وتزينت القلوب
6 رمضان 1432
يحيى البوليني

فطر الله جميع مخلوقاته - ذكورها وإناثها - على حب التزين والتجمل عند لقاء من تحب , فما من محب إلا ويريد أن يكون أجمل في عين محبوبه وخاصة عند مقابلته بعد غياب .

والإنسان كما يتزين للقاء شخص محبوب يتزين لمناسبة سارة ينتظرها ويتوق إليها ويحب أن يبدو فيها بشكل أجمل مما هو عليه , وحب التجمل يدفع الإنسان إلى أن يتجمل بما لا يملكه فكثيرا ما نرى من يستعير أو تستعير ما يتم التجمل به من الغير .

وأمرنا الله عز وجل بالتجمل والتزين عند لقائه سبحانه وعند الذهاب إلى بيوته في الأرض فقال سبحانه آمرا لنا جميعا " يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ " ونصحنا رسوله صلى الله عليه وسلم أن نخصص لصلاة الجمعة ثوبين نظيفين لا يُلبسان في وقت العمل حتى يتم الاحتفاء بالذهاب لبيت الله ولقائه , فقال في الحديث الذي رواه الإمام مالك في موطئه  " "مَا عَلَى أَحَدِكُمْ لَوْ اتَّخَذَ ثَوْبَيْنِ لِـجُمُعَتِهِ سِوَى ثَوْبَيْ مَهْنَتِهِ " .

وكان له – صلى الله عليه وسلم - جبة أهداها له المقوقس عظيم مصر فجعلها للعيدين يصلي بها وكان يحب من الثياب البيض ويدعو لاتخاذها فيقول " الْبَسُوا الثِّيَابَ الْبِيضَ، فَإِنَّهَا أَطْهَرُ وَأَطْيَبُ "

وبلغت بأهل الإسلام العناية بالتزين والتجمل والتطيب إلى أن يغسلوا موتاهم ويطيبوهم ويكفنوهم في ثياب بيض ليقينهم بقدومها على الله سبحانه , وكلنا نحب أن ندخل على من نحب في أجمل صورة وأطيب عطر , ونحرص أن نُدخل من نحب على من يحب بأجمل صورة يحب أن يدخل عليه بها .

ويأتي شهر رمضان فيتزين المؤمن لمقدمه لا بتزين ظاهري فقط في ملبسه وتعطره , لكنه يتزين تزينا خاصا , يتزين بقلبه الذي طالما ابتعد وشط في الحياة الدنيا بأفكارها وتلاطم أمواجها واشتداد معاركها الدائبة الدائمة وأتونها الصارخ الذي لا يتوقف وصخبها الشديد الذي لا يرحم , فيأتيه الشهر سكنا لوحه واستعادة لنفسه ويذكره بمقدمه على ربه وعليه أن يحسن عرض نفسه على الله وان يزين قلبه الذي هو محل نظر الله فيقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم  " إن الله لا ينظر إلى أجسادكم , ولا إلى صوركم , ولكن ينظر إلى قلوبكم .

والقلب هو تلك المضغة التي عليها مدار حياة الإنسان الحقيقية في الدنيا والآخرة فبصلاحه يصلح كل شيئ في حياة الإنسان وبفساده يتعرض الإنسان للهلاك في الدارين , فكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم " ... ألا أن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب "

وتتزين القلوب بالانكسار بين يدي الله , بتسليمها بعجزها المطلق أمام الإرادة الإلهية التي تقول للشئ كن فيكون , تتزين بتركها للتكبر والتجبر ومظنة القدرة , تتزين بالإصغاء لكلمات الله والتماس الخير منها بحسن الإتباع للأوامر والنواهي

وأعظم ثمرة يتحصلها القلب هي التقوى بأن يصل القلب لمرتبة القلب السليم الرابح يوم القيامة كما قال ربنا تبارك وتعالى على لسان إبراهيم عليه السلام " وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ, يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ , إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ " .

وكان صاحب خير قلب صلى الله عليه وسلم يخلي قلبه لله في كل وقت ولكنه كان يخص رمضان فكان يخلو بنفسه كثيرا ليناجي ربه ويدعوه وينشغل به عمن سواه ولذا كان يعتكف في رمضان خاصة وكان جبريل يعارضه القرآن فيه ليراجع حفظه صلى الله عليه وسلم  .

إن القلوب الثائرة التائهة في دروب صحراء الأرض التي تسعي سعيا حثيثا للوصول لكل شيئ فتشتت بها السبل وتضيع منها الدروب لتحتاج لأن تتوقف ولو للحظات لالتقاط أنفاسها وتبين طريقها والسكون التذلل بين يدي ربها لعله يهديها إلى اقرب الطرق لتحصل مبتغاها في الدنيا والآخرة

فهل يكون رمضان هذا العام بداية لسكون القلب ؟