ليبرالية "المثقفين الجدد".. إقصاء وتهميش وديكتاتورية
19 رمضان 1432
علا محمود سامي

الناظر إلى المشهد الثقافي المصري يتلمس رغبة من أقلية المثقفين، أو من يسمون أنفسهم بالنخبة الرغبة في الاستحواذ على الساحة الثقافية، وكأنها حكرا عليهم، وملكا لهم، فهؤلاء الذين يتحدثون عن الليبرالية والحرية الفكرية، لايرغبون لغيرهم بالبروز أو الظهور للحديث عما يعن لهم من أفكار ورؤى.

 

لم يكد يرى هؤلاء المشهد الذي شهدته مصر في مليونية الجمعة يوم 29 يوليو الماضي، حتى جن جنونهم وقتها شعورا بقيمتهم ودورهم وحجمهم وضآلة فكرهم، وعمق مناوئيهم.

 

وقتها شعروا بسطحية تحركاتهم، وجدية غيرهم، وقتها فقط أدركوا أن ما كانوا ينفخون فيه هو السراب بعينه، وأن ما يطلقه غيرهم هو الزبد بدوره، والذي حتما سيؤتي بثماره، وأن ما عداه هو الهباء المنثور ، الذي لافائدة منه، ولا حياة له.

 

وعلى مدى ثلاثة عقود أو يزيد ، كان يظن أمثال هؤلاء من دعاة الليبرالية الجديدة أو الحداثة الزائفة، أو الاستنارة البغيضة أنهم من المقربين، وأن دخولهم حظيرة النظام السابق، وما كانوا في كنفه بمعية النظام العالمي ، أنهم هم قادة الفكر والتنوير، وأن ما عداهم هم الظلاميون الرجعيون، الذين لا يريدون سوى النهل من كتب صفراء عفى عليها الزمان، أو هكذا يتخيلون زورا وبهتانا.

 

ظل أمثال هؤلاء بانطباعهم هذا طوال العقود الماضية، أنهم هم وفقط على الساحة، كأنهم كمن يكذب كذبة ثم يصدقها، ولم يكونوا يدركون أن غيرهم أغلبية وأنهم هم الأقلية، حتى أدركوا ذلك في مشهد "مليونية الهوية الإسلامية"، فشعورا وقتها بضآلة حجمهم ودورهم وتأثيرهم وفكرهم، إلى غير ذلك من أوصاف الضعف والخمول والبلادة، بعدما ظلوا ردحا طويلا من الزمان يتصورون أن ما عداهم هم الأغلبية الصامتة، التي تنهل من أوراق يسمونها صفراء، فينكرون عليهم النهل منها، مشجعين كل من يخالفهم إلى الاستنارة ، وقراءة الحداثة، والنيل من أفكار الليبرالية الجديدة، أو القديمة فكليها ليبرالية ، لا تعرف سوى الاحتكار والإقصاء والتهميش، وممارسة الديكتاتورية.

 

ظلوا كذلك حتى بعد قيام ثورة 25 يناير، فكانوا يعتقدون أن من عداهم هم من المأجورين لدول نفطية أو لأفكار سلفية ، حسب زعمهم وافتراءهم، إلى أن هالهم مشهد ميدان التحرير في قلب القاهرة، حيث أفزعهم هذا المشهد من سباتهم، غير أنه لم يترجم حلمهم إلى واقع، فلم يكن يتصورون أن الإسلاميين بهذا العدد وبهذا الفكر الذي عكسته مظاهراتهم التي فاقت ثلاثة ملايين متظاهر، أدت بمناوئيهم إلى الدخول سريعا إلى جحورهم، بدعوى الانسحاب، اعتراضا على شعار "هوية مصر الإسلامية"، ولكنه كان يوما قال فيه الميدان كلمته، وعبر فيه عن السواد الأعظم من المصريين إسلامية دولتهم.

 

لسنا هنا بصدد تأصيل ورصد وتحليل لتلك التظاهرة التي فاقت المليونية، بقدر ما يمكن أن نتوقف عن مستقبل سياسية الإقصاء التي يمارسها أمثال هؤلاء بحق مخالفيهم، سواء كان ذلك إقصاء ثقافيا أو إعلاميا ، أو حتى فكريا، فهم ينظرون إلى أن أفكارهم هى التي ينبغي الاهتداء بها، وأن ما عداها هى من الأفكار البالية، التي لاحداثة فيها ، ولا استنارة لها.

 

غير أن مشهد ميدان التحرير أصبح يطاردهم اليوم حتى في خيالهم، فالقوم جن جنونهم عندما رأوا الإسلاميين بهذا العدد، وبهذه الطاعة، بأنه لامبيت ولا اعتصام في ميدان التحرير ، وأنه بحلول المساء على الجميع أن يغادر الميدان، وهو ما ظهر بالفعل ، فعندما حل الظلام، غادر الجميع الميدان، وكأن على رؤوسهم الطير، لم ينقسموا، على الرغم من أنهم كانوا تيارات إسلامية شتى، لم يرفعوا خلال وجودهم شعارات التخوين لغيرهم، بل أكدوا أن الاعتصام حق للجميع، شريطة احترام إرادة الأغلبية.

 

ستظل مليونية "هوية مصر الإسلامية" يوما مفصليا في رصد حال الحركة الإسلامية بمصر، من حيث تقدير حجمها وتأثيرها، مقابل حال غيرهم، فسيظل هذا اليوم تجسيدا لواقع، ترفضه أقلية ، إلا من خيال أفاقوا عليه بالدعوة لمليونية مضادة ، على أكتاف الصوفية، لعلها تؤتي ثمارها، عندما ينشد المتصوفة أناشيدهم البالية، لعلهم يظهرون خلالها أمام الأغلبية الصامتة من القطاع العريض من المصريين بأن هذا هو الإسلام، بهز الرؤوس، وإشعال الدخان، وإطلاق شعارات التخوين، والدعوة إلى الإقصاء.

 

على هذا النحو يسعى دعاة الليبراليون الجدد ومن لف لفيفهم إلى الولوج للشعب المصري من زاوية الإسلام الذي يفهمونه، البعيد عن مناحي الحياة، ذلك الإسلام الاسم، وليس المعنى والجوهر، أو الإسلام المفرغ من كل ما يحمله من قيم ومعان وإصلاح للبشرية دنيا وآخرة، بعدما أثبتت لهم "مليونية الهوية الإسلامية " أن مفتاح الوصول إلى المصريين هو الإسلام.

 

لقد أصبح الدفاع عن الهوية من الأمور التي يبدو أنها ستكون واقعا يشغل كثيرون في الدفاع عنها، فلقد أحسن الإسلاميون الدفاع عن هويتهم الإسلامية، بينما لايزال مناوئيهم يتعثرون في الدفاع عن هوياتهم الزائفة، وكان جراء فشلهم هذا أن شغلوا أنفسهم بسجالات مضادة مع الإسلاميين.
والناظر لما بعد ثورة 25 يناير، يجد القوم يغرقون أنفسهم في أمور خلافية كثيرة مع غيرهم، استغرقوا فيها فغابت أهدافهم، إلا من هدف واحد، وهو شن حرب إعلامية وثقافية وفكرية على الإسلاميين، ذعرا من أن يحصدوا مقاعد "برلمانية" ، يمكن أن تؤهلهم أو تقربهم من سدة الحكم.

 

أمثال هؤلاء لايتركون مرحلة إلا ويصبون فيها جام غضبهم على الإسلاميين، يعارضون من أجل المعارضة، لايستشعرون بأن ثورة قد قامت، وأن البناء هو الأساس ، وأنه خير وسيلة لإقامة نموذج حكم رشيد ، أفضل لهم وللمصريين من معاول الهدم والخلاف.فمنذ نجاح الثورة في إسقاط الطاغية أغرق القوم أنفسهم ومن لف لفيفهم في خلافات حول التعديلات الدستورية، والمطالبة بدستور قبل الانتخابات ، وأوسعوا أنفسهم بأنفسهم حديثا عن الدولة المدنية، وزادوا على ذلك لاتهامات للإسلاميين بالاستقطاب ، واتهامهم بالتخوين والتكفير ، وإثارة الفتن الطائفية وإقامة الحدود، إلى غيرها من الشبهات ، التي طالهم من ورائها خلافات أصبحت تثير الشبهات، وعجز عن البناء، غير الأصوات الزاعقة في الفضائيات، وفشل ذريع عن المضي في الطريق للبناء.

 

سيظل هذا حالهم حتى وقت قريب، مدافعين عن المعارضة من أجل المعارضة، لايعجبهم حال ، ولايسمحون لغيرهم بخطوة إلى الأمام، سيمولن على عرقلتهم كثيرا، وسيشغلوا المصريين أكثر بأمور جدلية، حتى تقول إرادة المصريين القول الفصل في الاختيار ، بين هوية إسلامية، وأخرى تسلخهم عن دينهم، وحتما ستكون النتيجة لمن حشد ثلاثة ملايين أو يزيد في ميدان التحرير.