كارثة جدة وفقه الأولويات
27 صفر 1432
د. محمّد بن عبد العزيز المسند

ثمّة فقه في الشريعة الإسلامية يطلق عليه العلماء (فقه الأولويات)، وهو فقه جليل يُعنى بتقديم الأهمّ على ما هو أقلّ أهميّة، فيقدّم الأصل على الفرع، والعمل الفاضل على العمل المفضول، لا سيّما عند التزاحم أو التعارض، ومن باب أولى أن يقدّم العمل الفاضل والواجب على المحرّم والمشتبه فيه، وقد كان نبيّنا ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يربّي أصحابه على هذا الفقه العظيم، ففي الصحيحين عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمّا بعث معاذاً ـ رضي الله عنه ـ على اليمن قال "إنّك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أوّل ما تدعوهم إليه: عبادة الله، [وفي رواية: أن يوحّدوا الله ]، فإذا عرفوا الله فأخبرهم أنّ الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا فعلوا فأخبرهم أنّ الله فرض عليهم زكاة من أموالهم وتردّ على فقرائهم، فإذا أطاعوا بها، فخذ منهم. وتوقّ كرائم أموال الناس))، فهذا الحديث أصل فيما يسمّى بفقه الأولويات، فإنّه أمر معاذاً بأن يبدأ بالتوحيد الذي هو الأصل الأكبر والذي لا ينفع عمل إلا به، ثمّ بالصلاة التي هي عمود الدين فلا يقوم الدين بعد التوحيد إلا بها، ثمّ بالزكاة التي تقي المجتمع المسلم من العوز والفقر والطبقية المقيتة...

 

ويبدو أنّ هذا الفقه الجليل قد غاب عن بعض المسؤولين في جدّة ومنطقة مكّة، فانشغلوا ـ وأشغلوا الناس ـ بقضايا جانبية وفرعية، بل بقضايا مشتبهة ومحل خلاف وتنازع سرمدي، وأهملوا القضايا الأساسية التي يفضي إهمالها إلى هلاك الناس وذهاب أرواحهم وممتلكاتهم، كما حصل في هذه الكارثة الجلل، ومع أنّ هذه الكارثة قد حصلت في العام الماضي، ورأى الناس صوراً مأساوية لآثارها المدمّرة، وانكشف الكثير من المستور، وكان الواجب المتحتّم أن يكون السعي لحلّ هذه الكارثة هو أولى الأولويات، وأن تبذل الجهود ليلاً ونهاراً لحلّها؛ إلا أنّ بعض المسؤولين هناك كانوا مشغولين بقضايا جانبية أقاموا لها منتديات مشبوهة تكلّف الكثير مثل قيادة المرأة للسيارة ـ في شوارع مزدحمة معظمها قد أغلق بسبب السيول والأمطارـ، وتشغيل المرأة (كاشيرة) مع وجود الكثير من الشباب العاطل، وإقامة أندية نسائية تبتذل فيها المرأة، وقضية السعودة في حلقات التحفيظ، ونحو ذلك من القضايا الجانبية المثيرة للجدل والنزاع والاختلاف والغيظ أحياناً، وبعضهما قد حسم من كبار علماء البلد!!

 

وليس غياب هذا الفقه مختصاً بمسؤولي جدّة فقط، بل إنّ المتأمّل في كتابات الكثير من الصحفيين وبرامج الكثير من الإعلاميين يلحظ غياب هذا الفقه إمّا جهلاً منهم وأمّا مناكفة لمن يرون أنّهم خصوم لهم من العلماء والدعاة والمصلحين. 

 

إنّ المتأمّل في أحوال البلدان التي تقدّمت ونفضت عنها غبار الذلّ والتخلّف والتبعية يجد أنّ من أهمّ أسباب تقدّمها هو الاهتمام بفقه الأولويات، والحرص على السلم الاجتماعي بالبعد عن كلّ ما من شأنه تفريق المجتمع وإشغاله بالتوافه والقضايا الجانبية المختلف فيها، ولنا في اليابان وغيرها من الدول المتقدمة عبرة وعظة.. والله ولي التوفيق.

 

___________________

* المصدر: لجينيات.