أنت هنا

تأثير هذه الأغراض في مشروعية السياحة
2 شعبان 1432
اللجنة العلمية

تقدمت الإشارة إلى بيان مشروعية السياحة وأن الأصل فيها هو الإباحة، ولكن ليس كل أفراد جنس السياحة مباح بل يتفاوت ذلك بحسب الغرض من السياحة والموازنة بين المصالح والمفاسد فيها.
وإذا كانت السياحة بمفهومها اللغوي تشمل مطلق التنقل في الأرض لأي غرض فإن أغراض السياحة متنوعة متعددة وقد يغلب بعضها على مفهوم السياحة وذلك باختلاف الأشخاص والأزمان والأمكنة فتكون بعض الأمور من أغراض السياحة في زمن دون غيره وهكذا.

 

ولهذه الأغراض أثر بالغ في تفاوت الحكم الشرعي للسياحة وتغيره من الإباحة إلى الندب أو الكراهة أو التحريم أو الوجوب فتدور عليها الأحكام التكليفية بحسب الغرض منها كما في الحديث: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه"(20).

 

فتكون السياحة مباحة:
وهو الأصل كما تقدم كالسياحة للنزهة والترفيه البريء النقي من أجل الاستجمام والراحة وطلب الأنس والترويح عن النفس وكذلك السياحة لزيارة الأصدقاء والأقارب للتسلي برؤيتهم والأنس بصحبتهم وكذا السياحة لإنجاز الأعمال والمهام واستثمار الأموال طلباً للربح والغنى والنماء دون تكبر وعلو وأكل للحرام، وكذا السياحة للعلاج والنقاهة وتغيير البيئة وطلب الراحة بذلك، فالتداوي حق وهو فعل الأنبياء – عليهم السلام – وعلل الأجساد تعالج حتى تُرَد إلى الهيئة التي كانت عليها ولوا ذلك لأهملت الأدوية ولم يخلقها الله عبثاً(21).

 

ففي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: "ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شفاء"(22).
وقال الأعراب: يا رسول الله ألا نتداوى، فقال: "نعم يا عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داءً إلا وضع له شفاء"، أو قال: "دواء" الحديث(23).
وقال صلى الله عليه وسلم: : "احرص على ما ينفعك واستعن بالله"(24)، والسفر لطلب العلاج تحقيق لذلك، وفيه تقوية للمؤمن على العبادة، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم العرنيين لما اجتووا في المدينة بالخروج إلى الأرض النزهة والتداوي بألبان الإبل وأبوالها ففعلوا فصلحت أبدانهم(25).

 

وقد تكون السياحة العلاجية إلى مكة للاستشفاء بماء زمزم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه وقد أقام بين الكعبة وأستارها ثلاثين ما بين يوم وليلة ليس له طعام غيره: "إنها مباركة إنها طعام طعم وشفاء سقم"(26).
وقد تكون هذه السياحة إلى الينابيع والعيون المعدنية وهي داخلة في قوله سبحانه: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) (الأنبياء: من الآية30)، وقوله لأيوب بعد ابتلائه بالمرض: (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ) (صّ:42).
وقد تكون هذه السياحة بقصد الأمكنة الرحيبة ليجول النظر في ملكوت السماء والأرض جولاناً يورث الارتياح للأعصاب والبهجة للنفس والسرور للقلب وإزالة الهموم والكدر الذي يمرض الجسم(27).
وقد ذُكر أن الأطباء رَغّبوا مَنْ كَلَّ بَصَرُه بإدامة النظر إلى الخضرة، وقيل في لون السماء: "تأمل ما وضعت عليه السماء من هذا اللون الذي هو أحسن الألوان وأشدها موافقة للبصر وتقوية له"(28).
وهذا من الحكم العظيمة التي أرشدنا المولى سبحانه لاستنباطها بقوله: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ) (قّ:6)، فالنظر إليها علاج لأمراض القلب ووساوسه وهمومه والجسد وآفاته وكلل بصره.

 

وكذا السياحة للاستكشاف والاستطلاع والتعرف على الثقافات والكائنات والأماكن والآثار وتأملها ودراسة تاريخها فكل ذلك على أصل الإباحة، وهذه السياحة قد تكون حاجية أو تحسينية كما تقدم.
وتكون السياحة مكروهة:
إذا غلب عليها الانغماس في الملذات والشهوات المباحة لما في ذلك من تشاغل عن العبادة والطاعة وتقسية القلوب وإضاعة للأوقات وكذا إذا اشتملت على مفاسد لا تصل بها إلى التحريم أو ترتب عليها التفريط في الطاعات والتكاسل عنها ونحو ذلك.

 

وقد تكون السياحة مندوبة:
إذا كان الغرض منها النزهة المباحة وتغيير البيئة والترفيه البريء الخالي من المنكرات والمفاسد للتقوي بذلك على عبادة الله وإيناس الأهل وإدخال الفرح والبهجة إلى قلوبهم وإراحتهم من عناء الدراسة والعمل وتقدم تقرير مشروعية ذلك وأن الأصل إباحته ونية التقوي على العبادة وبر الأهل والوالدين بالإيناس ترتقي به إلى الندب والاستحباب كما تقدم.
وكذا إذا كان الغرض من السياحة زيارة الأقارب والأصحاب وصلة الأرحام طلباً للثواب فإنها تكون مندوبة كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "زار رجل أخاً له في قرية فأرصد الله ملكاً على مَدْرجته، فقال: أين تريد؟ فقال: أريد أخاً لي في هذه القرية، قال: هل لك من نعمة تَرُدُّهَا عليه؟ قال: لا غير أني أحببته في الله عز وجل، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه"(29)، وفي الحديث: "صلوا الأرحام تدخلوا الجنة بسلام"(30).
وكذا إذا كان الغرض من السياحة زيارة المساجد الثلاثة وأداء مناسك حج النفل والعمرة، وطلب العلم النافع غير المتعين بنية حسنة، والتفكر والتدبر والاتعاظ، والدعوة إلى الله، وتعليم الغير الخير وتعريفهم بعادات الأمة الإسلامية وتقاليدها ومبادئها السمحة، وتصحيح التصورات الخاطئة عنها، أو لطلب الرزق الحلال فإنها تكون مندوبة لما فيها من المصالح والفوائد الدنيوية والأخروية.

 

كما تحرم السياحة إذا ترتب عليها مفسدة راجحة أو إضرار بالأهل أو الغير أو ارتكاب للمحرمات أو تضييع لحقوق أو واجبات ونحو ذلك.
فإذا علم السائح أو غلب على ظنه أنه سيتركب في سياحته محظوراً أو سيترتب عليها ضرراً أو منكراً أو إضاعة للواجبات والحقوق ونحو ذلك من المفاسد فإن سياحته محظورة عندئذٍ، لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وإذا كانت سياحته طريقاً أو ذريعة للفساد والإسراف وإضاعة الواجبات ونحو ذلك فإن ما يؤدي إلى محظور محظور مثله، وقد قررت الشريعة سد الذرائع.
وإذا كان في السياحة ضرر على السائح في نفسه أو دينه أو عقله أو ماله أو عرضه فإن الضرر يزال بإزالة سببه وطريقه وهو السياحة.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "إذا أشكل على الناظر أو السالك حكم شيء هل هو الإباحة أو التحريم فلينظر إلى مفسدته وثمرته وغايته، فإن كان مشتملاً على مفسدة راجحة ظاهرة فإنه يستحيل على الشارع الأمر به أو إباحته بل يقطع أن الشرع يحرمه لا سيما إذا كان مفضياً إلى ما يبغضه الله ورسوله"(31).

 

وقد تكون السياحة واجبة:
إذا كانت لأداء فريضة الحج، أو طلب علم نافع متعين، أو طلب الرزق الحلال إن تعذر بأرضه، أو كانت لأداء عمل يلزمه أداؤه ونحو ذلك من الواجبات تقريراً لقاعدة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وأوجب بعض العلماء سياحة التفكر والاتعاظ(32) لعموم قوله سبحانه: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) (الأنعام: من الآية11) فهو وإن كان الغرض منه الدلالة على صدق ما قبلها من الآيات الناطقة بما حل من عقاب الله بالساخرين والمستهزئين برسل الله والخطاب فيه للمشركين المكذبين ليعتبروا قبلهم إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب(33).
والصواب ما قرره أكثر المفسرين من أن الأمر للإباحة لا للوجوب لأنه لم ينقل عن أحد من أهل العلم تأثيم من لم يسر في الأرض للعظة والاعتبار ولأن الخطاب في الآية موجه للمشركين المكذبين للغرض السابق ذكره وهو كافٍ في صرف الأمر عن الوجوب إلى الندب(34).

 

 

____________________
(20) تقدم تخريجه، وينظر: الموسوعة الفقهية الكويتية، (25/26).
(21) ينظر: نوادر الأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، للترمذي (1/44).
(22) أخرجه البخاري، في كتاب الطب، باب ما أنزل الله داء... الحديث، برقم (5678).
(23) أخرجه أبو داود، في كتاب الطب، باب في الرجل يتداوى، رقم (3855)، والترمذي، في كتاب الطب، باب ما جاء في الدواء والحث عليه، برقم (2081)، وقال: حسن صحيح.
(24) أخرجه مسلم، كتاب القدر، باب الإيمان بالقدر، رقم (6774).
(25) اجتووا: أصابهم الجوى وهو المرض، تقول: اجتويت البلد إذا كرهت المقام فيها وإن كنت في نعمة لوقوع الضرر بك بسبب الإقامة بها. ينظر: النهاية لابن الجزري (1/318). والحديث أخرجه البخاري في كتاب الحدود، باب المحاربين، برقم (6802).
(26) أخرجه مسلم، في كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أبي ذر، برقم (6359)، بدون لفظ: "وشفاء سقم" وهو عند الطيالسي في مسنده ص(61)، رقم (457).
(27) ينظر: الدعوة إلى الله تعالى في المواقع السياحية، علي الأحمد، ص(172 وما بعدها)، بتصرف.
(28) مفتاح دار السعادة، لابن القيم (1/207).
(29) رواه مسلم، كتاب البر والصلة، باب في فضل الحب في الله ص (1127)، رقم (2567)، والبخاري، الأدب المفرد، باب فضل الزيارة ص (82)، رقم (354).
(30) رواه ابن ماجه، في كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في قيام الليل، ص (2555)، رقم (1334)، والترمذي، في كتاب الأطعمة، باب ما جاء في فضل إطعام الطعام، وقال: حديث حسن صحيح ص (1840)، رقم (1855)، والبيهقي في سننه، باب الترغيب في فضل العشاء (2/502)، والدارمي، في فضل صلاة الليل (1/405).
(31) القواعد والضوابط الفقهية للمعاملات المالية عند ابن تيمية، عبد السلام الحصين (1/165).
(32) كالشيخ محمد رشيد رضا في المنار (8/290)، بواسطة أحكام السياحة، لهاشم ناقور، ص(41).
(33) المصدر السابق، بتصرف.
(34) المصدر السابق، بتصرف.