رحل رمضان
7 شوال 1432
منديل الفقيه

قبل أيام كنا في صلاة وصيام وذكر ودعاء وصدقة وإحسان وصلة للأرحام ، كنا قبل أيام نشعر برقة القلوب واتصالها بعلام الغيوب لقد كانت تتلى علينا آيات القرآن فتخشع القلوب وتدمع العيون فنزداد إيمانا وخشوعا وإخباتا لله تعالى ، ذقنا في تلك الأيام حلاوة الإيمان وعرفنا حقيقة الصيام وذقنا لذة الدمعة وحلاوة المناجاة في السحر كنا نصلي صلاة من جعلت قرة عينه في صلاته وكنا نصوم صوم من ذاق حلاوته وعرف طعمه كنا نتقلب في أعمال الخير وأبوابه بل عاش أكثرنا عيشة الملائكة في تلك الأيام التي لا تأكل ولا تشرب ولا تعصي وتفعل ما تؤمر به حتى تمنى بعضنا دوام تلك الأيام أو يتوفاه الله وهو على تلك الحال ثم رحل رمضان ولم يمض على رحيله سوى ليال وأيام حتى أنكرنا قلوبنا ولربما رجع تارك الصلاة لتركه وسامع الغناء لسماعه ومشاهد الفحش لفحشه رحل رمضان ولربما هجرنا القرآن وقد كنا نقرؤه طيلة النهار رحل رمضان ولربما نسينا الصيام  رحل رمضان وربما لم نذق طعم القيام ولا ليلة فأين ذلك الخشوع وأين ذلك الركوع والسجود أين ذلك التسبيح والاستغفار وأين تلك المناجاة

 

 

رحل رمضان وقد كان خير عون لنا على طاعة الله فنحن ما بين قارئ وقائم وبكاء وخاشع وداع ودامع ، كانت مساجدنا معمورة بالمصلين وآيات الله تتلى كل حين كان رمضان للمتقين روضة وأنسا وللغافلين قيدا وحبسا فيا شهر رمضان ترفق دموع المحبين تدفق قلوبهم من ألم الفراق تشقق رحل رمضان ورحيله مر على الصالحين لأنهم فقدوا أياما ممتعة وليال جميلة نهارها صدقة وصيام وليلها تلاوة وقيام نسيمها الذكر والدعاء وطيبها الدموع والبكاء فشعروا بمرارة فراقه وأرسلوا الدموع والزفرات على فراقه وكيف لا يفعلون ذلك وهو شهر البركات والرحمات وشهر تكفير السيئات وإقالة العثرات ومغفرة الذنوب والخطيات كيف لا يحزنون لفراقه والدعاء فيه مسموع والشر فيه مدفوع والخير فيه مجموع كيف لا يبكون على رحيله وهم لا يعلمون أمن المقبولين فيه أم من المطرودين كيف لا يبكون على رحيله وهم لا يعلمون هل يعود عليهم مرة أخرى أم لا يعود إلا وهم في القبور واللحود ، قلوب الصالحين بعد رمضان خائفة وجلة من عدم القبول كما كان حال السلف قال عبد العزيز بن أبي رواد " أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح فإذا فعلوا وقع عليهم الهم أيقبل منهم أم لا " فيا ليت شعري من المقبول منا فنهنيه ومن المحروم منا فنعزيه = ليت شعري من فيه يقبل منا = فيهنى يا خيبة المردود = من تولى عنه بغير قبول = أرغم الله أنفه بخزي شديد =

 

والناس بعد رمضان فريقان فائزون وخاسرون فهل نحن من الفائزين أم من الخاسرين ؟ رحل رمضان فمن منا يلهج لسانه بالدعاء أن يتقبل الله منه رمضان أم أننا نسينا رمضان وغفلنا عنه ؟ رحل رمضان فما الذي استفدناه منه وما هي آثاره على نفوسنا وسلوكنا ؟ وما آثاره على أقوالنا وأعمالنا ؟ هذا هو حال الفائزين بعد رمضان حزن وألم على الفراق ووجل من عدم القبول للصيام والقيام وأمَّا المفرطون الخاسرون ونعوذ بالله من حالهم فهم فريقان الأول أناس قصروا في العمل فلم يعملوا إلا القليل ، صلوا بعض التراويح والقيام وقرءوا من القرآن القليل ، ودخلوا المساجد في بعض الأيام فالصلوات المفروضة تشكو من تخريقها ونقرها ، والصيام يئن من تجريحه وتضييعه ، والقرآن يصرخ من هجرانه ودثره ، ألسنتهم يابسة من ذكر الله ، غافلة عن الدعاء والاستغفار ، هم في صراع مع الشهوات حتى في رمضان ، هم يصلون ولكن قلوبهم معلقة بالرياضة والمباريات والمسلسلات يقرأون القرآن ولكنهم يصارعون النوم بعد سهر الليالي والتعب والإرهاق من الدورات الرمضانية والجلسات الفضائية .

 

 

أما الصلاة فالفجر فعليه السلام وربما تبع ذلك الظهر والعصر بسبب التعب والإرهاق ولم ينتبه هؤلاء إلَّا والشهر قد رحل وتجرعوا مرارة الرحيل وحزنوا ولكن بعد فوات الأوان وبعد أن انقضت خير الأيام وأما الفريق الثاني فهم لم يقوموا رمضان ولم يقرءوا القرآن ولربما ضاع الصيام في بعض الأيام ، نهار رمضان عندهم ليل فلا العشر الأواخر عرفوها ولا ليلة القدر قدروها ولا الصلاة أحسنوها فمتى يصلح من لم يصلح حاله في رمضان ؟ ومتى يصح من داء الغفلة من لم يصح في رمضان ؟ مساكين هؤلاء فاتهم رمضان وفاتهم خير رمضان فأصابهم الحرمان وحلت عليهم الخيبة والخسران قلوب خلت من التقوى فهي خراب بلقع ، فلا صيام ينفع ، ولا قيام يشفع ، قلوب قاسية كالحجارة أو أشد حالها في رمضان كحال أهل الشهوات فلا الشاب منهم ينتهي عن الصبوة ولا الشيخ منهم ينزجر فيلحق بالصفوة ، فيا أيها الخاسر رحل رمضان وهو سيشهد عليك بالخسران وسيكون خصماً لك يوم القيامة ، رحل رمضان وهو يشهد عليك بهجر القرآن ويا ويل من جعل خصمه القرآن ورمضان فيا من فرط في عمره وأضاعه كيف ترجوا الشفاعة من رمضان والقرآن أتعتذر برحمة الله وتقول إن الله غفور رحيم فنقول نعم إنَّ الله غفور رحيم ولكن رحمته قريب من المحسنين العاملين بالأسباب الخائفين المشفقين سئل ابن عباس رضي الله عنه عن رجل يصوم النهار ويقوم الليل ولكنه لا يشهد الجمعة والجماعات فقال هو في النار .

 

وعن مالك بن الحويرث رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر فقال :( آمين آمين آمين فقيل له في ذلك قَالَ أَتَانِي جِبْرِيلُ فقَالَ يَا مُحَمَّدُ مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ قُلْتُ آمِينَ ". كم هم أولئك المبعدين عياذ الله من حالهم . فيا أيها الخاسر رحل رمضان وربما خسرت خسارة عظيمة ولكن الباب ما زال مفتوحاً وما زال الخير مفسوحاً قبل الغرغرة  وقبل بلوغ الروح الحلقوم فتنبه من غفلتك وأبك على نفسك وقل لها ترحل الشهر والهفاه وانصرما = واختص بالفوز بالجنات من خدما = من فاته الزرع في وقت البذار فما = تراه يحصد إلا الهم والندما = طوبى لمن كانت التقوى بضاعته = في شهره وبحبل الله معتصما = وإن الله تعالى رحمته واسعة لمن أقبل عليه هو الرحيم الذي خاطب المسرفين بعظيم مغفرته للذنوب فليس عليهم إلى التوبة والرجوع إلى علام الغيوب " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا .......".

 

لقد مضى شهر كامل وأنت في ركوع وسجود وتصلي من الليل ساعات لا تمل ولا تكل فلماذا تترك القيام بعد رمضان وتنقطع صلاتك ؟ هل تعجز أن تصلي ساعة أو نصف ساعة وقد كنت تصلي الساعات الطوال ، لست غريباً عن قيام الليل فقد ذقت لذة المناجاة وحلاوة السجود روضت نفسك على ذلك فأنت قادر وقد حاولت ونجحت فلماذا تركت قيام الليل بعد رمضان لا تكن يا عبد الله مثل فلان كان يقوم الليل ثم تركه . كنت تقرأ القرآن في رمضان وتحرص على ختمه مرات وقد خرج رمضان والرب هو الرب والقرآن هو القرآن والأجر هو الأجر فلماذا هجرته بعد رمضان لقد كنت تقرأ ربما أكثر من خمسة أجزاء يومياً أتعجز أن تقرأ جزءاً واحداً في ثلث ساعة في غير رمضان تذكر تلك الساعات التي كنت تقضيها مع القرآن في رمضان لتقرأ كل يوم جزءاً حتى تختم كل شهر .

 

مضى شهر كامل وأنت تدعو ربك وتلح في الدعاء مرات في السجود وأخرى عند الغروب ومرات عند السحر تسأل ربك الجنة والرضا وتعوذ به من السخط والنار فهل ضمنت الجنة يوم تركت الدعاء ؟ أم انتهت الغفلة والتقصير يوم تركت الدعاء بعد رمضان ؟ إن من تدعوه في رمضان هو الذي تدعوه في غير رمضان وإن من تسأله في رمضان هو الذي نسأله في غير رمضان فما الذي حدث ولماذا تتوقف وتفتر عن الدعاء إن رمضان وقت إجابة ولكن أدبار الصلوات وآخر ساعة في الجمعة ووقت السحر وبين الأذان والإقامة كلها أوقات إجابة حتى في غير رمضان فالله الله في الدعاء فالمدعو هو المدعو والحاجات هي الحاجات والمسلمون بأمس الحاجة إلى دعواتك الصادقة ، كيف يقطع العبد صلته بالله واستعانته بمولاه وهو يعلم أنه لا حول ولا قوة إلا بالله ، كيف يفتر العبد عن الدعاء والله يقول ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَان )

 

لقد صمت شهراً كاملاً أتعجز عن صيام ثلاثة أيام من كل شهر ، إن كثيراً من الناس حتى من الصالحين لا يعرف الصوم إلا في رمضان مع ما للصوم من فضل وعظيم أجر فقد خصه الله بباب في الجنة واختصه من بين سائر الأعمال فكن أخي الكريم حازما مع النفس وألزمها الصيام لتحظى بعظيم الأجر ودخول الجنان لنقل جميعاً لا للانقطاع عن الأعمال الصالحة بعد رمضان لنحرص ولو على القليل من صيام النفل ولنداوم ولو على القليل من القيام ولنقرأ كل يوم ولو القليل من القرآن وهكذا سائر الأعمال الصالحة لنحيي بيوتنا ونشجع أولادنا على العمل الصالح عن عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ "صلى الله عليه وسلم" سُئِلَ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إلى اللَّهِ قال أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ"  وقد كان عمل النبي صلى الله عليه وسلم ديمة فهل نتعلم من رمضان الصبر المصابرة على الطاعة ولنعود أنفسنا على المجاهدة للهوى والشهوات ، يا من عمل الصالحات في رمضان إياك من العجب والغرور والإدلال على الله بالعمل فإن الله يقول :( وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) فأنت لا تدري أقبل منك أم لا ؟ وهل عملتها كما ينبغي أم لا ؟ وهل كانت خالصة لله أم لا ؟ عباد الله إن من خالط الإيمان بشاشة قلبه لا يمكن أن يهجر الطاعات وقد ذاق حلاوتها وطمعها وشعر بأنسها ولذتها في شهر رمضان لقد سأل هرقل أبا سفيان عن المسلمين وقال هل يترك أحد منهم دينه بعد ما دخل فيه فقال أبو سفيان لا فقال هرقل تلك بشاشة الإيمان إذا خالطت القلوب . فهرقل يعلم أن من ذاق طعم الإيمان وعرف لذته لا يمكن أن يرجع عنه مهما فعل به . إن ذوق طعم الإيمان ولذة الطاعة هي السر في الاستمرار وعدم الانقطاع ولكن قد يفتر المسلم ويضعف ولكنه لا ينقطع العمل قال ابن القيم :" تخلل الفترات للسالكين أمر لابد منه فمن كانت فترته إلى مقاربه وتسديد ولم تخرجه من فرض ولم تدخله في محرم رجي أن يعود خيراً مما كان "