الفضاء المصري بين دعاوى التنظيم وتشويه الإسلاميين
16 ذو القعدة 1432
علا محمود سامي

تعاظم الانفلات الإعلامي في مصر بعد أيام قليلة من نجاح الثورة، وبخاصة من قبل الفضائيات المصرية التي وجدت الساحة أمامها مفتوحة، لتبث كثير منها ما تراه، غير عابئة بما يمكن أن يقيدها، من ميثاق شرف إعلامي، أو ضوابط مهنية وأخلاقية،وكأنها رأت  الفرصة سانحة أمامها لتعوض سنوات من الحرمان والقهر التي عاشتها إبان النظام البائد، فراحت تغالي وتزايد على المشاهد في قلب المائدة، بعدما كانت تضع لنفسها خطوطا حمراء تجاه نظام مبارك المخلوع فانتقلت إلى الانقلاب عليه، ودعم الثورة ، بصورة أو بأخرى، وهو ما فعله الإعلام الرسمي ذاته أيضا، ولم تتوقف مثل هذه الفضائيات عند هذا الحد من المزايدات، بل راحت تغالي في تشويه صورة الإسلاميين والتخويف منهم والتحريض عليهم.

 

وظلت هذه الفضائيات على سلوكها المشين هذا، إلى أن انكشف زيفها، ومعها ثلة من الصحف المحسوبة على تيارات بالية ورأس مال فاسد ، وأدركت أن هذا الزيف سيفقدها جمهورها ومشاهديها ،  فتحولتْ  إلى وسائل أخرى، لتدخل ضمن حزمة جديدة من حملات الإقصاء والتشهير بالآخرين، وعلى رأسهم الإسلاميون.

 

أمثال هذه الفضائيات استثمرت مناخ الحرية الذي ساد ولا يزال يسود مصر، وراحت تبث سمومها بحق التيار الإسلامي، حتى أضحى المشهد الإعلامي في مصر يوصف بأنه يعاني انفلاتا إعلاميا، على غرار الانفلات الأمني، الذي تقوده بقايا النظام السابق، وهو تيار مريض يفهم المعارضة على أنها توجيه الاتهامات للتيار الإسلامي، بل والقدح فيه، وإنهاك مقومات الدولة وسيادتها، ومحاولات إسقاط هيبتها.

 

هذا الانفلات الإعلامي، لم يكن انفلاتا فكريا أو إقصائيا فقط، بل كان انفلاتا أخلاقيا أيضا، دون التزام بمواثيق شرف إعلامية، أو ضوابط أخلاقية، أو معايير مهنية ، تعرف البناء ، وليس الهدم، تسعى إلى نشر الحقيقة، وليس الشائعات والأراجيف.

 

ولكن ووفق العبارات الأخيرة ، أصبح المشهد الفضائي في مصر يعاني انفلاتا إعلاميا لافتا ، وتعاظم هذا الانفلات بسماح السلطات بإنشاء فضائيات جديدة بعد ثورة 25 يناير، فسلكت نفس المسلك ، حتى أصبح المشاهد أمام سيل من الإعلام الهادم، الذي يسعى إلى إثارة الفتنة بين أبناء الشعب الواحد ، من تأجيج  نعرات طائفية تارة، وحملات تشويه تارة أخرى، وما بينهما من حالات إقصاء وتشهير، يصاحبهما تزييف مدروس ومتعمد.

 

واللافت أنه في ظل هذا السيل الفضائي، الذي انفتح بعد ثورة 25 يناير، لم يكن للإسلاميين نصيب منه،  وعندما حاول محسوبون على التيار الإسلامي بث فضائيات أو إصدار صحف جديدة ووجهوا بقرار يجمد منح تراخيص فضائيات جديدة، علاوة على تعطيل إصدار الصحف، الأمر الذي أصبح يضع المراقبين للمشهد الإعلامي في مصر أمام مخاوف بأن تكون هذه الأجواء بمثابة ردة إلى الوراء، والعودة إلى زمن وزيري الإعلام السابقين صفوت الشريف وأنس الفقي عندما كان لا يعلو صوت على صوت تشويه الإسلاميين والاستهزاء بهم.

 

وأيا كان التفسير بأن القرار كان لتنظيم المشهد الإعلامي أكثر من أن يكون موجها ضد أي تيار أو فكر ، فإنه وفي إطار التنظيم ذاته، فان العديد من الفضائيات القائمة ترتكب ليل نهار كل ما يحمل إقصاء ومخالفة بحق الإسلاميين، وتغييب صوتهم، ومناقشة مختلف القضايا في غيابهم، إلا من أشخاص محسوبين عليهم، ضعاف الرأي والحجة، يتم استضافتهم عمدا أمام ضيوف من تيارات أخرى لا يتصفون  بغير المراوغة والبذاءة أمام مخالفيهم من الإسلاميين، الذين  لم ينضج البعض منهم إعلاميا ، ولم يكتسبوا الحجة القوية، جراء سنوات التقييد والاعتقال وكبت الحريات ، ومن ثم عدم إدراك مراوغات الإعلاميين المخادعين من أنصار التيارات الليبرالية.

 

وإذا كانت النوايا صادقة بشأن التجميد المؤقت لمنح تراخيص البث الفضائي بأن يكون هدفه التنظيم ، فإنه حري بالمسؤولين في مصر أن يضعوا أسسا لإعلام هادف ونظيف، فليس مقبولا أن يكون هناك إعلام يسعى إلى تشويه ، يكاد يصل إلى درجة من الانفلات الفضائي، وسط زخم ثوري يدعو إلى الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، فأبسط حقوق المواطن أن يكون حرا ويستشعر بتحقق العدل في مجتمعه، ولا تتحقق الحرية هنا بالطعن الإعلامي في ذوات الآخرين، أو القدح فيهم، ولكن تنتهي الحريات دائما عند حريات الآخرين، وخاصة إذا كان الأمر يرتبط بالدين، وهو الحال الذي لم يعد الليبراليون وقوى اليسار عموما يفقهونه في مصر، الذين يعتقدون أن الطعن في الدين حق لهم، وأن التبصير به غير جائز لمتخصصيه.

 

وإذا كانت مصر الثورة  تسعى إلى تأسيس إعلام يعبر عن الثورة، فلابد من إشاعة إعلام هادف ونظيف، ليس بالضرورة أن تراقبه الحكومة أو الدولة، ولكن ينبغي أن تكون هناك مواثيق شرف إعلامية  تضبط عمله، ومعايير مهنية يتم الاهتداء بها ، تعمل على تنظيمه، فإن ذلك سيكون تصحيحا لمسار إعلامي، ظل  النظام السابق يرعاه لإفساد البلاد والعباد، حتى آل  الحال إلى ما كنا نشهده وندفع ثمنه، إلى أن قامت الثورة، والتي من الضروري أن يستتبعها إعلام صحي وهادف ونظيف، وإلا فإن قادم الأيام سيثبت حقا أنه لن يصح إلا الصحيح، وأن المجتمع التواق إلى الإسلام، حتما سيلفظ مثل هذه السموم الإعلامية، كما رفض من قبل الاستبداد السياسي، والذي صاحبه الاستبداد الإعلامي أيضا.