قبل فوات الأوان !
2 رجب 1432
يحيى البوليني

لكل بداية نهاية , ولكل أجل كتاب , وكل لقاء بعده مفارقة طال الزمان أو قصر , نُغضب أحبابنا أو نغضب منهم , نُفارقهم أو يفارقوننا , نشتط في غضبنا فنُقاطعهم أو يقاطعوننا , نُؤجل إرضاءهم أو يؤجلون إرضاءنا , كل منا يظن أن في الوقت متسعا لنستدرك ما فاتنا , فالأيام قادمة والأحداث ستتوالى وسيكون الزمن جزءً من العلاج , وفي لحظة خاطفة يأتينا الخبر المفجع أو يأتيهم فيأكلنا الندم على ما ضيعنا وفرطنا .

 

كم كانت عقولنا صغيرة وتافهة , كم كانت حساباتنا ونظراتنا خاطئة , كم كانت خلافاتنا بسيطة واستطاع الشيطان أن يعظمها , استبد بنا حظ أنفسنا حتى ضيع كل منا من يحب , ولا مجال بعد ذلك للاستدراك إلا أمام علام الغيوب سبحانه , حيث لا يكون الإرضاء هناك بكلمة اعتذار ولا بطأطأة رأس ولا بتحمل كلمة نقد أو معاتبة أو تقريع , بل سيكون الاعتذار بالحسنات والسيئات في يوم سيكون الكل فيه ذا فاقة وانكسار .

 

رجل يرى أن أمه أو أباه يظلمانه في معاملة مادية أو أدبية , وربما معه كل الحق في شعوره ذلك , فيقرر مقاطعتهما وتمر الأيام وتزداد الفجوة بينهما , لا يستطيع الاقتراب إن أراد , عوامل كثيرة تدخلت , وجدر عازلة هائلة تبنى كل يوم , ما كان هينا عليه في يوم صار عسيرا ويزداد عسرة يوما بعد يوم , كلما تذكر وأراد الاقتراب لا يستطيع ويؤجل ويؤجل , حتى يأتيه الخبر المفجع أن مات أحدهما وهو عليه غضبان , ساعتها لن ينام من الندم وستتملكه الحسرة باقي أيام عمره يتمنى أن يعود فيذهب إليه , يحطم كبره يتحمل أي نقد وأي عتاب مهما كان لاذعا يقبل قدميهما قبل أيديهما .. ولكن هيهات هيهات  ... فالذاهب لا يعود ولات حين مندم .

 

امرأة تغضب زوجها كل يوم , تتسلط عليه وتجلده بسوط كلماتها اللاذعة بإشعاره دوما بالتقصير تجاهها رغم بذله كل ما يستطيع من أجل إسعادها وإسعاد أبنائه , هو يعمل ولا يضمن رزقا فالذي يوزع الأرزاق بحكمته هو الله سبحانه , تزداد الفجوة بينهما رغم أنهما يعيشان تحت سقف واحد , تريد إرضاءه فيمنعها كبرها وخوفها من إظهار ضعفها أمامه , تقرر كثيرا أن تسترضيه فلا تفعل , تلوم نفسها لما تفعله مع زوجها كثيرا , تؤجل وتؤجل وتختلق المعاذير , حتى يخرج يوما لعمله كما اعتاد لكنه لا يعود ويأتيها الخبر المفجع فتنكفئ على نفسها تتملكها الحسرة والندم , تتمنى أن يعود فتعتذر عن كل أخطائها وعن سوء خلقها معه , .. ولكن هيهات هيهات  ... فالذاهب لا يعود ولات حين مندم .

 

أخوان فرق بينهما حب الدنيا , تنازعا في ميراث كل منهما يرى انه ظُلم من الآخر - وربما يكون مع أحدهما الحق المادي - ,  تدب الشحناء بين القلوب وتزداد الفجوة وتحدث القطيعة , ولا يوجد من يستمعان إليه أو من يجمع بينهما , يلتقيان فيعرض كل منهما عن الآخر , كل منهما أسقط الآخر من حساباته تماما , لا يريد أن يتذكره أو يُذكره أحد به أو يَذكره أحد له , يتأسف كل منهما لوجود رابط يجمع بينهما ولو بالاسم فقط , ينشأ أبناؤهما أغرابا لا يعرف بعضهم البعض , ربما يلتقون في مكان فيتولى الناس مهمة تعريفهم بأبناء عمهم , فرق بينهم خلاف آبائهم على لعاعة من الدنيا كل منهما سيفارقها بعد حين الظالم منهما والمظلوم , تزداد الجدر وتتدخل أطراف أخرى تزيد كلا منهما إصرارا على موقفه من الآخر , يحب أحدهما أن يتراجع فلا يستطيع تكثر الموانع وتقل الدوافع وتندر مناسبات اللقاء وينتظر كل منهما أن يكون الآخر هو البادئ بالمبادرة ويؤجل كل منهما ظانا أن في الأزمان متسعا , متعللا بالوقت حتى تهدأ النفوس وترضى , والنفوس لا تهدأ بل تزيد ولا ترضى بل تزداد عنادا , وما كان يمكن حله ببساطة في بدايته صار معقدا عن ذي قبل , ولا يمكن لواحد منهما أن يتنازل عن رأيه ولا عن موقفه ولا أن يقبل بأنصاف الحلول ... حتى يأتي أحدهما الخبر فيموت أحدهما قاطعا لرحمه ويبقى الآخر تأكله الحسرة ويتمنى أن لو يرى أخاه ليعتذر له وليتصافحا وليتغافرا .. .. ولكن هيهات هيهات  ... فالذاهب لا يعود ولات حين مندم

 

رجل يظلم زوجته رغم تفانيها معه , لا يرى فيها مسحة خير ولا نفع , يعتبر بيته محلا للطعام والنوم , يعيش يومه تاركا لها معرضا عنها , لا تسمع منه إلا كل ما يسوءها , كل شيئ فيها يراه قبيحا ويشعرها دوما بذلك , يضن عليها بكلمة طيبة ويدخر كلماته المعسولة ولسانه الطلق الحسن لمن يعرفهم أو يعرفهن خارج بيته , لا يُرى في بيته إلا متجهما آمرا متسلطا مبكتا سابا لاعنا , يشتاق أهل بيته للحظة التي يخرج فيها , تسرى في البيت علامات الأريحية وهو يغلق الباب خلفه , وجوده منذر للمشكلات والآلام والأحزان , يثور لأتفه الأسباب ولا مجال لإرضائه أو على الأقل إسكات صوته , كلامه جارح , نظراته قاتلة , يراجع نفسه خارج بيته , يود أن يصلح من علاقته بها يريد أن يسترضيها ويسمعها كلمة حانية مما يقولها خارج بيته , يريد ويقرر , لا يستطيع التنفيذ , يمنعه كبره , حتى يفاجَئ بالخبر , فتتملكه الوحدة , ويأكله الندم ويسترجع ذكرياته المريرة من سوء تصرفاته وأفعاله وأقواله , ويتمنى أن تعود ليسمعها ما حجبه عنها , ليصلح ما سبق منه إفساده .. ولكن هيهات هيهات  ... فالذاهب لا يعود ولات حين مندم .

أب يقسو علي أبنائه  , يريد أن يراهم أفضل الناس , إذا قيم أحدهم أبرز أخطاءه وعيوبه فلا يرى فيه ميزة , فكل تصرفاتهم خاطئة , وكل أفعالهم قاصرة , وكل أقوالهم تافهة , وكل آرائهم ساذجة , يعلن لهم دوما أنهم سبب لشقائه وتعاسته وأن غيابهم عنه سبب لراحته , ينظر لهم بنظرة العدو المتربص المنتظر دوما لخطأ الفريسة حتى ينشب فيه أنيابه , ودائما وأبدا ستخطئ الفريسة وسيتعرضون لكل أنواع الإهانات التي تهدر كرامتهم وتمحو شخصياتهم وتسحق إرادتهم , لا صوت منهم يعلو صوته , ولا رأي منهم يقارب رأيه .. يريد أن يحسن علاقته بهم وينمي شخصياتهم ويصلح ما أفسده ولكنه لا يستطيع , كبره يمنعه أن يتنازل عن رأيه أو أن يغير من أسلوبه , يؤجل ويؤجل , حتى يأتيه الخبر المفجع , فيرى الميزات التي منع نفسه من رؤيتها في ولده وحرم نفسه من خيرها , يتمنى أن يعود ولده لكي يدعمه ويشجعه ويرحمه من سوط عذاب كلماته ويحتضنه ويرفع من شانه .. ولكن هيهات هيهات  ... فالذاهب لا يعود ولات حين مندم .

الوقت ضيق وما تستطيع فعله الآن لا تؤجله للغد , ربما يسبقك القدر , أدرك ما فاتك قبل فوات الأوان وقبل أن لا ينفع الندم