أنت هنا

عقد البناء والتشغيل وإعادة الملك (البوت) 2/2
25 جمادى الثانية 1432
أ.د. عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان

القسم الثاني
الدراسة التحليلية والتخريج الفقهي
المبحث الأول
الدراسة التحليلية الفقهية لعقد البناء والتشغيل وإعادة الملك ومقاصده الشرعية
أولاً: التحليل الفقهي:
يعتمد البحث أولاً على التحليل الموضوعي للخروج بتصور فقهي مناسب.
يشتمل عقد (البناء، والتشغيل، وإعادة الملك) على أربعة عقود:
1. عقد البناء.
2. عقد التشغيل.
3. عقد الصيانة.
4. عقد التحويل (إعادة الملك) بإعادة المشروع لأصحابه.
هذه العقود الرئيسة، ولكل واحد منها مواصفاته، وشروطه، المواصفات الدقيقة التي يتفق عليها المتعاقدون لإبرام العقد، وهو الأمر الذي لا تفرط فيه جهات التعاقد بحال، بل إنها تدون في الاتفاقات كل التفاصيل بشكل دقيق بكل ماله تعلق بالمشروع.
بشيء من الدقة والتأمل نجد أن كل واحد من هذه العقود الأربعة يشتمل على عقود متعددة من الباطن، متنوعة مثلاُ:
عقد البناء كلمة (البناء) ليس المقصود منها المعنى الحرفي بل المقصود إقامة مشروع حسب طبيعته سواء يكن بناءً، أو شق قناة، أو إقامة جسر، أو إنشاء طريق سريع، أو غير ذلك، وإن يكن البناء أساس العقد فتشييد المشروع يحتاج إلى متطلبات عينية بحاجة إلى إبرام عقود شراء، كما أن المشروع بحاجة إلى مهارات وحرف متعددة حسب متطلباته من الأعمال الفنية فيستدعي هذا إبرام عقود شراء، وإجارة، وكفالة، وتأمين إلى غير ذلك من العقود الأخرى.
 كل هذه الأعمال تتطلب عقوداً يجريها القائم بالمشروع، تختلف حسب طبيعة العمل المتعاقد عليه.
كذلك عقد التشغيل والصيانة له شروطه ومواصفاته الخاصة التي لابد من وصفها، وضبطها في الاتفاقية، وتحديد قيمة الأجور لاستخدام الجمهور للمشروع، وتحديد أوصاف المشروع بكل دقة عند تسليمه للعاقد المحلي.
من الأمور التي تهتم بها أمثال هذه العقود، ومن أجل ضبط الجوانب المالية والإدارية لابد من التركيز على العناصر التالية وتوضيحها:
1. رأس المال.
2. وصف رأس المال، والاستثمار.
3. الشروط المتعلقة بالبيع والشراء، وما له علاقة برأس المال.
4. تنظيم وإدارة الشركة المنفذة للعقد.
5. صلاحيات الإدارة، ومسؤولياتها، والهيئة المنظمة.
6. الإجراءات، والاجتماعات للهيئة الإدارية.
7. حالات وإجراءات الفسخ والإلغاء ذات العلاقة بالشركة.
8. حقوق وواجبات الشركة المنفذة للمشروع والمستثمر التي لابد منها في العقد.
9. الإجراءات التي تتخذ لتعديل بعض نقاط وفقرات الاتفاقية(1).
ثانياً: المقاصد الشرعية من عقد البناء والتشغيل وإعادة الملك (b.o.t.):
لابد لصحة أي عقد قديم أو حديث أن يتطابق مع المقاصد الشرعية، والمصالح الشخصية التي لا تتعارض مع مبدأ من مبادئ الشريعة. هذه قاعدة مهمة في صحة العقود قديمها وحديثها؛ لهذا فإنه من الضروري البحث عن هذا المعيار الشرعي بعد صحة العقد من ناحية الشروط، والأركان، وخلوه من أسباب الفساد والبطلان:
يشتمل هذا العقد على مجموعة من المقاصد الشرعية المعتبرة في العقود؛ والمصالح المحققة للمكلفين؛ إذ إن مصلحة المكلفين لها اعتبار كبير في الشرع:
" فإن الشريعة مبناها، وأساسها على الحكم، ومصالح العباد في المعاش، والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها ـ وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، ومن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل؛ فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه، وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها، وهي نوره الذي أبصر به المبصرون، وهداه الذي به اهتدى به المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل..."(2)، وقد جمع هذا العقد من مقاصد الشريعة ما لم يجتمع في عقد آخر من حيث شمول مقاصده الشرعية للمجتمع، والأفراد، ونمو الأموال ما لم يجتمع في كثير من العقود الحديثة من أهم هذه المقاصد الشرعية:
1. تلبية حاجة المجتمع الإنساني، وإسهامه في توفير سبل الراحة للفرد والجماعة بأسلوب علمي، عملي محكم.
2. تنمية الأموال واستثمارها بطرق مشروعة فيما يفيد المجتمع الإنساني من المشروعات المدنية.
3. تخفيف الأعباء المالية عن الدول وبخاصة الفقيرة.
4. صيانة الممتلكات، والمحافظة عليها للاستفادة منها لوقت أطول.
5. توفير الخبرات اللازمة، وتأهيل المجتمعات النامية لأعمال الإنشاء، وخدمات الصيانة للاستقلال بأعمالهم مستقبلاً.
6. نزع فتيل الخلاف: وذلك بدقة العقد وتفصيل الحقوق والواجبات لكافة الأطراف بما يمنع الخصومة، وهو المعتاد في مثل هذه العقود؛ إذ كلما كانت بنود الاتفاق دقيقة، مفصلة، محكمة توضح حقوق كل طرف في العقد، يكن هذا أدعى إلى منع الخصومة فإذا صحت أركان العقد وشروطه، وخلا من المحظور في فقه المعاملات، وحقق العقد المقاصد الشرعية، والمصالح الشخصية التي لا تتعارض والمبادئ الشرعية، وخلا من المحظورات الشرعية كلاً وجزءاً فإنه ينتج عن هذا صحة العقد وما يترتب عليه من آثار.
 
 
 
 
المبحث الثاني
التخريجات الفقهية
يمكن تخريج هذا العقد فقهاً عدة تخريجات بشرط خلوه من أي محظور شرعي تتمثل في واحد من العقود التالية:
1) عقد جديد أصالة.
2) عقد استصناع تغليباً.
3) القياس على إعمار الوقف.
4) عقد كراء.
التخريج الأول:
عقد جديد أصالة بعنوان (عقد البناء والتشغيل وإعادة الملك):
من الملاحظ أن هذا العقد بتركيبته الكاملة عقد كامل جديد متعدد الأنواع، متفاوت المراحل، يخرج أصالة على القاعدة الفقهية المشهورة:
(الأصل في العقود الإباحة) يوضحها تفصيلاً العبارة التالية:
 " وأما العقود والشروط، والمعاملات فهي عفو حتى يحرمها الله تعالى؛ ولهذا نعى صلى الله عليه وسلم على المشركين مخالفة هذين الأصلين، وهو تحريم ما لم يحرمه، والتقرب بما يشرعه، وهو سبحانه لو سكت عن إباحة ذلك وتحريمه لكان ذلك عفواً لا يجوز الحكم بتحريمه وإبطاله؛ فإن الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه، وما سكت عنه فهو عفو، فكل شرط وعقد، ومعاملة سكت عنها فإنه لا يجوز القول بتحريمها، فإنه سكت عنها رحمة منه من غير إهمال، فكيف وقد صرحت النصوص بأنها على الإباحة فيما عدا ما حرمه..."(3).
يدخل تحت هذه القاعدة كافة المعاملات الحديثة بادئ ذي بدء، ولكن يتبع هذا قواعد عامة أخرى تفصيلية لابد من توافرها مع صحة الأركان والشروط في العقود، وأخرى لابد من توقيها، والتخلص منها، سواء في هذا العقود الأصلية، أو العقود الأخرى من الباطن.
يعد عقد(b.o.t) البناء والتشغيل والتمليك في توصيفه، وتعريفه السابقين عقداً جديداً من عقود المعاملات الحديثة يشتمل على عقد مقاولة، وعقد إجارة، وعقد صيانة، وعقد إعادة الملك فهو عقد متعدد، متنوع، وفيما يلي يتم الكلام تفصيلاً عن كل عقد من هذه العقود:
 
 
 
عقد المقاولة:
قد تبين في القسم الأول أن هذا العقد مشتمل على أربعة عقود رئيسة:
1. عقد البناء.
2. عقد التشغيل.
3. عقد الصيانة.
4. وأخيراً عقد إعادة الملك.
 كل واحد من هذه العقود يدخل تحته عقود عديدة يرتبط بها المتعاقدون، يستحيل الحكم عليها جميعاً حكماً عاماً بالصحة ما لم نعرف تفاصيل كل منها، كل ما في الأمر أنه توجد قواعد عامة لابد من تحريها وتوخيها في كل مرحلة من مراحل العقد.
عقد (البناء) (b.o.t) يشتمل على بذل عمل وتقنيات فنية عديدة يشترك فيه المهندسون على اختلاف تخصصاتهم من تخطيط معماري، وهندسة، وفنيون، وحرفيون في مجالات مختلفة كهرباء، وسباكة، ونجارة، وديكور وغير ذلك مما يتطلبه كل مشروع من هذا النوع يختلف عن الآخر باختلاف طبيعته، ولما كانت أعمال هذه المرحلة متعددة، ومتنوعة فإن مثل هذا العقد يدخل تحت:
 (عقد المقاولة)، وهو العقد الأول:
تم تعريف هذا العقد من قبل مجمع الفقه الإسلامي الدولي، التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في القرار رقم 129(3/14)، ووضع تفاصيل هذا العقد، وضوابطه الشرعية التي تحميه من الانزلاق في الخصومات تحت العنوان التالي:
(عقد المقاولة والتعمير: حقيقته، تكييفه، صوره) حسب النص التالي:
" إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في دورته الرابعة عشرة بالدوحة (دولة قطر) من 8 إلى 13 ذو القعدة 1423هـ، الموافق 11ـ 16 كانون الثاني (يناير) 2003م، بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع عقد المقاولة، والتعمير: حقيقته، تكييفه، صوره، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، ومراعاة لأدلة الشرع، وقواعده، ومقاصده، ورعاية للمصالح العامة في العقود والتصرفات.
ونظراً لما لأهمية عقد المقاولة، ودوره الكبير في تنشيط الصناعة، وفتح مجالات واسعة للتمويل، والنهوض بالاقتصاد الإسلامي قرر ما يلي:
1. عقد المقاولة: عقد يتعهد أحد طرفيه بمقتضاه بأن يصنع شيئاً، أو يؤدي عملاً مقابل بدل يتعهد الطرف الآخر، وهو عقد جائز سواء قدم المقاول العمل والمادة وهو المسمى عند الفقهاء بالاستصناع، أو قدم المقاول العمل وهو المسمى عند الفقهاء بالإجارة على العمل.
2. إذا قدم المقاول المادة والعمل فينطبق على العقد قرار المجمع رقم 65(3/7) بشأن موضوع الاستصناع(4).
3. إذا قدم المقاول العمل فقط فيجب أن يكون الأجر معلوماً.
4. يجوز الاتفاق على تحديد الثمن بالطرق الآتية:
 أ‌- الاتفاق على ثمن بمبلغ إجمالي على أساس وثائق العطاءات، والمخططات والمواصفات المحددة بدقة.
 ب‌- الاتفاق على تحديد الثمن على أساس وحدة قياسية يحدد فيها ثمن الوحدة، والكمية، وطبقاً للرسومات والتصميمات المتفق عليها.
 ت‌- الاتفاق على تحديد الثمن على أساس سعر التكلفة الحقيقية، ونسبة ربح مئوية، ويلزم في هذه الحال أن يقدم المقاول بيانات، وقوائم مالية دقيقة، ومفصلة، وبمواصفات محددة بالتكاليف برفعها للجهة المحددة في العقد، ويستحق حينئذ التكلفة بالإضافة للنسبة المتفق عليها.
5. يجوز أن يتضمن عقد المقاولة شرطاً جزائياً بمقتضى ما اتفق عليه العاقدان، ما لم يكن هناك ظروف قاهرة، وتطبق في هذه الحال قرار المجمع في الشرط الجزائي رقم 109(3/12)
6. يجوز في عقد المقاولة تأجيل الثمن كله، أو تقسيطه إلى أقساط لآجال معلومة، أو حسب مراحل إنجاز العمل المتفق عليها.
7. يجوز الاتفاق على التعديلات والإضافات.
8. إذا أجرى المقاول تعديلات، أو إضافات بإذن رب العمل دون الاتفاق على أجرة فللمقاول عوض مثله.
9. إذا أجرى المقاول تعديلات، أو إضافات دون اتفاق عليها فلا يستحق عوضاً زائداً على المسمى، ولا يستحق عوضاً عن التعديلات أو الإضافات.
10. يضمن المقاول إذا تعدى أو فرط أو خالف شروط العقد، كما يضمن العيوب والأخطاء التي يتسبب فيها، ولا يضمن ما كان بسبب من رب العمل، أو بقوة قاهرة.
11. إذا شرط رب العمل على المقاول أن يقوم بالعمل بنفسه فلا يجوز له أن يتفق مع مقاول آخر من الباطن.
12. إذا لم يشرط رب العمل على المقاول أن يقوم بالعمل بنفسه جاز له أن يتفق مع مقاول من الباطن، ما لم يكن العمل بعينه مقصوداً أداؤه من المقاول نفسه لوصف مميز فيه مما يختلف باختلاف الإجراء.
13. المقاول مسؤول عن عمل مقاوليه من الباطن، وتظل مسؤولية المقاول الأصلي تجاه رب العمل قائمة وفق العقد.
14. لا يقبل في عقد المقاولة اشتراط نفي الضمان عن المقاول.
15. يجوز اشتراط الضمان لفترة محددة.
16. لا يقبل في عقد المقاولة اشتراط البراءة من العيوب طيلة فترة الضمان المنصوص عليها في العقد"(5).
بهذه القواعد والضوابط، والشروط يصح الجزء الأول من عقد (البناء والتشغيل وإعادة التمليك) إذا استوفى الشروط المطلوبة أعلاه.
العقد الثاني: عقد التشغيل (عقد إجارة):
يعد تشغيل المنشأة عملاً تقوم به الشركة التي أقامتها بغرض استرداد المصاريف التي أنفقتها على المشروع،؛ حيث تتقاضى قيمته بموجب العقد من أجور استخدام المشروع من قبل الجمهور، وظيفة خدمات التشغيل تؤديها الشركة المتعاقدة المنفذة للمشروع، تحتاج من أجل تنفيذها إلى فريق من الخبراء والموظفين لأداء العمل على الوجه الصحيح.
المبالغ التي تتقاضاها هذه الشركة هي:
رأس مال المشروع إن كانت المنفذة له + الإجارة على التشغيل، وهو عمل معلوم: معلوم الزمان، والمكان، معلوم الأجرة، فمن ثم يدخل هذا العقد تحت (الإجارة على عمل) وهو أحد أقسام الإجارة، وضابطه:
"العمل هو ما يبذله الأجير من مهارات، أو جهد لإنجاز منفعة معينة مستقبلاً.
 وضابطه: كل عمل فيه منفعة، وكان عمله مباحاً فجائز الإجارة فيه.
عقد الإجارة الوارد على العمل شائع بين أرباب الحرف والمهارات، من صانعين، وأطباء، ومهندسين، ومعماريين، وناسخين، وغيرهم مما يحتاج المجتمع إلى خدماتهم..."(6).
هذا العقد يخضع لعقد الإجارة أركاناً وشروطاً، وأوصافاً، صحة، وبطلاناً.
العقد الثالث: عقد الصيانة (إجارة على عمل):
وهو خدمة على عمل معين، موصوف في الذمة، له قيمة مقدرة معينة في العقد.
يأتي ضمن العقود المتعددة للمشروع، وذلك بالمحافظة عليه سليماً من حيث الأداء السليم حتى تسليمه، وإعادته لأصحابه،.
 بهذا التحليل يصبح عقد (البناء، والتشغيل، والصيانة) عقداً مستقلاً، قائماً بذاته، انبثق عنه مجال التعاملات في العصر الحديث.
هذا التخريج يثري قسم المعاملات المالية في الفقه الإسلامي، وهو مناسب لأن ينضم ضمن المعاملات في الفقه الإسلامي؛ حيث يتلاءم معه تشريعاً ومقصداً.
التخريج الثاني:
عقد استصناع تغليباً:
يخرج عقد البناء والتشغيل وإعادة الملك(b.o.t.) على عقد الاستصناع تغليباً؛ حيث هو أساس العقد، ومعظمه لا وجود للمشروع دونه، وما عداه مما يأتي بعده من العقود مبني عليه.
يخرج هذا العقد شرعاً بأوصافه السابقة في مرحلته الأولى(البناء) على عقد (الاستصناع) كما يتضح من التحليل التالي:
 عقد (البناء) وهو الجزء الأول في العنوان، وفي أوليات العقد مبناه جملة وتفصيلاً إيجاد لمشروع إنشائي كامل بين طرفين لهما أهليتهما الشرعية، موضوع العقد هيكل المشروع: مواده معلومة، ومواصفاته محدودة، بدقة وعناية، بما في ذلك الخبرات الفنية المطلوبة، ومدة الإنجاز، بناءً، وتشييداً، وتقدير قيمته إنشاءً، ينطبق حقيقة على عقد الاستصناع تعريفاً بأنه:
" طلب العمل من الصانع (المقاول) في شيء مخصوص، وفي البدائع: من شروطه بيان جنس المصنوع، ونوعه، وقدره، وصفه، أن يكون مما فيه تعامل، وأن لا يكون مؤجلاً، وإلا كان سلماً، وعندهما: المؤجل استصناع إلا إذا كان مما لايجوز فيه الاستصناع فينقلب سلماً في قولهم جميعاً"(7).
وقد صدر قرار 65(3/7) بشأن عقد الاستصناع من مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 7 ـ 12 ذي القعدة الموافق 9 ـ14 أيار (مايو) 1992م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع عقد الاستصناع، وبعد استماعه للمناقشات التي دارت حوله، ومراعاة لمقاصد الشريعة في مصالح العباد، والقواعد الفقهية في العقود والتصرفات، ونظراً لأن عقد الاستصناع له دور كبير في تنشيط الصناعة، وفي فتح مجالات واسعة للتمويل، والنهوض بالاقتصاد الإسلامي قرر ما يلي:
أولاً: إن عقد الاستصناع، وهو عقد وارد على العمل والعين في الذمة ملزم للطرفين إذا توافرت فيه الأركان، والشروط.
ثانياً: يشترط في عقد الاستصناع ما يلي:
 أ‌- بيان جنس المستصنع، ونوعه، وقدره، وأوصافه المطلوبة.
 ب‌- أن يحدد فيه الأجل.
ثالثاً: يجوز في عقد الاستصناع تأجيل الثمن كله، أو تقسيطه إلى أقساط معلومة لآجال محددة.
رابعاً: يجوز أن يتضمن عقد الاستصناع شرطاً جزائياً بمقتضى ما اتفق عليه العاقدان ما لم تكن هناك ظروف طارئة، والله أعلم"(8).
الجزء الثاني (عقد التشغيل) جزء مكمل للمشروع، يشخص بأنه (عقد إجارة على عمل)، حسب التفصيل الآتي:
عقد التشغيل:
هو المرحلة الثانية بعد تمام المشروع فالعقد في هذه المرحلة يدخل تحت باب الإجارة؛ ذلك أن العقد ينص على أجره تشغيلاً، والفترة المقدرة لتشغيله، تحصيلاً لرأس المال، وتقدير الأرباح والاستثمار.
 
 
 
عقد الإعادة:
إذا تمت فترة التشغيل حسب العقد، يستعيد أصحاب المشروع الأصليين كامل المشروع في حالة سليمة جيدة، دون جهالة في بند من البنود بالتقصير،أو التفريط، كما هي العادة الجارية في مثل هذه العقود للمشاريع الضخمة التي تبرمها الحكومات مع الشركات الكبيرة المتخصصة في العصر الحاضر.
التخريج الثالث: القياس على إعمار الوقف الخراب.
يخرج هذا العقد على بعض مسائل الأوقاف إذا خربت وتعطلت منافعها، ولا يجد القائمون عليها من التمويل ما يحقق الاستفادة منها، ومضت على ذلك السنون الطويلة وليس للوقف موارد لعمارته، وإحيائه، فمن ثم فكر الفقهاء القائلون بجواز استبدال الوقف في إيجاد حل للإفادة من الوقف بإعماره بأسلوب من أساليب عدة، كان من بينها عقد (البناء، والإشغال) وإن لم يكن معروفاً بهذا العنوان، وذلك بعد استيفاء المتعاقد تكاليف الإعمار بسكنه، واستثماره مدة معلومة، ثم إعادة عين الوقف لأصحابه ليؤدي الوظيفة التي حبس من أجلها، وهو المستفاد من:
الفقه الحنفي: القياس على بعض حالات الوقف:
قال العلامة محمد أمين الشهير بابن عابدين: (مطلب في الوقف إذا خرب ولم يمكن عمارته): "قال في الدر المنتقى إن الخان لو احتاج إلى المرمة آجر بيتاً، أو بيتين، وأنفق عليه، وفي رواية يؤذن للناس بالنزول سنة، ويؤجر سنة أخرى، ويرم من أجرته، وقال الناطفي: القياس في المسجد أن يجوز إجارة سطحه لمرمته. محيط"(9).
التخريج الرابع: (عقد كراء):
الفقه المالكي:
نصوص المذهب المالكي تعطي أمثلة عديدة يصنف هذا العقد تحت عقد (كراء الدور)(10)، وهذا كما في:
"مسألة ابن القاسم: قال ابن القاسم في رجل أعطني عرصتك هذه أبنيها بعشرة دنانير، أو بما دخل فيها، على أن أسكنها في كل سنة بدينار حتى أوفي ما غرمت فيها وأصلحت؟
قال: إن سمى عدة ما يبنيها به، وما يكون عليه في كل سنة فذلك جائز، وإن لم يسم فلا خير فيه.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في رسم البز من سماع ابن القاسم من كتاب كراء الدور، وهو كما قال؛ لأنه إن سمى عدة ما يبنيها به، ولم يسم ما يكون عليه في كل سنة كان كراءً مجهولاً، وإن سمى ما يكون عليه في كل سنة، ولم يسم ما يبنيها به كان الكراء معلوماً، وأمده مجهولاً، وإذا سمى الوجهين كان كراء معلوما إلى أجل معلوم فجاز.
 وإنما جاز وإن لم يبين هيئة بناء العرصة والأغراض في ذلك مختلفة من أجل أن المكتري كالوكيل له على ذلك، فإذا بنى العرصة على الهيئة التي تشبه أن تبنى عليها لزمه، كمن وكل رجلاً أن يشتري له ثوباً، أو جارية فاشترى له ما يشبه أن يشترى له من ذلك لزمه،
 ولو وصف البنيان، وعدد ما يسكنها من السنين لجاز"(11).
 "وسئل مالك عن رجل تكارى عرصة خربة على أن ينفق عليها، ويكون كراؤها كذا وكذا، قال مالك: أرى أن يسمى ما ينفق فيها ويقاصه بذلك في كراء ما تكارى به من السنين.
 فقيل له: أفيجعل كراءها دراهم؟
قال: بل أجزاء يجعل نفقته عشرة دنانير، وكراءها إياها عشرين سنة، في كل سنة نصف دينار، أو أقل من ذلك، أو أكثر من السنين والأجزاء، فعلى هذا يتكارى المتكارون، ويكري صاحب الدار.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة في المعنى؛ لأن مآلها إن أكراه العرصة عشر سنين، سنة بعشرة دنانير على أن يبني العرصة لربها، إذا شرط أن يقاصه بالنفقة في الكراء لم يجز؛ لأنه إذا لم يكن الكراء بالنقد لم يوجب الحكم المقاصة به، ووجب أن يتبعه بنفقته سلفاً حالاً عليه، ويؤدي إليه الكراء بقدر ما سكن شيئاً بعد شيء على ما يوجبه الحكم في ذلك. ووجب أن يتبعه بنفقته سلفاً حالاً عليه، ويؤدي إليه الكراء بقدر ما سكن شيئاً بعد شيء على ما يوجبه الحكم في ذلك.
قال ابن المواز: وهذا إذا كان البناء لرب العرصة، ويسمي ما بنى به، وكان ذلك من الكراء لا يزيد عليه، وشرط ابن المواز أن يكون ذلك الكراء لا يزيد عليه، صحيح مثل ما في المدونة؛ لأنه إن شرط أن ينفق في العرصة أكثر من كرائها كان الزائد على الكراء سلفاً منه لرب العرصة؛ فدخله كراء وسلف.
قال ابن المواز: وأما إن كان البناء للمكتري فلا يحتاج إلى تسمية ما يبني، ولا ما ينفق، ولا أحب شرطه في أصل الكراء إلا أنه إن بنى فمتى ما خرج فلرب العرصة أن يعطيه قيمته مقلوعاً، أو يأمره بقلعه.
وقول ابن المواز: إن البناء إذا كان للمكتري فلا أحب اشتراطه في أصل الكراء صحيح بيّن؛ لأنه إذا اشترط ذلك عليه فقد وقع الكراء على أن يأخذ المكري من المكتري بنيانه بقيمته مقلوعاً عند انقضاء أمد الكراء، وذلك غرر لا يجوز، وإنما لم يرَ في الرواية أن يجعل كراءها دراهم إذا كان ينفق فيها دنانير، ويفاصله بها في الكراء؛ لأنه يدخله عدم المناجزة في الصرف؛ إذ لا يحل الكراء عليه إلا بالسكنى شيئاً بعد شيء، ولو قال: أكتري منك العرصة لعشرين سنة بعشرة دنانير، نصف مثقال لكل سنة على أن أنفق فيها مائة درهم من مالي تكون مقاصة بالكراء، أو قال أكتري منك العرصة بمائة درهم من مالي تكون مقاصة الكراء، أو قال أكتري منك العرصة بمائة درهم لعشرين سنة على أن أنفق فيها عشره دنانير تكون مقاصة بالكراء لجاز ذلك، وإن سمج القول؛ لأن الأمر يؤول فيه إلى صحة الفعل، وهو كراء العرصة عشرين عاماً بالعدد الذي سمى أنه ينفق فيها، وبالله التوفيق"(12).
التشغيل في عقد(البناء والتشغيل والتحويل) وأخذ الأجرة من المستخدمين المنتفعين بالمشروع بمثابة السكن في العرصة مقابل بنائها والانتفاع بها، وهو يمثل قيمة البناء، واسترداد رأس مال المشروع والأرباح المتوقعة منه بمثابة انتفاع ساكن العرصة، مقابل بنائها.
 
 
 
المبحث الثالث
مسائل ووسائل
تقديم:
إن هذا العقد يمتد غالباً سنين عديدة تستمر إلى عقد، أو عقدين من السنين، تتأثر فيها الأجور وتتعرض أسعار المواد علواً وهبوطاً في الثابت والمنقول من البضائع بالغلاء والرخص، وتمنى أحياناً بأسباب الفساد والبطلان، وتؤثر سلباً على استمرار العقد وسلامته يكون لها تأثير سلبي على المتعاقدين، أو أحدهما بخاصة، أو على المجتمع بعامة.
من أجل ضمان استمرار العقد على وجه صحيح، وفي مواجهة بعض ما يطرأ من شؤون ليس للمتعاقدين فيه تسبب وجدت احتياطات وحلول شرعية عملية عديدة تعالج ما قد يطرأ على هذا العقد كله، أو جزئه يهدد سلامته، واستمراره، يلجأ إلى الوسائل الفقهية التالية لمعالجة صحته، والعمل على استمراريته من دون انقطاع حتى تمامه من أهمها ما يأتي:
أولاً: تصحيح مفسدات العقد شرعاً:
اختلال ركن، أو شرط من شروط العقد، أو عدم الأخذ بقاعدة شرعية يؤثر على صحته بالفساد، والبطلان، ومن ثم على استمراره.
استمرارية المشروعات الضخمة التي تقوم على أساس هذا العقد غالباً ما تحتاج إلى رأس مال كبير تعجز عن تمويلها الشركات والمؤسسات العامة وحدها، وغالباً ما تلجأ إلى الاقتراض من البنوك، أو البيوت التجارية الكبيرة، وهذه عادة لا تسمح بالإقراض إلا بعد فرض نسبة ربوية على مبلغ القرض، وهو مبطل للعقد في الفقه الإسلامي.
خلو أمثال هذا العقد من الربا ووجوهه نادر جداً، وكذلك بالنسبة لما يسمى بالضمان البنكي المبني على الفائدة بالنسبة لمقدار رأس المال، هذه بعض الأسباب الظاهرة المؤثرة في صحة مثل هذا العقد.
العلاج لمشكلة ضيق رأس المال لتمويل المشروع الضخم هو إسهام بيوت المال في مثل هذه المشاريع عن طريق المشاركة، فقد تعظم أرباح المشروع خصوصاً إذا كان هذا النوع من العقود المحكمة التي تدرس جدواها بدقة متناهية، ووضعت في أيد أمينة تحقق مصالحها ومصالح المجتمع بطريقة شرعية سليمة.
إذ حكم لبعض العقود الحديثة بالصحة ابتداءً، ومنها عقد (نظام البناء والتشغيل وإعادة الملك) الذي يرمز إليه (b.o.t) فلا بد فيه من مراعاة المقاصد الشرعية والقواعد العامة في الشريعة الإسلامية التي يجب عدم الإخلال بها لصحة العقد:
منها: ما ذكره القاضي أبو الوليد محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد القرطبي بقوله: "وإذا اعتبرت الأسباب التي من قبلها ورد النهي الشرعي في البيوع، وهي أسباب الفساد العامة، وجدت أربعة:
أحدها: تحريم عين المبيع.
والثاني: الربا.
والثالث: الغرر.
والرابع: الشروط التي تؤول إلى أحد هذين، أو لمجموعهما.
وهذه الأربعة هي بالحقيقة أصول الفساد، وذلك أن النهي إنما تعلق فيها بالبيع من جهة ما هو بيع، لا لأمر من خارج.
وأما التي ورد النهي فيها لأسباب من خارج فمنها:
الغش، ومنها:
الضرر، ومنها:
لمكان الوقت المستحق بما هو أهم منه، ومنها:
 لأنها محرمة البيع"(13).
يؤكد هذا ما ذكره القاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي رحمه الله تعالى في مجال ما يعرض العقود للبطلان:
 " وما يرجع إلى صفة العقد ضروب منها: الربا، ووجوهه، ومنها الغرر وأبوابه، ومنها المزابنة(14)، والبيع والسلف، وغير ذلك..."(15)
الضمان البنكي إن كان مبنياً على تقدير المصاريف الإدارية فحسب فلا غبار عليه شرعاً، أو كان للشركة رصيد موجود بالبنك (غطاء) يكون البنك حينئذ وكيلاً عن الشركة، ويكون للبنك حكم الوكالة في أخذ الأجر على الوكالة، أو كان بغير (غطاء) فإن ما زاد على أجر المصاريف الإدارية غير مقبول شرعاً، قد فصل القول في هذا الموضوع، وأوجد له الحلول الشرعية قرار مجمع الفقه الإسلامي المنبثق من منظمة المؤتمر الإسلامي رقم: 12(12/2) بالتفصيل، وذكر الحل في النص التالي:
" إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10ـ16 ربيع الآخر 1406هـ/ 22ـ28 كانون الأول (ديسمبر) 1985م، وبعد النظر فيما أعد في خطاب الضمان من بحوث ودراسات، وبعد المداولات والمناقشات المستفيضة التي تبن منها:
أولاً: أن خطاب الضمان بأنواعه الابتدائي والانتهائي لا يخلو إما أن يكون بغطاء، أو بدونه، فإن كان بدون غطاء فهو ضم ذمة الضامن إلى ذمة غيره فيما يلزم حالا، أو مآلاً، وهذه هي حقيقة ما يعنى في الفقه الإسلامي باسم: الضمان، أو الكفالة.
 وإن كان خطاب الضمان بغطاء فالعلاقة بين طالب خطاب الضمان وبين مصدره هي: الوكالة، والوكالة تصح بأجر، أو بدونه مع بقاء علاقة الكفالة لصالح المستفيد (المكفول له).
ثانياً: إن الكفالة هي عقد تبرع يقصد به الإرفاق والإحسان، وقد قرر الفقهاء عدم جواز أخذ العوض على الكفالة؛ لأنه في حالة أداء الكفيل مبلغ الضمان يشبه القرض الذي جر نفعاً على المقرض، وذلك ممنوع شرعاً.
قرر ما يلي:
أولاً: إن خطاب الضمان لا يجوز أخذ الأجر عليه لقاء عملية الضمان، والتي يراعى فيها عادة مبلغ الضمان ومدته، سواء أكان بغطاء، أم بدونه.
ثانياً: إن المصاريف الإدارية لإصدار خطاب الضمان بنوعيه جائزة شرعاً مع مراعاة عدم الزيادة على أجر المثل، وفي حالة تقديم غطاء كلي، أو جزئي أن يراعى في تقدير المصاريف لإصدار خطاب الضمان ما قد تتطلبه المهمة الفعلية لأداء ذلك الغطاء، والله أعلم"(16).
ثانياً: الظروف الطارئة:
قد يبرز إلى الواقع حدث طارئ عصيب غير متوقع خلال إقامة المشروع، وهي التي تكون خارجة عن إرادة أطراف العقد مثل: الحرب، الزلازل، الفيضانات، الحريق، العواصف، غلاء الأسعار بصورة مفاجئة، وما ماثل ذلك، غالباً ما تنشأ خلال العقود الطويلة، هذا بلا شك يزيد من تكاليف المشروع، وقد يؤدي إلى التوقف إذا لم يعالج بالسرعة المطلوبة.
 لهذه الظروف التي لم تكن في حسبان المتعاقدين اعتبار في الشريعة الإسلامية، تحفظ التوازن بين مصالح المتعاقدين بما يخفف وقع الخسائر، والأضرار التي تنشأ عما لم يكن في الحسبان من أحداث تؤثر على إقامة المشروع واستمراره، ومن ثم على أطراف العقد، حينئذ يلجأ إلى ما يسمى (بنظرية الظروف الطارئة) حيث يتم النظر بين العقد في صيغته، وبين واقع المشكلة، ويجري التوفيق بين مصالح أطراف العقد بروح العدل والإنصاف، دون إجحاف، أو تحيز لطرف دون آخر.
ثالثاً: تفريق الصفقة:
هذا مصطلح فقهي معرفته ضرورية ومهمة لمثل هذه العقود فيما لو طرأ طاريء يؤثر على صحة العقد في بعض جوانبه فساداً، إن اعتبار هذه القاعدة الفقهية، والأخذ بها يجعل العقد صحيحاً، وقائماً في الجانب الصحيح، باطلاً في الجزئية المفسدة للعقد لاغير، خصوصاً وأن كل مرحلة في المشروع محددة، مدونة تفصيلاً من حيث: العمل، والعوض، والأجل.
بهذا يستمر العمل في الجانب الصحيح، ويعالج بالطرق الشرعية، والقوانين الفقهية ما اختلت فيه شروط صحة العمل.
يذكرفي تفسير هذا المصطلح الفقهي المكون من كلمتين: (تفريق)، و(صفقة).
معنى التفريق: التجزئة والاختلاف، صحة بالنسبة لشيء، وفساداً بالنسبة لآخر.
الصفقة: ضرب اليد على اليد، والعرب كانوا يتصافقون عند تمام العقد، فسمي العقد بها مجازاً بعلاقة المجاورة، وتفريق العقد بسبب المعقود عليه، وتفريقها إما في الابتداء، أي ابتداء العقد، أو في الدوام والانتهاء، أو في اختلاف الأحكام(17).
يتضح من هذا أن: "معنى تفرق الصفقة: تفريقها في الحكم، ففي حالة تفصيل الثمن مثلاً يجوز للمشتري قبول أحد المبيعين ورد الآخر، وفي حالة تعدد العاقدين لهرد نصيب أحدهما بالعيب، وإبقاء الآخر، وفي حالة الجمع بين الحلال والحرام في صفقة يصح العقد في الحلال، ويبطل في الحرام"(18).
رابعاً: الحل الصحيح للأوقاف عديمة الموارد:
تحتل معظم الأوقاف في البلاد الإسلامية وبخاصة في بلاد الحرمين الشريفين مواقع مهمة جداً أصبحت تمثل المنطقة المركزية الأهم في هذه البلاد، وهي الأقرب للأماكن المقدسة حيث يتركز حولها النشاط التجاري، ومع مرور الزمان قد ضعف دخلها، أو خربت حتى أصبحت غير قابلة للسكنى، ولا تدر دخلاً مجزئاً يكفل إصلاحها، واستثمارها ولايمكن كمال الاستفادة منه، خصوصاً وقد تضاعف عدد المسلمين، وفي السنوات الأخيرة اشتدت الرغبة لزيارة الأماكن المقدسة أداءً لفريضة الحج والعمرة، وزيارة المسجد النبوي الشريف، وأصبح الوصول إلى البلاد المقدسة سهل المنال حتى للفقراء، وقد ضرب الأمن أطنابه في ربوعهما بفضل من الله جل وعلا، ثم بفضل جهود رجال الأمن في حكومة المملكة العربية السعودية، تتمثل مشكلة هذا الموضوع في أمرين:
أولاً: الكثير من الأوقاف يحتل أكبر جزء في وسط البلد؛ حيث الكثافة السكانية، ولا يستفاد منها الاستفادة القصوى المطلوبة.
ثانياً: الأوقاف - كما هو معلوم - المقصود منها تحبيس العين وديمومة المنفعة، وأي تصرف فيها ينبغي أن يحافظ على أصولها، واستدامة الانتفاع بها، بل إن بعض المذاهب الفقهية لا يوافق على الاستبدال فضلاً عن البيع حفاظاً عليها، وتظل بحالها خراباً دون الاستفادة منها خوفاً على ضياعها، برغم غلاء موقعها حيث النشاط التجاري.
 الحل التقليدي لمثل هذه الأوقاف:
1. الإبقاء عليها كما هي، حتى لو انعدم الانتفاع بها، وهو مذهب الشافعية، والزيدية، والإباضية، والظاهرية.
2. إعمارها، أو استبدالها إذا خربت، وتعطلت منافعها، كما هو مذهب الحنفية والحنابلة. على تفصيل في المذاهب الأخرى(19).
الحلول التقليدية لاستثمار الأوقاف يكون بتأجيرها، أو استبدالها، أو توظيف أموالها.
هذه الحلول سليمة حيث لا يوجد بديل سواها، أما وقد ظهر في العصر الحديث من أنواع المعاملات المالية ما يحقق المقصود من الأوقاف (تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة) من غير أن يناقض مبدءاً، أو قاعدة شرعية فإنه يكون الأخذ به أولى.
(عقد البناء والتشغيل وإعادة الملك) بصيغته، وتفاصيله الشرعية الصحيحة يحقق المقصد من الوقف دون مساس بقاعدة شرعية؛ إذ يمكن إعادة بناء الوقف، وتشغيله لمدة محدودة يسترجع فيها المستثمر حقوقه، وأرباحه، ثم يعيده بحال سليمة جيدة إلى الموقوف عليهم،بهذا يتحقق التعريف والمقصد الشرعي من الوقف دون مساس بجوهره، بل إنه في بعض الأحيان يقرر المستثمر مبلغاً مقطوعاً من المال يدفعه إلى الموقوف عليه كل عام طيلة مدة استثماره الوقف.
أثبت هذا العقد جدواه، وفعاليته في إنقاذ الكثير من الأوقاف الخراب في مكة المكرمة دون التفريط فيها، بل ساعد هذا النوع من العقود على المحافظة عليها، وإعادة إعمارها، وضمان الدخل الجيد للموقوف عليهم.
يؤكد هذه الحقيقة العقود العديدة التي يبرمها المستثمرون للأوقاف في مكة المكرمة والمدينة المنورة في الوقت الحاضر، وأبرزها مشروع الأبراج السبعة بجنوب الحرم المكي الشريف ذات الأدوار المرتفعة إلى ما يزيد على الثلاثين دورا، كما هو الحال فيما يسمى (وقف الملك عبد العزيز رقم واحد)على الحرمين الشريفين، فقد اضطلعت مؤسسة ابن لادن ببناء الأبراج وتشغيلها لمدة خمس وعشرين سنة، واستثمارها لهذه المدة بما يكفل لها استرجاع رأس مالها وأرباحها ثم تسليمها إلى الدولة، وعلى مثل هذا العقد أبرم في شهر رمضان المبارك بمكة المكرمة عقد وقف الملك عبد العزيز رقم 2 في الجهة الشرقية للحرم الشريف. بمثل هذا العقد يحافظ على عين الأوقاف من الضياع، وضمان استمرار الاستفادة منها لتوزيع دخلها على الموقوف عليهم.
 
 
الخاتمة
توصل البحث من خلال الدراسة الموضوعية لعقد (البناء، والتشغيل، وإعادة الملك) b.o.t.إلى النتائج التالية:
(1) (عقد مالي يتكفل المتعاقد بإقامة مشروع، والإنفاق عليه، وتشغيله وصيانته لمدة محدودة يسترد خلالها مصاريفه، وأرباحه، ثم تسليمه لأصحابه دون عوض).
(2) عقد (البناء، والتشغيل، وإعادة الملك) ويرمز إليه (b.o.t)
(3) عقد جديد، مستحدث من نتاج الحياة المعاصرة يسهم في تطوير مرافق المجتمع المدني.
(4) موضوع هذا العقد غالباً مشاريع البنية التحتية شبكات المياه، والصرف الصحي، ومشاريع التلفونات، والكهرباء وغيرها،كبناء المطارات، والخطوط السريعة، والمستشفيات، يقوم بإقامتها القطاع الخاص، والمؤسسات الكبيرة.
(5) أصبح هذا النمط من العقود معتاداً في الدول منذ فتح قناة السويس عام 1950م.
(6) يتميز هذا العقد بأنه يوفر مرافق مدنية للبلاد من دون إثقال ميزانية الدولة مالياً، كما أنه من إحدى السبل الناجعة لتدريب العمالة الوطنية، ونقل التكنولوجيا.
(7) لابد لنجاح مثل هذا العقد من تحديد المسؤوليات، بشفافية تامة دون مواربة، أو مجاملة في كافة المجالات.
(8) يعد مصدراً استثمارياً مهماً يسهم في رفاهية الأمة.
(9) يحقق مصدراً لتسديد القروض من دون أية أعباء مالية على الدولة.
أثبتت الدراسة في القسم الثاني القسم الشرعي ما يأتي:
 أ‌- عقد البناء والتشغيل وإعادة الملك عقد مركب من أربعة عقود رئيسة، وهو بتركيبته التعاقدية عقد جديد أصالة، يتضمن عدة عقود من الباطن. هذا هوا الأصل، والراجح حسبما توصلت إليه الدراسة، وهو بهذا المفهوم يسهم في إثراء الفقه الإسلامي.
 ب‌- يتضمن عقد المقاولة الذي أقره المجمع الدولي بجدة، وبين حقيقته، وتكييفه، وصوره بالقرار رقم 129(3/14) في الدورة الرابعة عشرة بدولة قطر، مضافاً إليه عقد الإجارة على عمل في عقدي التشغيل والصيانة.
(10) تتحقق من خلال هذا العقد الكثير من المقاصد الشرعية ومقاصد المكلفين المبنية على المصالح المعتبرة شرعاً منها: توفير المرافق المدنية للبلاد مما يسهم في راحة المجتمع ورفاهيته، تنمية المال واستثماره بطرق شرعية، جلب خبرات، وصناعات مالية، وحرفية جديدة، وقضاء على البطالة في المجتمع، وقطع لأسباب النزاع والخصومة.
(11) يعد هذا العقد الأنسب حلاً للأوقاف الخربة عديمة الدخل حيث يحقق المقصد الشرعي من الوقف بالحفاظ على الأصول، وتحقيق مصلحة الموقوف عليهم بشكل دائم.
(12) العلاج المشروع لتفادي محظور الربا في هذا العقد هو مشاركة البيوت والمؤسسات المالية الكبيرة، ولاشك أن هذا أكثر ربحية، وأحسن عملاً.
(13) أوجد الشارع الحكيم أساليب فقهية توقيفية لمنع بطلان العقد إذا حدث خلل شرعي ببعض أطرافه بحيث لا ينتقض جميعه، وذلك بتطبيق قاعدة (تفريق الصفقة).
(14) قد يتعرض المشروع لحدث طارئ لم يكن في الحسبان من غلاء، أو كارثة من الكوارث، سبيل الخلاص من ذلك اللجوء إلى النظرية الفقهية: (الظروف الطارئة) لإنصاف كافة الأطراف.
والله المستعان، وهو نعم المولى ونعم النصير، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
--------------------
 
(2) ابن القيم، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر، إعلام الموقعين عن رب العالمين، الطبعة الأولى تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد (مصر: المكتبة التجارية الكبرى، عام 1374/1955)، ج3، ص14.
(3) ابن القيم إعلام الموقعين، ج1، ص 344.
(4) جاء هذا في قرار رقم 65(37) بشأن عقد الاستصناع بعد الديباجة قرر ما يلي:
" أولاً: عقد الاستصناع، وهو عقد وارد على العمل والعين في الذمة، ملزم للطرفين إذا توافرت فيه الأركان والشروط.
ثانياً: يشترط في عقد الاستصناع ما يلي:
ا - بيان جنس المستصنع، ونوعه، وقدره، وأوصافه المطلوبة.
ب - أن يحدد فيه الأجل.
ثالثاً: يجوز في عقد الاستصناع تأجيل الثمن كله، أو تقسيطه إلى أقساط معلومة لآجال محددة.
رابعاً: يجوز أن يتضمن عقد الاستصناع شرطاً جزائياً بمقتضى ما اتفق عليه العاقدان ما لم تكن هناك ظروف قاهرة". قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي المنبثق من منظمة المؤتمر الإسلامي، جدة، الطبعة الثانية (دمشق: دار القلم، وجدة: مجمع الفقه الإسلامي، عام 1409هـ/1988م)، ص144.
(5) قرارات وتوصيات الدورة الرابعة عشرة لمجلس مجمع الفقه الإسلامي، الدوحة (دولة قطر) 8ـ13 ذو القعدة 1423هـ / 11ـ16 يناير 2003م، ص 7.
(6) أبو سليمان، عبد الوهاب إبراهيم، فقه المعاملات الحديثة مع مقدمات ممهدات وقرارات،الطبعة الأولى (الدمام: دار ابن الجوزي، عام 1426هـ)، ص277.
(7) ابن عابدين، محمد أمين بن عمر، رد المحتار على الدر المختار (حاشية ابن عابدين)، ط.د. (بيروت: دار إحياء التراث العربي، ت.د.)، ج4، ص212.
(8) مجمع الفقه الإسلامي المنبثق من منظمة المؤتمر الإسلامي ـ جدة، قرارات وتوصيات للدورات 1ـ 10، القرارات 1ـ 97 الطبعة الثانية، تنسيق وتعليق عبد الستار أبو غدة (جدة: مجمع الفقه الإسلامي، عام 1418/1998)، ص144.
(9) حاشية رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار، الطبعة الثانية، (مصر شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي)، ج3،ص382.
(10) يعرف المالكية الكراء بأنه " بيع منفعة ما لا يمكن نقله " مثل الدور والأرضين مما لا ينقل، ويفرقون بينه وبين الإجارة وهي:" بيع منفعة ما أمكن نقله غير سفينة، ولا حيوان لا يعقل، بعوض غير ناشيء عنها، بعضه يتبعض بتبعيضها"، انظر: أبو عبد الله محمد الأنصاري الرصاع، شرح حدود ابن عرفة، الطبعة الأولى تحقيق محمد أبو الأجفان، والطاهر المعموري (بيروت: دار الغرب الإسلامي، عام 1993)، ج2،ص524،516.
(11) ابن رشد، أبو الوليد الفرطبي، البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليق في مسائل المستخرجة، تحقيق أحمد الشرقاوي إقبال، محمد الحجي(بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1404/1984)، ح8، ص461.
(12) ابن رشد، البيان والتحصيل، ج 9، ص17.
(13) بداية المجتهد ونهاية المقتصد، الطبعة الأولى، تحقيق ماجد الحموي(بيروت: دار ابن حزم، عام 1416/ 1995)، ج3، ص1160.
(14) عند المالكية" بيع معلوم بمجهول، أو مجهول بمجهول من جنس واحد فيهما " الرصاع، شرح حدود ابن عرفة، ج1، ص347.
(15) التلقين، الطبعة الأولى (المغرب: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، عام 1413هـ)، ص106.
(16) قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي، جدة، ص25.
(17) انظر:الكوزة يانكي، ملا صالح، تحفة الطالبين في قسم المعاملات من فقه الشافعي، ط.د. إعداد عبد الحكيم عثمان صالح، (الموصل: مكتبة بسام، عام 1985)، ص42.
(18) الموسوعة الفقهية الكويتية، الطبعة الثانية، الكويت: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، عام 1408/1988)،ج13، ص81.
(19) انظر أبوسليمان، غبد الوهاب إبراهيم، الإبدال والاستبدال، بحث مقدم للجنة العلمية لمنتدى قضايا الوقف الفقهية، غام 2007م، ص4.