاع الليبي سيبويه؛ فإننا نفترض به ألا يطلق كلاماً كهذا دون روية لاسيما أن من شجع اليوم على تصفية العقيد ربما يقف غداً مطالباً بدمه، وممارساً ضغطاً على النظام الليبي الجديد من بوابة حقوق الإنسان. 

 

وقد لا يحمل امرؤ مثلي ومثل كثيرين أي تعاطف مع العقيد، أو ذرة شفقة عليه، ويتمنى له نهاية مهينة ومذلة لقاء جرائمه البشعة على مر العقود الماضية، بل ويرونها آية من آيات الله في طاغية متكبر أهانه الله في آخر لحظات حياته، وتجسيداً لدعوة أم شهيد أو أرملة أو مظلوم من ملايين المظلومين في عهده البائس، غير أن هذا جميعه لا يسدل ستاراً على تواطؤ أطراف عدة على تغييبه بهذه الطريقة التراجيدية.