أزمة التعلق بالأشخاص
29 رجب 1432
د. خالد رُوشه

 أزمة حقيقية يعيشها مجتمع الدعاة إلى الله حين يتعلقون بالأشخاص , فيقلدونهم في سلوكياتهم ويتشبعون بأفكارهم لدرجة أنك ترى نسخا مكررة لذلك الشخص المتبوع تملأ جنبات المكان المتواجد فيه , فتستطيع أن تقول من النظرة الأولى أن هؤلاء هم أتباع فلان وأولئك أتباع علان , أزمة حقيقية حين يصبح هؤلاء الأتباع مجرد متلقون لما يمليه المتبوع عليهم ومجرد " ريبوتات " يحركها بكلماته وبقناعاته حتى وإن خالفت الصواب !

 

كل الدعوات بدأت بشخص يدعو لفكرته، ومن تعلق الناس بذلك الشخص يقتنعون معه بفكرته وعلى قدر تأثيره في الناس تبلغ دعوته .. وليس في هذا ضرر , إنما الضرر والخطر يكون فيالتعلق  السلبي وفي استمرار التعلق به إذا خالف النهج الرباني الأصيل , والضرر كذلك في التعصب له والتحزب على أفكاره  , كما أن الضرر إذا تعلق به في الطاعة والمعصية فلا يطيع إلا بتقليده وإذا عصاه أو غفل قلده في عصيانه أو في غفلته ..!!

 

لاشك أن الواجب على الداعية ههنا أن يخلص أتباعه من التعلق والارتباط به ونقلهم إلى مرحلة أخرى ألا وهي التعلق والارتباط بالمنهج الذي يحمله الداعية ، وقمة النجاح للداعية أن يتعلق الناس بمنهجه وتستمر الدعوة بعد رحيله أو سجنه أو حتى نكوصه عن دعوته ، وقمة فشل الداعية تكون في استمرار أتباعه في السير خلفه وإن خالف ما كان ينادي به أولا .

 

من أهم سمات هذه الدعوة ااعظيمة ارتباطها بالله سبحانه لا بالمخلوقين الفانين , بل إن كل مخلوق مهما بلغ مقامه هو مطالب أن يدعو ربه أن يثبت قلبه على الإيمان والتقى حيث كان سيد البشر صلى الله عليه وسلم يدعو " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" , إنها دعوة لله، وإلى الله، فهي ليست دعوة أرضية نفعية وليست دعوة لتمكين أشخاص مهما كانوا وقدموا لها، وقد أبان القرآن في عهد مبكر من عمر الدعوة أن هذا الدين لا يرتبط وجوده وقيامه بأشخاص حتى شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن حظ الداعية من الدعوة إكرام الله له إن كان عمله خالصا صوابا، ومن تركها فقد حرم نفسه الخير الكبير , وبهذا يقضى على حظوظ النفس , وتسلم الدعوة وتبقى ولا تتأثر بموت فلان، أو انقطاع علان ..

 

إن الارتباط بالأشخاص والتعلق بهم دون ضابط وتقييد أدى إلى مشاكل كبيرة , و تراجعات أكثر في العمل الإسلامي ومن ذلك  ظهور العصبيات الدينية والتحزبات التي تتحزب على قول عالم أو اجتهاده أو اختياره الفقهي أو الدعوى , ما دعي إلى فتح الباب للشيطان لينشىء العداوة و البغضاء بين أصحاب تلك التحزبات على الرغم من اتفاقهم على شتى الأصول وجميع المبادىء .. وللأسف فإننا قد وجدنا كثيرا من الفضلاء قد سقطوا في هذه الهوة السحيقة وصاروا طرفا في ذلك النزاع !!.

 

ومن ذلك أيضا أن تعود الناس انتظار الشخص الذي يدفعهم دائما للعمل وإذا هم فقدوه أو افتقدوه يضطرب عملهم بل وينقطع سبيلهم وكأنهم اقتنعوا بفكرة المخلص التي كانت سببا كبيرا في ضلال كثير من الفرق  , وكذلك احتكامهم في الدين لسكوت شخص أو رضاه أو إقراره , وعدهم ذلك دليلا شرعيا على صحة الفعل أو السلوك ونسوا أن ذلك لا يمكن أن يعد دليلا شرعيا مهما كان ذلك الشخص الساكت أو المقر , وكذلك ومن أكثر ما يؤلم أن ينسى الأتباع الأخلاق الإسلامية والقيم الرفيعة العالية التي أمر بها الإسلام وسط زحمة الخلاف وعمى التعصب , فتراهم يغضبون ويتنازعون وربما يتصارعون ويقعون في كبائر الإثم والسوء كالغيبة والنميمة والسخرية وامتهان أهل العلم وربما ما هو أكثر ..!!

إن علاقة الأتباع بالداعية في بداية الطريق أشبه بعلاقة الأطفال بمن تربيهم تماما ، وجودها  الأمان من كل مكروه وفي غيابها الضياع والتيه , فلابد لكل مدعو من لحظة فطام ، وصاحب قرار الفطام هو الداعية الذي يحدد وقته وكيفيته .   إنها لحظة صعبة عسيرة على النفس ، ليست على نفس المدعو فقط بل على نفس الداعية أصعب ,  حينما يقرر الداعية أن يتخلص من الهالة التي أحاطه أتباعه بها ، أن يتخلص من سيرهم خلف ركابه يلتمسون منه رأيا أو كلمة ، يتخلص من التصديق التام لكل ما يقول ، يتخلص من تقديس الأتباع برأيه واتهام مخالفه بالجهل أو سوء الأدب .

 إنها لحظة فارقة أن يكون رأي الداعية عند أتباعه  كرأي رجل منهم قابل للنقاش والنقد.. قابلا للموافقة - إن كان موافقا لمنهج اتفقوا عليه - أو قابلا للنقد والرفض لو خالف المنهج .
ويحتاج ذاك الموقف من الداعية إلى التجرد الشديد والإخلاص العظيم لمنهجه كما يحتاج إلى إنكار الذات ، فلا وجود للذات مع المنهج  , لحظة يسأل فيها الداعية ويحتاج إلى إجابة واضحة تماما لا لبس فيها على أسئلة ملحة:  لماذا أفنيت عمري ؟ ولماذا أسهرت ليلي ؟ ولماذا كابدت كل هذه المشاق ؟ هل من أجل الدعوة لمنهجي أم من أجل الدعوة لشخصي ؟ فإذا كانت الإجابة الأولى فيجب على كل داعية أن يخلص الناس من أسر هواه ويدخلهم في أسر لا فكاك منه للمنهج ، وليبذل كل جهده في إعلاء منهجه ووضع نفسه ، ليعلو عندهم المنهج فيكون حاكما لكل فعل أو قول ، وتخضع للمنهج كل الأقوال والأفعال حتى أقوال وأفعال الداعية المؤسس نفسه .

 

ويحتاج الداعية إلى التدرج الشديد مع التأكيد المستمر على أنه بشر يصيب ويخطئ وأنه ليس معصوما ، وعليه أن يكثر من ترديد الكلمات التي تربط أتباعه بمنهجهم وأنه تابع لهذا المنهج .
ولا يتشبث الداعية بقوله إن رده أحد عنه إلى منهجه ، فلا يلوى أعناق النصوص ليثبت صحة ما يقول .

 

 ولا يكون همه غلبة منافسه بل يعلم الناس أن مبتغاه هو الحق مهما كان وأنه يود أن لو غلبه منافسه بالحق ويشرح لهم تطبيقيا معنى مقولة الشافعي : " ما ناظرت أحدا إلا دعوت الله أن يجري الحق على لسانه "
 ولا يتأفف من قول : "أخطأت" في موطنها ,  فإن الاعتراف بالأخطاء مكرمة والإصرار على الخطأ بعدما تبين نذالة ودناءة خلق وحب للسمعة وداء خبيث في القلب منشؤه الكبر .
 وكذلك لا يستنكف عن الاستماع إلى تلاميذه ويعلمهم أن الله قد يفتح على رجل بمسألة لا يفقهها من هو أعلم منه وأكبر.