قراءة في قراءة ابن ثاني لحقيقة التغريب
15 رجب 1432
إبراهيم الأزرق

الحمد لله وبعد، أرسل إلي بعض الأفاضل مقالة للكاتب د. عبدالله بن ثاني بعنوان: "قراءة في أسرار المصطلح الحركي التغريب"، وقد طلب رأيي فيها، فقرأتها ووجدت صاحبها يهون من خطر عظيم حذر النبي صلى الله عليه وسلم منه أمته، وينكر واقعاً أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوعه في الأمة، كما قال: (لتتبعن سنن الذين من قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم)[البخاري]!
ولعلك -أخا الإسلام- لاتجد دعاء ألزم للمسلم من سؤال الهداية إلى الصراط المستقيم، المخالف لصراط الغربيين من يهود ونصارى فمن هو شر منهم من علمانيين وملحدين!

 

ثم إن الكاتب مع هذا التهوين لخطر عظمته الشريعة رمى بالداء غيره فادعى على طائفة -بل سمى معينين دون محاكمة أو بيان علمي- غلوها في الوصف بالتغريب، وحيث أنه أرسل الكلام إرسالاً على عواهنه وادعى ما لابرهان له به، فيكفي في رد دعواه المجردة الامتناع عن التسليم ولاتحتاج الدعاوى المجردة لأكثر من ذلك في ردها.

 

ولهذا لن أقف معها، ولاسيما أن مظاهر التغريب التي تحدث عنها أهل العلم وأنكروها بالحجج البينات، يبصرها أصحاب البصائر، ولكني أعلق على بعض انحرافات المقال المنهاجية باقتضاب.
ومن أهمها ما شغب به في عنوانه حيث وصف فيه التغريب بأنه مصطلح حركي!
ولا أدري هل الرجل يعي ما يقول حقاً؟!

 

هل كان سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله عندما ذكر أن التغريب من الأغراض الخطيرة التي يعمل أعداء الإسلام على تحقيقها، هل كان حركياً؟ وهاك مثالاً واحداً: يقول رحمه الله عن النشرات الدعائية التي تتضمن دعوة أبناء هذا البلد لقضاء العطلة الصيفية في ربوع أوروبا وأمريكا بحجة تعلم اللغة الإنجليزية، يقول إن من أغراضها ما نصه: " تجنيد الشباب المسلم ليكونوا من دعاة التغريب في بلادهم بعد عودتهم من هذه الرحلة، وتشبعهم بأفكار الغرب وعاداته وطرق معيشته، إلى غير ذلك من الأغراض والمقاصد الخطيرة التي يعمل أعداء الإسلام لتحقيقها بكل ما أوتوا من قوة وبشتى الطرق والأساليب الظاهرة والخفية، وقد يتسترون ويعملون بأسماء عربية ومؤسسات وطنية إمعاناً في الكيد وإبعاداً للشبهة وتضليلاً للمسلمين عما يرومونه من أغراض في بلاد الإسلام"[مجلة البحوث الإسلامية 10/7]، وللشيخ رحمه الله فتوى مطولة في وسائل التغريب ودعاته! بل إن بعض الباحثين يعد كتاباً كاملاً عن: جهود سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز في مواجهة التغريب في المملكة العربية السعودية.

 

والتحذير من التغريب وحربه، وفضح أهله ووسائلهم درج عليه أهل العلم في هذه البلاد، وما سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز إلاّ مثال يشعرك بمن بعده! فشيخنا الشيخ العلامة عبدالرحمن البراك حفظه الله له في فضح التغريب والتحذير منه يد طولى، وصاحب الفضيلة العلامة عبدالمحسن بن حمد العباد له جهود مشكورة، من جملتها مقالته الذائعة المشهورة: "دعاة التغريب ومصطلحهم التعددية لانتقاء ما يوافق أهواءهم"، ومما قاله فيه -ولصاحبنا الكاتب حظ منه حيث رمى إلى المنع من الوصف بالتغريب لوجود خلاف- : " إن دعاة التغريب ومتبعي الأهواء والشهوات في بلاد الحرمين يصولون ويجولون ويتشدقون في مسائل العلم الشرعي دون حياء ولا مبالاة، بل وفقاً لأهوائهم وشهواتهم، وإذا كان في المسألة خلاف ولو كان شاذاً طاروا به وانتقدوا غيره ولو كان الدليل فيه من أوضح الواضحات، ويصفون ذلك بالتعددية، ويقولون: إن الأخذ بأي قول من المسائل المختلف فيها سائغ ــ وإن لم يكن لذلك القول حظ من الدليل والنظر ــ لأن التعويل عندهم على انتقاء ما ترتضيه أهواؤهم وشهواتهم، ويصفون الأقوال الصحيحة التي لا تناسب أهواءهم (بالأحادية) منكرين لها، ومن عباراتهم في الإنكار لما يؤيده الدليل وصف ذلك بأنه (احتكار للصواب) وأنه (وجهة نظر) وأنه (الرأي الأوحد) وأن فيه (مصادرة الأقوال الأخرى)".

 

ومن المشايخ الذين لهم جهود تذكر فتشكر في محاربة التغريب صاحب الفضيلة الشيخ العلامة صالح الفوزان حفظه الله، ومن ذلك نصحه لبعض الفضلاء ونهيه له من الاغترار بدعاة التغريب، بقوله: " ولو أن الدعوة إلى السفور جاءت من دعاة التغريب وحدهم لهان الأمر، ولكن الغريب أن تأتي تلك الدعوة من جهة بعض العلماء الذين يفترض فيهم الحرص على صيانة المرأة المسلمة وسد وسائل الفتنة التي يبثها اليوم أعداء الأمة معتمدين على الشبهات واستثمار خلاف العلماء لصالحهم فأرجو من الشيخ العباسي ـ حفظه الله ـ ومن إخوانه أن ينبهوا لدسائسهم ومكرهم ويكونوا سدا منيعا في وجوههم ـ وأسأل الله لنا جميعا التوفيق لمعرفة الحق والعمل به".

 

والاسترسال في هذا غير ممكن فما أحد من كبار مشايخنا إلاّ وله في حرب التغريب والتحذير منه كلمات نيرة وأياد مشكورة، وبمثل هؤلاء وإخوانهم كالشيخ العلامة عبدالله بن قعود، والشيخ الفهامة بكر أبوزيد رحمهما الله، ثم كبار طلابهم وأصحابهم من أهل العلم الدعاة في هذا البلد كالشيخ ناصر العمر، والشيخ يوسف الأحمد، والشيخ عبدالعزيز البداح وغيرهم وفيهم جمهرة مباركة من العاملين بعيداً عن الأضواء كالشيخ فهد القاضي وغيره، بمثل هؤلاء حفظ الله على هذه البلاد تميزها، وبقيت حصونها عصية على التغريب أزمنة كان يعيث فيها فساداً في الدول الإسلامية القريبة والبعيدة، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيراً، ولو وجد هؤلاء المذكرون وأمثالهم نصف ما يلقاه المعممون في إيران من دولتهم لتصدير الثورة الرافضية، أو التغريبيون من المنظمات الغربية والمؤسسات الدولية، لو جدوا نصف ذلك بل أقل لدكوا حصون التغريب في معاقلها.

 

وعوداً إلى المقصود فإني أتساءل هل علماؤنا الكبار حركييون؟ أم تراهم يستعملون ألفاظاً لقنهم إياها الحركيون وهم لا يفقهون مدلولاتها! بينما بصر بها هذا النابت في دبر الزمان الذي كان في رحم الغيب ولم يكن شيئاً مذكوراً يوم مارس هؤلاء جميعاً العلم والتعليم، دائبين على التدقيق في مدلولات الألفاظ وحل العبارات!

 

والعجب أن الكاتب لم يجرؤ في مقاله على إنكار وجود التغريب، لكنه هول على من قال بوجوده! فكأن التغريب عنده شيء موجود لكنه في الذهن فقط فلا يتحدث عنه في الواقع!

 

ولو ناقش الكاتب قولاً بعينه، أو دافع عن أنف متهم بالتغريب لهان الخطب، ولأمكننا أن نحاكم قوله إلى أصول الشرع وأدلته، وهل من نفى عنه التهمة سواء كان شخصاً أو توجهاً أو مؤسسةً تنسجم تصرفاته مع أدلة الشرع، أم مقررات الغرب؟ أما أن يعمد للتهوين من خطر موجود يعلم وجوده فهذا ضرب من غش الأمة وتخديرها أمام عدوها وليس هو من فعل النصحة! واعتبره بمن يهون من خطر الغلو في التكفير والتفجير! مع أن شأن التغريب أشد لأن دعاته يستقوون بالخارج، ولهم من الدعم والمعلن والخفي ما لايوجد عند أولئك، والغلاة يتشددون في الدين، بينما هؤلاء يتحللون منه!

 

وأخيراً.. فإني أنصح الكاتب أن يربأ بنفسه عن الأسلوب الصحفي الرخيص، القائم على الإجلاب بالألفاظ من أمثال لفظ الصحويين والحركيين ونحوهما وإلصاقها بالمصلحين المرتسمين خطى نبيهم الكريم وسلفهم الصالحين، ونحن نعلم أن اللعب بالألفاظ والإجلاب بها على الحقائق خطة قديمة جربها أعداء الرسل معهم، وجربها أهل الباطل من أرباب الفرق مع أهل السنة، فقالوا حشوية وقالوا مجسمة فظهر أمر الله وهم كارهون! وبقية الحقائق كما هي، وتبين الأفاكون.