الحرب على البوسنة مستمرة إعلامياً
7 رمضان 1432
عبد الباقي خليفة

التقاء فلول الشيوعيين وغلاة القوميين ومصالح الغرب ضد الشعب المسلم!!

هل هناك علاقة بين كل من الديكتاتورية والديمقراطية مع وسائل الإعلام، وما هي نقاط التلاقي والاختلاف في كل حالة  وما الحدود الفاصلة بينهما؟. وهل تحررت وسائل الإعلام من التأثير المباشر للسلطة في دول يوغسلافيا السابقة، كنموذج بعد التحول من الشمولية إلى (الديمقراطية) وبأي كيفية؟. وما هي مراكز التأثير الجديدة على حرية الإعلام في المنطقة، والمظاهر"القمعية" للإعلام في العهد "الجديد"؟

 

بحسب تقويم  منظمة (مراسلون بلا حدود)، فإن دول غرب البلقان تتمايز نسبياً في مجال حرية الإعلام ، حيث جاءت صربيا في المرتبة 85 وكرواتيا حازت على المرتبة 62 والبوسنة على المرتبة  47 ، وسلوفينيا على المرتبة 46 ، ومقدونيا ومقدونيا على المرتبة 68 ، وجاءت رومانيا في المرتبة 52 وبلغاريا واليونان في المرتبة 70 ، وروسيا في المرتبة 140 بينما تحتل كوسوفا المرتبة 92 بعد أن كانت قبل عام في المرتبة 75 في حرية الصحافة، والجبل الأسود في المرتبة 104. وقد أعربت نقابة الصحافيين في صربيا في وقت سابق عن انزعاجها من تخلف بلادها في مجال حرية الصحافة وقالت: إن "الإعلام لا يزال ضحية لأوجه القصور والأخطاء المنهجية" التي وصفتها بالحالة الصعبة". ورأت بأن "التنمية لن تجد طريقها في صربيا والمنطقة ما لم تكن الصحافة حرة".

 

لذلك كان من جملة الأسئلة التي طرحناها على طيف من صحافيي المنطقة، إضافة لما سبق ذكره، السؤال الأهم وهو: كيف ينظر الإعلاميون لهذه القضية بعد عشريتين من انهيار النظام الاشتراكي الصارم في يوغسلافيا السابقة؟ وذلك بعد متابعة دقيقة لما يدور في ساحتها على مدى العقدين الماضيين.

 

قال الإعلامي المخضرم منصور بردار لـ"المسلم": "بصفة عامة لا توجد حرية صحافة بالمعنى المطلق والحرفي للكلمة، سواء في الشيوعية أو الديمقراطية،إلا إذا أخضعنا التقييم الميداني للنسبية، وهنا يمكن القول :إن جرعة الحرية في ظل النظام الديمقراطي أوسع وأفضل منها في العهد الشيوعي أو الاشتراكي" وتابع" دائما هناك ممنوعات، ودائما هناك تأثير، فقد انتقل تأثير السلطة إلى تأثير صاحب الجريدة، والخط التحريري لرئيس التحرير الذي يخضع بدوره لصاحب رأس المال، سواء أكان جهة محلية أم دولية تقوم بالتمويل، فالذي يملك الجريدة أو يمولها لا يكتب ضد نفسه، وإذا حصل ذلك يتم تغيير الطاقم المسؤول أو يتوقف التمويل..إذن الحرية المطلقة في الإعلام، وعلى مستوى غرب البلقان على الأقل، خرافة ". ويعتبر بردار عهد الزعيم البوسني السابق، علي عزت بيغوفيتش نموذجياً، فهو أول رئيس ديمقراطي لبلاده منذ ما يزيد على ألف عام،وقد شهدت البوسنة في عهده حرية تامة، وأتاح للصحف أن تتناوله بالنقد ولم يكن يزيد عن طلب الاعتراف بحقه في الرد، في رسائل إلى رؤساء التحرير". ويضيف" كان يذكرهم بأنهم كانوا يعيشون في نظام يجرم انتقاده، ويسجن معارضيه، وكانوا ضمن المطبلين له، ورغم مظاهر الفساد التي كانت منتشرة لم يكونوا يجرؤون على الكتابة ضده، ولم تكن شجاعتهم التي طفت فجأة، تسعفهم في رفع الصوت،وكانوا يبتلعون ألسنتهم كما يقال في المثل الشعبي عندنا".

 

وكان ممثلون عن الاتحاد الأوربي قد وقعوا مؤخرا في بلغراد 57 اتفاقاً مع وسائل إعلام في صربيا، يقدمون لها بموجبه مساعدة مالية بقيمة 5،3 مليون يورو في السنة . وتأتي المساعدة الأوربية في إطار مشروع (الحوار )  تحت لافتة " دعم الاعلام في مجال الاندماج الاوروبي" بين الاتحاد الاوروبي"ووسائل الإعلام في صربيا، ودول غرب البلقان الأخرى: البوسنة وكرواتيا والجبل الأسود وكوسوفو وألبانيا ومقدونيا.

 

وبموجب المساعدة المذكورة تحصل 25 وسيلة إعلام على 1،8 مليون يورو سنوياً، ابتداء من عام 2011 م، وذلك للاحتفاظ بمحرريها ومراسليها ، وتحسين جودة إخراجها وتدريب كوادرها. إلى جانب شرط عدم مهاجمة، الاتحاد الأوربي، أو إحدى دوله، ويشمل ذلك جميع وسائل الإعلام من صحف ووكالات أنباء وإذاعات ومحطات تلفزيون ومواقع انترنت . وستحصل 32 مؤسسة من منظمات المجتمع المدني على مبلغ سنوي يقدرب 3،5 مليون يورو. وذلك لتعزيز ممارسات حقوق الإنسان ، وتبادل المعلومات، ومكافحة الفساد، واستغلال السلطة.

 

ويرى الكتاب الصحفي، نجاد لاتيتش، وهو شقيق الشاعر والأكاديمي جمال لاتيتش، أن" الجديد على الساحة الإعلامية بعد غروب شمس الشيوعية، هو أن ممارسات المنع من الصدور، والحجب، والعقوبات المادية أو بالسجن، لم تعد قائمة، ولكن السلطة على الإعلامي والصحافي، حصل فيها تغيير،أي تمت عملية تبادل في مواقع السلطة والتأثير، وبالتحديد أخذ رأس المال مكان السلطة، ولكن بحدة أقل" وأشار لاتيتش، إلى أن "وسائل الإعلام الجديدة، كالإنترنت خضعت هي الأخرى لهيمنة رأس المال المحلي والدولي على حد سواء، بينما لا نرى أي جهة اسلامية أولت هذا المجال أي اهتمام، ولذلك هي أحد أهداف هجمات الحملات الممولة من قبل أصحاب المصالح في ذلك" وأردف" بعد الخروج من الاقتصاد الشمولي الموجه، والدخول في السوق الحرة، أصبح التدخل في شؤون الإعلام متعدد الاتجاهات، فلم تعد الصحف ووسائل الإعلام مملوكة للدولة، بل لرجال أعمال، ومستثمرين، وجهات دولية لها سياساتها الخارجية الهادفة للسيطرة على وسائل الإعلام في الدول المتحولة حديثا إلى الديمقراطية".

 

والتحدي أمام الصحافة ( الحرة ) لا يكمن في التمويل فحسب، بل في السلطات القائمة التي قد تَضِيق أحياناً بالنقد اللاذع الذي يوجه لها، وكذلك عصابات الجريمة المنظمة التي طالت جرائمها العديد من الصحافيين الذين نبشوا الملفات المتعلقة بأنشطتها، وأخذت ممارساتها العنفية مكان جهاز البوليس السياسي في الأنظمة الشيوعية السابقة. ومن بين وسائل الإعلام التي خضعت للتمويل الخارجي في صربيا على سبيل المثال، شبكة بي 92، التي تأسست في سنة 1970 م واستغلها النظام الشيوعي السابق للترويج له، ولكنها اليوم تمول من قبل من كانت تصفهم بالإمبرياليين، وهي منحازة للسياسات الأوربية في المنطقة حتى فيما يتعلق بكوسوفا، فهي تنقل وجهة النظر الألبانية، وهو ما عرّض صحافييها للاعتداءات المختلفة .وقد عرفت عدة تغييرات من بوق لاشتراكية جوزيف بروز تيتو.. إلى صوت للقومية الصربية أثناء الحرب، تؤيد الإبادة الجماعية وقيام صربيا الكبرى على جماجم الآخرين.. إلى وسيلة طيعة في يد الممول الأجنبي.

 

ويقول نجاد لاتيتش: إن "الأزمة الاقتصادية عمقت تبعية العديد من وسائل الإعلام للممول، ولخط التحرير الذي يرتضيه" منبهاً إلى أن "أغلب الصحافيين، هم من مخلفات النظام الشيوعي السابق، أو تخرجوا على يد أساتذته في كليات الإعلام، وهناك العديد الذين اختاروا طريقهم بأنفسهم وشبوا عن التوجيه " ويرسم نجاد لاتيتش، خارطة وسائل الإعلام بقوله:" هناك وسائل إعلام طائفية وشيوعية تعرض نفسها للإيجار لكل راغب لديه المال الكافي، وبعض الصحافيين الشيوعيين السابقين أصبحوا قوميين متطرفين، أو أداة للإيجار من أجل لقمة العيش". ويؤكد لاتيتش أن" هناك صحفاً كانت جيدة في أثناء الحرب، منحازة للمظلومين، وعندما تم شراؤها تحولت إلى عدو لمؤسسات شعبها الذي كانت تدافع عنه في فترة الحرب".

 

وبدوره يؤكد المحلل السياسي، أنس دجوزونوفيتش، أن"الأجانب لم يشتروا وسائل الإعلام فقط، بل الكثير من الأحزاب السياسية، التي يرونها قريبة منهم، وهناك معايير يحددونها لمساعدة وسائل الإعلام التي يديرها محليون، وعندما استطاع البعض في البوسنة، إقامة تلفزيون محلي تم إصدار قرار بإغلاقه، ويطالب البعض اليوم بتلفزيون خاص" ومن بين الممولين الدوليين لوسائل الإعلام، مؤسسة العون الأميركي، والاتحاد الأوربي، ومنظمة خاصة تابعة لرجل الأعمال المعروف، سوروش.

 

ويشير دجوزونوفيتش، إلى أن " النظام الشيوعي السابق، كان حريصاً على تفعيل وسائل الإعلام، لدورها المهم في تشكيل الرأي العام، وعندما انهار النظام الشيوعي، وجد الصحافيون الشيوعيون العزاء بعد اليتم في أصحاب المصالح المحليين والأجانب، الذين اشتروا وسائل الإعلام، أو مولوها لأن الكثير من الشيوعيين الذين يديرونها لم يعودوا يمثلون خطراً على أوربا، ولكن يمكنهم أن يساهموا في محاربة ثقافة شعبهم الأصيلة لذلك حظوا  باهتمام خاص، ليس على المستوى الإعلامي فحسب، بل السياسي أيضا" وأردف" لا شك أن بعض اليساريين، انحازوا لقومياتهم، وبعضهم أصبح متديناً، ولكن الذين حصلوا على المال الخارجي هم الذين حافظوا على الحقيبة الشيوعية التي ملئت بالأجندات الرأسمالية، فهم كمن كتب على مطبعة اسم حاوية نفايات أو على سكين صدئة قلم رصاص". وذكر أنس دجوزونوفيتش، أن " الصحف التي تلقت تمويلاً لا تزال تصدر بينما اختفت الكثير من العناوين كمجلة ليليان، وغيرها، لأن خطها التحريري لم يكن مرضياً عنه لدى  من يملك المال".

 

وتعد البوسنة أكثر دول المنطقة خضوعاً لمنطق الممول الأجنبي لهشاشة الوضع فيها" فالتلفزيون الفيدرالي، تم إفراغه من الإعلاميين الذين وقفوا إلى جانب شعبهم في أثناء المحنة، واستبدلوا  بهم في سنة 2000 م عناصر إيديولوجية شيوعية ضمن خطة لإفراغ المؤسسات وملئها ببقايا الشيوعيين، ثم صدر قانون يمنع تغيير الموظفين بتغير الحكومات، وبدا واضحا أن الهدف هو السيطرة على الدولة من خلال السيطرة على الوظائف المهمة فيها، فأي حكومة تأتي لن تقدر على فعل شيء ، لأن من يديرون مؤسساتها ينتمون إلى توجهات أخرى ولديهم أجندة مرسومة " ولم تكتف الجهات الدولية بالسيطرة المباشرة على الإعلام، بل استخدمت رجال أعمال محليين، ربطت مصالحهم بمصالحها، وحولت العديد من وسائل الإعلام ولا سيما المرئية إلى إعلام ترفيه وحسب" ومن أهداف شراء وسائل الإعلام في الأنظمة ( الديمقراطية) منع مهاجمة من يشتريها أو يمولها أو يقدم لها مساعدات مالية . وهناك قضايا رشى حصل عليها إعلاميون من رجال أعمال فاسدين حتى لا يهاجموهم، لكن لا توجد قضية واحدة ضد المؤسسات الدولية في هذا الخصوص.

 

ومع كل ذلك فإن الصورة الإعلامية في غرب البلقان ليست قاتمة تماماً، فهناك صحافيون  قُتِلوا أو أصبحوا معاقين بسبب نزاهتهم، مثل جيلكو كوبانيا، في البوسنة، قبل أن تباع جريدة، نيزافسني، التي كان يعمل بها، لرئيس وزراء صرب البوسنة، ميلوراد دوديك. والصحافية الصربية، راديسلافا دادي فوياسينوفيتش، التي عثر عليها مقتولة في أبريل سنة 1994م، وزرافكوتشوفيريا، في صربيا، الذي قتل سنة 1999م. وتعرض الصحافي تيوفيل بانتشيتش للضرب على يد شابين في بلغراد، وقالا في التحقيقات :إنهما ضرباه لأنه ليس صربياً جيداً، وهما من أنصار المنظمات القومية المتطرفة. وايفو بوكانين، رئيس تحرير مجلة " ناسيونال" في كرواتيا، الذي قُتِل في سنة 2007 م من قبل المافيا المحلية، ولم يعتقل القتلة حتى اليوم.