3 رمضان 1432

السؤال

يا شيخ: أنا إنسان التزمت منذ سنتين تقريبًا، وانتقلت إلى مدينة أخرى؛ بسبب الدراسة الجامعية، وعندما أعود إلى أهلي أجد مشكلة؛ وهي عدم تعاون الوالد مع الوالدة، فالوالد كثير السفر؛ بحيث أنه يسافر أسبوعًا في كل شهر، لذلك فهو يترك الحِمْل على الوالدة، ووالدتي من الأشخاص سريعي الغضب، المتوترين، وأحيانًا تحدث بعض المشاكل البسيطة؛ مثل التي تحدث في كل بيت، فأمي هي التي ترشد وتتكلم وأحيانا تصرخ، ويندر ما تجد والدي ينصح ويتكلم.
أنا أعتقد أن أمي تواجه ضغوطًا لهذا السبب، وأيضاً بسبب ابتعادي عنهم؛ فإن الحمل أصبح على كاهلها، وقد تكلَّمَتْ معي عن والدي؛ وكيف أنه لا ينصح ولا يرشد، وأنا أعتقد أن والدي يظن أن واجب الأب هو فقط جمع المال، وقد غفل عن جانب التربية، فكيف أساعد أمي وأبي مع العلم أنهم متزوجين منذ 20 سنة؟. وجزاك الله خيرًا.

أجاب عنها:
همام عبدالمعبود

الجواب

ولدي الحبيب:
السلام عليكِ ورحمة الله وبركاته، وأهلا ومرحبا بكِ، وشكر الله لكِ ثقتكِ بإخوانِكِ في موقع (المسلم)، ونسأل الله (عز وجل) أن يجعلنا أهلا لهذه الثقة، آمين.. ثم أما بعد:
رغم أن رسالتك تتحدث عن مشكلة عائلية محزنة؛ إلا أنني على الجانب الآخر وجدتني سعيدًا بروحك العالية، وحكمتك الكبيرة رغم صغر سنك، فكونك مشغول بمثل هذه المشكلة، ومهموم بالبحث لها عن حلول، ومشفق على والدتك، من حجم الضغوط التي تعاني منها، يعطينا الأمل في شباب أمتنا، ويطمئننا عليها، وعلى مستقبلها؛ أمتنا ستكون بخير إن شاء الله، وربما كان السبب في نضجك المبكر، ووعيك اللافت للنظر هم ما قلته في رسلتك من أنك (التزمت منذ سنتين)، أو لأنك تعيش بعيدًا عن الأسرة (بسبب الدراسة الجامعية).
أما عن مشكلة (عدم تعاون الوالد مع الوالدة)، وأنه (كثير السفر)، لدرجة أنه (يسافر أسبوعًا في كل شهر)، مما يجعله يلقي بالمسئولية و(يترك الحمل على الوالدة)، خاصة وأن والدتك من الشخصيات (سريعي الغضب)، ليس هذا فحسب بل ومن (المتوترين) أيضًا، لعل هذا هو السبب المباشر في حدوث (بعض المشاكل البسيطة)، مثل التي نراها (في كل بيت)، فضلا عن قولك (أمي هي التي ترشد وتتكلم وأحيانا تصرخ)، بل ومن النادر أن (تجد والدي ينصح ويتكلم)، وهو ما يجعل العبء كله على كاهل الأم.
كل هذا جعلك تشفق على أمك، وتعتقد أنها (توجه ضغوطًا) لهذا السبب، وربما أيضا بسبب ابتعادك عنها؛ مما دعاها للحديث (معي عن والدي)؛ وكيف أنه (لا ينصح ولا يرشد)، وهو ما جعلك تخلص إلى القول بـ(أنا أعتقد أن والدي يظن أن واجب الأب هو فقط جمع المال)، بينما (غفل عن جانب التربية)، وفي النهاية تتساءل: (كيف أساعد أمي وأبي؟)، و لم تنس أن تذكر لنا أنهما (متزوجين منذ 20 سنة)!!.
والحقيقة – ولدي الكريم- أن الكثير من الآباء يظن خطئًا أن وظيفته تنحصر في جلب الطعام والشراب والكساء لزوجته وأولاده، وينسى أن عليه واجبًا أهم وهو التربية، وقد صدق الشاعر إذ يقول: (وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ماكان عوده أبوه)، وكذا الأم في البيت لا ينتهي عملها عند تجهيز المأكل والمشرب، وتنظيف الدار، وغسل وكي الملابس، و...إلخ، وإنما عليها مسئولية كبيرة في التربية والتوجيه والتعليم لأبنائها منذ نعومة أظفارهم.
ولعل المهمة الأكبر للأب هي تقديم القدوة، وضرب المثال لأبنائها، حيث يراقبون أقواله وأفعاله، ليقتدوا به، ويقلدوه في كل شيء، حسن أم قبيح، وهو ما يلقي عليه بالتبعة والمسئولية، ويلزمه بمراعاة ما يقول من كلام وما يأتي من أفعال، واضعًا في اعتباره أن هناك من يراقبه، ليقلده، وقد أحسن أحد الدعاة عهندما وجه كلامه للقائمين على أمر الدعوة والتربية فقال لهم: (اتقو الله في دعوتكم، واعلموا أن الناس يسمعونكم بأعينهم لا بآذانهم)، أي أنهم يرصدون أفعالكم لا أقوالكم، وهو ما ينطبق أول ما ينطبق على الآباء.
ومهما كان انشغال والدك، ومهما كانت أعماله، ومهما زادت سفرياته؛ فمن الواجب عليه أن يخصص جانبًا من وقته لأولاده، فلذات أكباده، وحصته من هذه الدنيا، فيجلس معهم، ولو مرة في الأسبوع، يعلمهم ويرشدهم ويوجههم، ويرد على أسئلتهم واستفساراتهم، يصحح أخطاءهم، ويرشد تصرفاهم، ويدلهم على أقوم الطرق وأيسر السبل، يعطيهم من خبرته، ويقطف لهم من بستان حياته زهرات، ويقص لهم من مسيريته حكايات، ويستخل لهم منها الدروس والعبر والعظات.
وأعتقد أن دورك في حل هذه المشكلة؛ سيكون مزدوجًا؛ حيث يجب عليك أن تتستأذن والدك في الجلوس معه منفردًا، فإذا أذن لك فلتحدثه ملتزمًا بأدب الحديث مع الأعلى (الوالد/ الأستاذ/ الشيخ/ الحاكم) وله فقه خاص، وتلفت انتبابهه برفق ولين، إلى معاناة والدتك، مع إخوتك، وثقل الحمل عليها، وأنكم جميعًا تقدرون جهده الكبير، لتحصيل الرزق الحلال، وتعبه وعنائه من أجلهم، بيد أنكم في حاجة للجلوس معه، ومشاورته فيما يعن لكم من مشكلات الحياة، بحكم خبرته الطويلة، وحنكته العالية، ثم تطلب منه أن يضرب لكم موعدًا ثابتًا، ولو ساعتين في الأسبوع، للجلوس إليه وتبادل الرأي معه، وهكذا شيئَا فشيئًا حتى يعود لدوره.
كما أن عليك دور في الجلوس مع أمك؛ لتوضح لها عظيم الأجر الذي ينتظرها في الآخرة؛ جراء صبرها وتحملها، وتذكرها بقوله تعالى: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُور) [الشورى/ 43]، وتبين لها مكانتها العظيمة؛ قال تعالى: (وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا)[الأحقاف/ 15]، وقال تعالى: (وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [لقمان/ 14]؛ وفي الآيات إشارة لمكانة الأم، التي أفصح عنها الرسول (صلى الله عليه وسلم) فيما رواه أبو هريرة (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)، قال: جاء رجل إلى رَسُول اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم) فقال: يا رَسُول اللَّهِ من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أبوك" (متفق عَلَيْهِ).
وبهذا يمكنك أن تقرب وجهات النظر، وأن تكون حمامة سلام، ووفاق بين نور عينيك؛ أمك وأبيك، أحب خلق الله إليك بعد رسول لله، وأكثرهم حقًا عليك، دون أن تجرح أحاسيسهم أو تؤلم مشاعرهم.. نسأل الله (عز وجل) أن يصلح لك أبويك، وأن يهد قلبيهما للاستجابة لنداء الشرع والعقل، وأن يصرف عنكم كيد الشيطان ومكره.. اللهم آمين.. وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.