الفوضي الخلاقة اضطرابات عدمية. أم تغيير ثوري مبرمج ؟!
9 ربيع الثاني 1432
طلعت رميح

ثمة التباس وعدم وضوح في فهم استراتيجية الفوضي الخلاقة، التي اعلن ان الولايات المتحدة تعتمدها في احداث عمليات التغيير في المجتمعات الاخري، اذ يتصور البعض ان تلك الفوضي هي حالة عدمية تستهدف اثارة اضطرابات وتسعير فتن التقاتل الداخلي (حرب أهلية) وتفكيك الدول وتقسيمها، فقط دون ادراك انها في الاصل نمط "ثوري" من انماط التغيير، وان اثارة الفوضي وهدم مكونات جهاز الدولة ليس الا معبرا لاحداث تغيير ثوري مستهدف، سواء اتفقنا او اختلفنا مع اهداف هذا التغيير او مع اسلوب التغيير هذا.

 

ويبدو ان احد اسباب هذا الفهم الملتبس، راجع الي ان الولايات المتحدة كانت تعتمد في مرحلة سابقة، اسلوب ونمط الانقلابات العسكرية في الدول الأخري، وباعتبارها كانت تخاف كل انماط حركة الشعوب وثوراتها، في ظرف كانت الدولة الأخري المنافسة لها خلال الحرب الباردة ـ اي الاتحاد السوفييتي ـ هي من تركز علي اعتماد اسلوب التغيير الثوري الجماهيري العنيف وتفعل ما في وسعها لدعم حركات التحرير والثورات التغييرية، وتشن حملة دعائية مضادة لامريكا باعتبارها تعادي تطلعات الشعوب.

 

هذا التغيير الذي جري في استراتيجية الولايات المتحدة دوليا، من دعم الانقلابات العسكرية في دول العالم الثالث، الي ابتكار نمط الفوضي الجماهيرية المنظمة، لم يجر ادراك ابعاده بدقة ـ بما احدث هذا الارتباك في الفهم ـ اذ ظل البعض علي "رؤيته القديمة" التي تري الولايات المتحدة خائفة ومضادة لكل حركة جماهيرية، وتساءلوا مستنكرين، كيف يمكن اعتبار امريكا في صف تلك الحركة الشعبية العاصفة، التي شاهدها العالم ـ فاغرا فاه ـ في دول اوروبا الشرقية. هم لم يستطيعوا حل معضلة وقوف الولايات المتحدة في صف حركات تعتمد علي الشعوب وحركتها، وهي المعروف عنها التعاون مع نظم الحكم المستبدة ورفضها تحرر الشعوب وسعيها للاستقلال والتنمية المستقلة. الخ.

 

وواقع الحال ان الولايات المتحدة قد اوضحت بكل الاوصاف والافعال هذا التغيير في استراتيجيتها بدءا من الدور الذي لعبته في تفكيك خصمها الاتحاد السوفييتي عبر رفع شعارات الحرية والديموقراطية وحقوق الانسان وحقوق الاقليات ومن خلال عمليات احياء الثقافات القديمة في المجتمع السوفييتي (بعث اللغات القديمة) واذكاء روح النزعات الانفصالية. الخ، كما كان واضحا بجلاء مدي تطور تلك الاستراتيجية واندفاعها بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، لاحداث تغييرات في كل بلد من بلدانه السابقة، من خلال الثورات البرتقالية وثورات الورد.

 

هذا الانتقال في الرؤية الاستراتيجية الامريكية، لم يأت بين يوم وليلة او من خلال فكرة طارئة علي ذهن احد الزعماء او المفكرين او المخططين، بل جاء وفق منهج التجربة والخطأ اثناء تجربة الصراع خلال الحرب الباردة، وبناء علي دراسات اعدها كبار العلماء في علمي الاجتماع والنفس واساتذة وخبراء الاعلام.

 

كانت الولايات المتحدة قد اعتمدت خلال الحرب الباردة، استراتيجية المواجهة الشاملة، التي قامت علي تصعيد الدعاية الايديولوجية (عيوب الاشتراكية والشمولية ومزايا الرأسمالية والحرية والديمقراطية والتعددية) والدخول في سباق التطوير التكنولوجي في الصناعات الحربية وفي مجالات الفضاء (سباق التسلح)، ومن خلال الحروب بالوكالة (حروب من دول موالية لها، ضد دول معادية لها، بدعم وتمويل منها) وتدبير الانقلابات العسكرية التي كانت مشتهرة بشكل خاص في امريكا اللاتينية، غير ان التجربة المريرة الطويلة لتلك الحرب اثبت فشل تلك الاستراتيجية، فجري التخطيط الاستراتيجي علي نحو مختلف، حتي اعتمدت استراتيجية الفوضي الخلاقة التي اعتبر الاعلام قائد وسائلها، حتي قال احد قادة الاتحاد السوفيتي السابق، ان ازرار التليفزيون فعلت ما لم تفعله "الصواريخ النووية"، تعليقا علي هدم الجهاز السوفيتي وتفكك تلك الامبراطورية وتحول روسيا الي دولة "اقليمية" بدلا من حالة الدولة العظمي المنافسة والمنهكة للولايات المتحدة.

 

وحرب الفوضي الخلاقة، هي استراتيجية شاملة هي الاخري ـ تحتاج الي سلسلة كتب لشرحها ـ اذ هي تشمل جوانب فكرية واقتصادية وسياسية وعسكرية واجتماعية واعلامية، يمكن تلخيص تطبيقها في منطقتنا بالاجمال في اتجاهين استراتيجيين علي صعيد خطط الحركة، اولها اتجاه حركة في الاقليم الذي يجري تطبيقها فيه، والثاني اتجاه للحركة علي الصعيد الوطني لكل دولة من الدول المستهدفة.

 

ومن خلال ما جري في منطقتنا وبشرح عملي تطبيقي، فعلي الصعيد الاقليمي، جري "اخراج" قوة ودور كل من افغانستان والعراق من التوازن الاقليمي، وهما حلقتان من حلقات هذا التوازن، بما احدث فراغا استراتيجيا اربك التوازنات المستقرة الطبيعية ـ القديمة ـ التي حفظت حالة الاستقرار او حالة التوازن من قبل في هذا الاقليم وذاك، وهو ما احدث حراكا وفوضي بسبب خروج تلك الدولتين الذي احدث تغييرا في الوزن النسبي لقوة كل دولة من دول الاقليم ـ وهو ما كان سببا لاندفاعات ايران وتركيا ـ كما ان اخراج العراق وافغانستان من الاقليمين جاء بالولايات المتحدة استراتيجيا (لا عسكريا فقط) في داخل الاقليم فصارت تدير صراعاته وترتب اولويات الصراعات علي طريقة السيطرة علي الجسر وتحويل اتجاهات الحركة والصراع بين اطراف الاقليم، وفقا لما يخدم مصالحها.

 

وعلي الصعيد الداخلي في كل دولة من الدول (وهي خطة عامة تجري ترجمتها حسب ظروف كل دولة)، فقد جري فتح النقاش والحوار بشراسة حول كل ما هو مستقر في المنظومة العقائدية والفكرية والمنهجية والقيمية التي تمثل اساسا مستقرا لقيام وخصوصية تلك المجتمعات، من خلال الاعلام الذي شهد توسعا في تأثيره علي نحو ثوري حقا وغير مسبوق في التاريخ الانساني. لقد جري الامر وفق دفع مركب استهدف الجانب الاول منه هدم الثقافات السائدة ورموزها ـ ولذا شاهدنا تسفيها ونقدا لاذعا حتي لقيم الوطنية والاستقلال ـ وفق حملة استمرت حتي تمت ازاحة النمط الثقافي السائد علي درجة او باخري واطاحة واضعاف الرموز الفكرية. وفي جانبها الثاني جري تقديم وتلميع قيادات فكرية وسياسية واعلامية بديلة عن تلك التي كانت تتسيد عقول المواطنين وتحفظ للمجتمع هويته. لقد جرت عملية مبرمجة ومخططة للتفكيك النفسي لعلاقة الفرد للفرد، والفرد في داخل الكيان الاسري (شابا او زوجة) ولعلاقة الفرد بالمجتمع والفرد بالمؤسسات والدولة. الخ. وكذا جرت عملية تفكيك للولاء الوطني والقومي واعتبار تلك القيم. قديمة، والقول بان العولمة شيدت ثقافة عالمية حلت محل الثقافات الوطنية التي كثيرا ما وصفت قيمها بالمتخلفة او الخشبية، وهكذا جرت تغييرات خطرة، اذ حلت قيمة المال محل قيم الاخلاق والكسب السريع العاجل بديلا لفكرة العمل. الخ.

 

لقد كان الاهم بين سبل تحقيق تلك الاستراتيجية، هو هذا الدور الهائل للاعلام، اذ جري تعريض عقول المواطنين في المنطقة وفي داخل كل دولة، الي حالة ضخ اعلامي اخباري ومعلوماتي وتحليلي، استهدف تجريد المجتمعات من منظومتها الثقافية والولائية والقيمية ـ التي هي الحالة الدفاعية الطبيعية للمجتمعات ومعاملات التماسك الوطني والاجتماعي ـ تحت شعار انها منظومات قديمة، وقد قصد ان تتدرج الخطي، فتبدأ بالهدم، لتصل الي طرح منظومة جديدة هي في الاغلب اسوأ ما في المنظومة الغربية لا افضل ما فيها، اذ الغرب ليس بلا قيم وليس بلا هوية ولا يعرف التكاسل بل يعرف الانتاج والابتكار. الخ.

 

ونخطيء اذا قلنا، ان ما جري لم يكن سوي فعل ثقافي ودعائي دون بناء كوادر علي الارض، اذ نحن امام استراتيجية لا تستهدف الذهاب بالفكر والقيم والسياسة الي منطق العدم ـ الذي يراه الكثيرون من الذين ينظرون للصراعات بمنطق الكره وحب التدمير-بل جري الامر وفق خطة محددة استهدفت تدريب كوادر سياسية واعلامية وفكرية لقيادة الفعل التغييري والمرحلة الجديدة.

 

الفوضي البناءة فعل تغييري او هي ثورات تغييرية، وليست خطة لصناعة الفوضي وترك الامور لتفاعلاتها لاثارة الاضطراب او حتي الاقتتال الاهلي الداخلي لمجرد انهاك المجتمعات وتركها تأكل ذاتها، فذلك قد يرتد عنفا ضد الخارج ولو بعد حين. وكذا هي فعل قام ويقوم علي اكتاف قيادات وكوادر محلية من فئات تحديثية او هكذا حاولت ان تظهر بهذا المظهر تقود عملية التغيير او ثورات التغيير وفق اسلوب او استراتيجية الفوضي الخلاقة وتدافع عنها باعتبارها عملا ثوريا "تقدميا"، وهي تبنته كاملا باعتبارها، صاحبة مصلحة في التغيير.

 

كان هناك نشاط محموم علي الارض، من خلال العديد من التنظيمات التي تشكلت حديثا داخل كل المجتمعات، التي يطلق عليها منظمات المجتمع المدني الممولة من الخارج، والتي سارت نحو تشكيل قوة حقيقية في الصراع داخل المجتمع ـ وليس كل المنظمات كذلك بالطبع ـ كما جري تشكيل بعض الاطر السياسية وتقديم شخصيات جديدة، استفادت من علاقاتها الدولية في تثبيت اوضاعها في الداخل.

 

وهنا يثور السؤال في اذهان الجميع. لم تعتمد الولايات المتحدة مثل تلك الخطة في بلدان تتعاون قيادتها معها ومحسوب علي الولايات المتحدة دعمها واسنادها ايضا؟
وباختصار شديد، فقد استهدفت الولايات المتحدة، توسيع النخب المرتبطة بها في داخل المجتمعات، وتصعيد دورها الجماهيري الي درجة القيام بتلك الثورات التغييرية للوصول الي الحكم بيد وشرعية الجمهور، لا لان نظم الحكم القائمة هي نظم معادية للولايات المتحدة، او لانها لا تنفذ طلباتها، بل كان الاصل هو توسيع القاعدة الاجتماعية والسياسية للحكم المرتبط بالولايات المتحدة. وبمعني اخر، فتلك الثورات التي جرت في اوروبا الشرقية استهدفت انهاء العلاقة الهشة للولايات المتحدة بالمجتمعات ونقل نمط السيطرة عليها من حالة الاعتماد علي نخب ضيقة ممثلة في الحاكم وبعض اعضاء الحكومة، الي حالة مجتمعية يصعب انهاؤها بانقلاب من هنا او هناك.

 

وقد جرت الاستراتيجية الامريكية في درجتين، اولاهما، محاولة "تطعيم" تلك النظم المرتبطة بالولايات المتحدة بتلك النخب الجديدة عبر اجراءات جزئية، وقد لاحظنا كيف جرت بعض التغييرات تحت الضغط الامريكي في مرحلة السنوات الخمس الاخيرة. وثانيها يطبق في حالة اصرار نظم الحكم علي عدم القبول بهذا التغيير، اذ يجري التحول الي نمط الثورات التغييرية عبر الفوضي الخلاقة التي تخلع النظم ضيقة التمثيل السياسي والمجتمعي وتستبدلها بنظم التحظي بشرعية الجمهور "العام".

 

غير ان المجتمعات ليست قطعة زبد تقطعها سكين اي خطة مهما كانت مدروسة ومخططة بدقة، اذ المجتمعات لها آليات دفاعها الطبيعية عن نفسها ولها نمط وعيها وتتميز بظروف تشكلها عبر الاف السنين، وفي ذلك هي تقاوم تلك الخطط بصفة تلقائية، كما يواجه انفاذ تلك الخطط ازمة حقيقية حين يجري تطبيقها وانفاذ مشروعها في المجتمعات الواسعة الاعداد والتي وان كانت من تعاني شيخوخة النظم واستبدادها، الا انها ليست مجتمعات هشة في مكونها العام لا علي صعيد نخبها ولا مؤسساتها. في المجتمعات الاصيلة التشكل والتبلور تشارك في اعمال التغيير الجماهيري تلك، حركات سياسية قديمة وقوية وذات جذور في مجتمعاتها، وهي ذات افق واهداف اخري، بما يهدد خطط التغيير الامريكية تلك بتغيير اتجاه الحركة وطبيعة النتائج النهائية، بل هي حالة قد تتحول فيها حالة الفوضي المصنوعه الي ثورة حقيقية تسير بالبلاد نحو الاصلاح الوطني وتحقق الاستقلال السياسي والاقتصادي والنهضة. في حالات اخري خلاف ما جري في اوروبا الشرقية لم تقتصر حركة الشارع علي مدبري ومرتبي ذاك النمط من الفوضي، بما جعل الامور اشد تعقيدا اذ تطول فترة حركة التغيير وتتحول حركة الفوضي الي حالة تضارب بين المشاركين، علي عكس ما جري في اوروبا الشرقية التي حسم الامر فيها علي نحو محدد وفي وقت قصير. هنا يحدث تعويق لنمط واهداف الفوضي البناءة المصدرة دوليا، عبر تغيير الاتجاه وممارسة التضاغط الوطني ومنع اختطاف القلة المنظمة لفعل الجمهور العام، فيتحقق الاصلاح، وهذا هو التحدي العميق الملقي علي عاتق القوي الوطنية في تلك المجتمعات.

 

المصدر/ الأهرام المسائي