انتزاع النصر .. بطولات لأهل الشام في مقاومة الغزو الصليبي
20 شوال 1432
د. محمد العبدة

في كتابه (الاعتبار) يذكر لنا البطل المسلم والشاعر والمؤرخ أسامة بن منقذ الكناني بعضاً من بطولات المسلمين في بلاد الشام وهم يقاومون الغزو الصليبي الذي دخل بلاد االشام عام 491 هـ , بطولات نادرة , ونحن نرى اليوم ما يماثلها من بطولات الشعب السوري في مقاومة الطغيان والظلم والإجرام الأسدي , ليس غريباً أن يكون الأحفاد مثل الأجداد , فهي أرض مباركة تتولى دائماً الجهاد ضد أعداء الأمة , وحماية لبلاد الإسلام الأخرى , إنها مشاهد رائعة من الثباب والتماسك والتدافع على الفداء , والإيمان بالقدرة على اتنزاع النصر بإذن الله وهو الإحساس العميق بالتفوق الحضاري والفكري على هؤلاء المتوحشين الذين يقتلون الأطفال والشيوخ والنساء ويهدمون البيوت ويسرقون الأموال.

 

يروي أسامة نماذج من هذه البطولات , يقول :"هاجم عسكر الإفرنج يوماً شيزر (وهي القلعة التي تملكها أسرة أسامة وكان عمه أميراً عليها وتقع شمالي حماة) وقد خرج من القلعة في ذلك اليوم راجل كثير , فحمل عليهم الإفرنج فما زعزعوهم , فحرد (دنكري) وقال لفرسانه : أنتم فرساني , وكل واحد منكم له ديوان (عطاء) مثل ديوان مئة مسلم , وهؤلاء سرجنت (رجالة , ومشاة) وما تقدرون تقاسموهم في موضعهم , قالوا : إنما خوفنا على الخيل , قال : الخيل لي , من قتل حصانه أخلفته عليه , فحملوا على الناس عدة حملات , فقتل منهم سبعون حصاناً وماقدروا يزحزحونهم  عن مواقفهم..".

 

ولم تقتصر الشجاعة على الرجال فقد كان في نساء المسلمين مثل (بريكة) العجوز التي وقفت على النهر تسقي الناس في ذلك اليوم ولا يروعها ذلك الأمر العظيم.
وربما تقدمت المرأة المسلمة لغسل عار الخيانة , فقد كان احد المسلمين التحق بجذمة (يتوفيل) الإفرنجي صاحب كفر طاب ,وكان يبالغ في أذى المسلين وأخذ مالهم وسفك جمهم , وامرأته تنكر عليه فعله وتنهاه فلا ينتهي , فأحضرت نسيباً لها – أظنه أخوها- وأخفته في البيت الى الليل , واجتمعت هي وهو على زوجها وقتلاه , يقول أسامة: وأصبحت عندنا بشيزر , وقالت : غضبت للمسلمين مما كان يفعل بهم هذا الكافر , وكانت عندنا في الكرامة والاحترام" ويتابع ابن منقذ :" ودهم الإفرنج شيزر في يوم آخر , دلهم جاسوس على مخاضة في نهر العاصي خاضوها وملكوا المدينة ونهبوا وسلبوا وقتلوا وملكوا الدور , وعلّم كل واحد منهم صليبه على دار ركز على رايته , ثم طلع على الناس والدي وعمي – وكانا بعيدين عن المدينة- فكبر الناس وصاحوا, فألقى الله سبحانه على الإفرنج الرعب والخذلان , فذهلوا عن الموضع الذي عبروا منه ورموا خيلهم وأنفسهم في غير مخاض , فغرق منهم جماعة كثيرة , ومضى من سلم منهم منهزمين , وهم في جمع كثير , وأبي وعمي معهما عشرة مماليك..."

 

وبعد انتهاء إحدى المعارك رأى أسامة رجلاً يخفي يده , فلما سأله عن سبب ذلك قال : تقابضت أنا والإفرنجي وما معي عدة ولا سيف فرميته ولكمت وجهه عليه اللثام الزرد حتى أسكرته, وأخذت سيفه قتلته به , وتهرأ الجلد على عقد أصابعي , وورمت يدي فما تنفعني , وأظهر لنا يده وهي كما قال قد انكشف عظام أصابعه"

 

وهذه الشجاعة والبطولة هي في سبيل الله وليست لغايات دنيوية يقول أسامة عنهم:"ومن الناس من يقاتل كما كان الصحابة رضوان الله عليهم , يقاتلون للجنة لا لرغبة ولا لسمعة , ومن ذلك أن ملك الالمان الإفرنجي لعنه الله لما وصل الشام اجتمع اليه كل من بالشام من الإفرنج , وقصد دمشق , فخرج عسكر دمشق وأهلها لقتالهم , وفي جملتهم الفقيه (الفندلاوي) والشيخ الزاهد عبد الرحمن الحلحولي , وكانا من خيار المسلمين , فلما قاربوهم قال الفقيه لعبد الرحمن : أهؤلاء الروم؟
قال : بلى
قال : فإلى متى نحن وقوف ؟
قال : سر على اسم الله تعالى , فتقدما وقاتلا حتى قتلا رحمهما الله في مكان واحد.
ومثلهما رجل يقال (حسن الزاهد) وهم الإفرنج المسجد وهو واقف يصلي, والناس من يعبد يقولون : لا حول ولا قوة إلا بالله , الساعة يقتلونه , يقول أسامة : "فلا والله ما قطع صلاته , ولازال عن مكانه , وعاد الإفرنج نزلوا وركبوا خيلهم وانصرفوا, وهو واقف مكانه يصلي".