زيارة إلى تونس
11 رمضان 1432
د. محمد العبدة

غني هذا العالم العربي بشعوبه هذه الشعوب التي لم تؤثر فيها كل هذه التيارات اللافحة التي أتتها من الشرق والغرب، استبداد داخلي وتيارات فكرية تريد اقتلاع الجذور، لم تستطع أن تلغي هذا المكنوز في داخل الصدور من حب للدين وحب للحرية.

 

تونس التي أصابها هذا اللفح أكثر من غيرها، هي التي بدأت بالتغيير، شباب بدأ رحلة العودة إلى الدين، وشيوخ عانوا طويلاً من حكم حاول إقصاء الدين عن كل تدخل في شؤون الحياة، وأبعده عن كل مناهج التعليم، أنهوا جامعة الزيتونة التي كانت منارة علم وإشراق، ومكتبات ودور نشر أفلست وانتهت، هل كانت مفاجأة أن نرى هؤلاء الشباب المتدين، أم أن موجة الرجوع إلى الدين طالتهم قبل سقوط نظام ابن علي ؟ ولكن لماذا لا نقل : انها عظمة هذا الدين الذي لا يمكن أن يلغيه قرار من بورقيبة أو من تلامذته وهل يظن الطغاة أن يمحوا من ذاكرة الشعب جامعة الزيتونة التي كان من علمائها الطاهر بن عاشور وأمثاله، وخرّجت رجالاً كالشيخ ابن باديس، عليهم جميعاً رحمة الله، هل يظنون أن يمحوا من ذاكرة الشعب مدينة القيروان ومسجدها ومؤسسها عقبة بن نافع الفهري، والتي انطلقت منها الفتوحات في الشمال الإفريقي. لن يستطيعوا وإن أبعدوا عن ذاكرة الشعب رجالاً كعبد العزيز الثعالبي ومحي الدين القليبي وغيرهم من الزعماء والذين أسسوا للاستقلال. وهذه المدن العريقة في العروبة والإسلام في الشمال والجنوب، هل يتغير سمتها وكرم أهلها ؟ ليس من طبيعة الأشياء أن يحصل هذا التغيير ولكن يتهيأ للطغاة في كل زمان ومكان ويظنون أنهم يغيرون طبائع الشعوب بقرار رسمي أو بشطحة قلم.

 

استقبلني في المطار شباب كان من المتعذر في زمن ابن علي أن يظهروا بهيئاتهم الحالية، وأن يكون لهم تجمعاتهم ومنتدياتهم ومدارسهم وأحزابهم، بدأت المساجد تعود لطبيعتها، دروس ومحاضرات واجتماعات دون رقابة من الشرطة السرية.

 

أنشئت المدارس القرآنية، والجمعيات الثقافية، وقام نفر بإنشاء جبهة سياسية لتغطية هذا المجال والوقوف في وجه العلمانيين واليساريين، ولكن الدولة لم ترخص لهم بسبب تغلغل رموز النظام السابقة. قام المشايخ وخطباء المساجد باعتصام في جامع الزيتونة احتجاجاً على وزارة الإعلام التي شجعت مدرساً جامعياً الذي ظهر في إحدى القنوات الفضائية الرسمية، وقام بسب الصحابة وتكلم عن الإسلام بكلام لا يقوله إلا ملحد حاقد. كما نددوا بتشجيع وزارة الثقافة للفيلم الذي صدم مشاعر المسلمين وعنوانه ( لا ربي ولا سيدي ) والمقصود من كل هذا استفزاز المسلمين ليقوموا بأعمال من العنف وليقول اليساريون للناس البسطاء وللغرب : هذا هو الإسلام والحقيقة إن هؤلاء اليساريين والعلمانيين خائفون من الانتخابات القادمة ولذلك يسعون لتشويه صورة الإسلام أمام الناس، هؤلاء العلمانيين الذين كانوا ينادون بالحرية والديمقراطية فوجئوا بأن الحرية ربما تأتي بالمتدينين إلى المجلس التأسيسي , وهم يفضّلون الديكتاتورية على أن يأتي الإسلام وتكون له الكلمة. صحيح أن الثورة نجحت في اسقاط الطاغية، ولكن المعركة الحقيقية بدأت الآن , معركة الإصلاح والبناء والرجوع إلى الهوية.ولذلك كثرت الجمعيات الثقافية وهذا توجه صحيح ومناسب في هذه الظروف، ولكن بسبب البعد الطويل عن الفعل السياسي لاحظت أن بعض الشباب يخافون من المستقبل ويتوهمون أشياء مثل رجوع الديكتاتورية على مثال العهد السابق، أويقيسون على ما حصل في الجزائر عام 1991م، قلت لهم : لن يرجع الشعب التونسي إلى الوراء بإذن الله، الذي ذاق طعم الحرية لن يقبل باستبداد جديد، الإصلاح لن يأتي بسرعة كما تتوهمون، هي معركة طويلة ستأخذ وقتاً، بعض التيارات الدينية لم تستطع حتى مواكبة أمثالهم في البلاد العربية حيث المراجعات والاتجاه نحو المشاركة السياسية وبعضها يقلد تقليداً أعمى لما يأتيهم من توجيهات من اخوانهم المشارقة وهذا شيء مؤسف، ولكن هذه التيارات ليست هي الأصل، ولا هي الكثيرة عددياً.

 

إن الحرية ستأتي بهذه الإفرازات، ولكنها ستأتي بإفرازات ايجابية أيضاً، وستكون العاقبة للذين هم أقرب للحق وللمنهج الإسلامي، وأقرب للفطرة التي فطر الله الناس عليها.

 

في هذه الزيارة لا بد أن أشكر الأخ نوفل ابراهيم الذي رتب لهذه الزيارة ومن خلالها تعرفت على بعض العلماء وأئمة المساجد الفضلاء، وألقيت عدة محاضرات في الفكر الإسلامي في تونس العاصمة ومدينة ( نابل ) وكل هذه المحاضرات كانت في المساجد التي امتلأت بروادها، ولم يكن هذا ليحصل لولا أن مَنَّ الله على أهل تونس باسترداد الحرية التي سلبت منهم في العهود السابقة، كما أشكر جمعية ( تراحموا ) لتحفيظ القرآن الكريم التي رتبت لدورة شرعية، وتعرفت من خلالها على جمعيات أخرى لتحفيظ القرآن الكريم. نتمنى للشعب التونسي كل خير في ظل الإسلام إن شاء الله.