الطفل بين التعلق.. والانفصال
12 صفر 1432
معتز شاهين

يعد التعلق في حد ذاته مظهر من مظاهر السلوك الاجتماعي لدى الطفل ، بل يمكننا القول بأنه أشد الأنماط السلوكيه تأثيرًا ، وأكثرها أهميه بالنسبه للنمو في المراحل التي تلي مرحلة المهد والرضاعة.
 
والتعلق هو رغبة الطفل الشديده في أن يكون قريبًا جدًا - إلى درجة الإلتصاق - بشخص من الكبار ممن حوله ، له مكانه معينه لديه ، فهو يلاحقه ويلاعبه ، ويطلب منه أن يحمله ، ويبكي اذا تركه ، ويكون هذا التعلق بنسبة كبيرة تعلق بالأم .
 

 

فتعلق الطفل في سنوات عمره الأولى بأمه شيء طبيعي ومألوف ، باعتبار أن الأم مصدر الأمان لهذا الطفل ، ولكن سرعان ما تمر تلك المرحلة وتبدأ من بعدها مرحلة الانفصال لاكتشاف المحيط والعالم الذي يحيط به .
 
وقد اختلفت نظريات ومدارس التربية وعلم النفس التربوي حول أسباب ذلك التعلق ودوافعه لدى الطفل ، هل هي ناتجة عن انبعاث الاهتمامات الاجتماعية من الحاجات البيولوجية للفرد مباشرة ، فالطفل برأيهم يبدأ بالشعور بالحب نحو أمه لأنه يقرنها بتجربة الإطعام الملذة.
 

 

أم أن إرضاء الدافع الأولى ( البيولوجي ) من جانب الأم أثناء إطعامها وليدها، يدفع الأخير ليكون دافعاً ثانوياً  ( اجتماعياً ) يتمثل بتقربه من الأم واتكاليته عليها.
 
حتى جاء " بولبي " بنظريته حول التعلق 1969، والتي رأى فيها أن الاهتمام الاجتماعي دافع إنساني متميز وأولي مثله مثل الاهتمامات والدوافع البيولوجية ، ويؤكد ( بولبي ) أن لرابط التعلق جذور بيولوجية ، حيث تبدأ علاقة الرضيع بأمه على شكل إشارات داخلية من الطفل لجذب الأم ، ويتطور مع الوقت رابط عاطفي حقيقي بين الأم ووليدها ، فحتى مع فطام الأم لوليدها واعتماده على غيرها في الحصول على حاجاته البيولوجية الأساسية ( مأكل / مشرب ) ، إلا أن هذا الرابط يبقى موصولاً بين الأم وابنها.
 

 

وقد قدم عمل " هارلو " في مجال الحيوان دعمًا جديدًا لتلك النظرية، إذ قد أبدت صغار القردة تعلقاً ببعضها البعض على الرغم من أنه لم يطعمها. فقد وضعت القردة، في تجربة هارلو مع نوعين من الأمهات الحديدية الصنع ، الأولى تتكون من أسلاك معدنية ، والثانية من أسلاك معدنية ولكن مغطاة بالقماش. وكان لكل منها زجاجة إرضاع في صدرها يستطيع الصغار تناول طعامهم منها. مالت كل القردة للتعلق بالأم الحديدية المغطاة. وعندما وضع شكل مرعب في القفص هربت صغار القردة من كلتا التجربتين للاحتماء بالأم القماشية !!
 

 

ويمكن لنا أن نجمل أنواع التعلق إلى نوعين هما :
-        تعلق إيجابي :
ويمكن أن نطلق عليه ( التعلق الآمن ) ، وهنا يكون الطفل متعلقًا بأمه كمصدر للأمن ، ولكنه يجعلها كمنطقة انطلاق ، ينطلق من خلالها لاستكشاف ما حوله ، ثم يرجع الطفل إلى أمه ( قاعدة الأمان ) ليستمتع بحنانها والشعور بالأمان معها ، وهنا الأم تلعب دورًا مهمًا جدًا في الوصول بالطفل إلى ذلك النوع من التعلق ، فتدعمه نفسيًا ، من خلال تشجيعه لاكتشاف الأشياء والأشخاص ، ولا تكون عائق يمنعه من التواصل مع الناس بحجة الخوف عليه ، وهذا ما نجده في كثير من الأمهات ، نجدها تحتضن الطفل ، وإذا تركها وذهب تقف تنظر إليه ، أو إذا سلم على أحد ، وهذا ما يجعل الطفل يتعلق بها تعلقا شديدًا وينقلنا إلى النوع الثاني من التعلق وهو
 
-        التعلق السلبي ( التعلق المقاوم ) :
وفيه يكون الطفل متعلقًا بأمه بشدة نتيجة لما سبق من تصرفات سلبية للأم ، ويبدي مقاومة للشخص أو الموقف الذي يريد أن ينتزعه من حضن أمه ، وبذلك يفشل في استكشاف المحيط الذي يحيط به ، بل ويبدي غضبا وانفعال عند عودة الأم له كأنه يعاقبها على ما فعلته معه من تركها له ، وهنا الأم لم تدعم الطفل نفسيًا ، وستجعل انفصاله عنها صعبًا.

 

 

 
والطبيعة النفسية للأم هي التي تفرض وتوثرا تأثيرا شديدا على علاقة الطفل بالأم ومدى تعلقه بها ، فالأم التي تتمتع بقدرة استجابة عالية لاحتياجات الطفل ، مع حزم وحنان مترافقين ، تلك الأم تجعل الطفل واثقًا من أن أمه سوف تكون جاهزة إذا احتاج لدعمها, وأنها سوف تقوم بالواجب بفعالية.
 
على عكس طبيعة الأم النفسية في التعلق المقاوم ( السلبي ) ، فنجدها إما تفتقر إلى الرقة في ضبط استجابتها مع احتياجات الطفل ، وليس لديها القدرة على تحديد التوقيت المناسب لهذه الاستجابات بشكل حساس يتلاءم مع مشاعره ، أو عصبية متشنجة في ردود أفعالها ، مما يجعل الطفل لا يستطيع الاعتماد عليها للحصول على الدعم المطلوب ، وهذا يجعله غاضباً وحاقداً تجاهها كلما تركته.

 

 

 
وهناك فروق فردية في شدة التعلق .. فالأطفال يختلفون في درجة التعلق بالكبار ويرجع ذلك إلى امرين :
 
•        الخصائص التكوينيه للطفل : حيث المستوى الامثل للاستثاره التي يحتاج اليها ، تختلف من طفل لأخر.
 
•   عوامل بيئيه : فهناك بعض الأفراد المحيطين بالطفل يستطيعون لفت انتباه الطفل أكثر من غيرهم ، فالطفل اذا وجد من يشبع له حاجاته الى استثارة حواسه الخمس مع إشعاره بالأمان بالدرجه التي تتفق مع المستوى الأمثل له ، فإن مثل هذا الشخص هو الذي يفضله الطفل عن غيره ويتعلق به كثيرًا.

 

 

 
وللتعلق لدى الطفل مراحل مختلفة :
 
1.  مرحلة ما قبل التعلق ( من الولادة حتى 6 أسابيع ) : وهنا تساعد الإشارات الداخلية على توطيد العلاقة مع الشخص الآخر ( كابتسامة ، التحديق بعين الأم ) ، وفيها يمكن للطفل أن يتقبل أن تتركه أمه في رعاية أحد أخر.
 
2.  مرحلة تكون التعلق ( من الأسبوع السادس حتى الشهر الثامن ) : وفيها  يبدأ الطفل في التمييز بين الشخص الغريب والمألوف ، ويكتشف مدى تأثير تصرفاته على سلوك الآخرين ( كالبكاء ) ، وحتى الآن لا يزعجه انفصاله عن أمه رغم أنه يميزها.
 
 
3.  مرحلة التعلق الواضح ( من الشهر الثامن حتى سن سنتين ) : وفيها يكون التعلق بالأم واضحا جدا في تصرفات الطفل ، وينزعج عندما تتركه ويغضب ويبدأ بالبكاء والصراخ ، ويدرك أن الأم موجودة حتى وإن لم يراها.
 
4.  مرحلة تكوين العلاقة المزدوجة ( سن سنتين ) : فنتيجة للتطور الذهني ( العقلي ) للطفل مع قرب السنة الثانية ، يستوعب الطفل عوامل حضور وغياب الأم وتوقع عودتها ، ويبدأ الطفل في استخدام أسلوب الحوار والمفاوضة لمحاولة إبقاء الأم بجواره ، وهنا يمكن للأم بدء الحوار معه ، وأنه كبر ، وأنها سوف تخرج وتعود سريعًا . و يذكر أن الطفل يمر بمرحلة الانفصال عن الأم خلال مراحل التعلق السابقة وتبدأ فترة الانفصال تلك بين الشهر الرابع والخامس ، وتلمس الأم ذلك عندما تحمل وليدها وتراه يحاول الالتواء بعيدًا عنها لاكتشاف المحيط ، وفي الشهر الـ 18 يدرك الطفل أنه وأمه كيانين مستقلين ، وباكتسابه القدرة على المشي يغامر بالابتعاد عن أمه لاكتشاف الغرفة ، ولكن يلتفت باستمرار ليتأكد من وجودها خلفه ويستعيد شعوره بالأمان.
 
5.  التعلق لدى طفل ما بعد السنتين : بالنسبة لطفل مابعد السنتين ، فتمتاز تلك المرحلة ببدء الانفصال الفعلي عن الأم ، ويقع الطفل هنا حيرة وتمزق داخلي ، بين رغبتة في الاستقلالية ، ومقاومة الانفصال عن الأم من جهة أخرى ، وتظهر هنا نوبات الغضب عند طفل تلك المرحلة نتيجة لهذا الصراع النفسي ، وهي أزمة مؤقتة يساعد صبر الأم ودعمها على تجاوز الطفل هذه المحنة ويكون طفلا ديناميكيا محبوبا متفاعلا مع الظروف الصعبة بشكل سليم. ويقلل من فرص استمرار حالة التعلق بالأم مع تقدم السن.
 
6.  التعلق ومرحلة الطفولة المتأخرة : ولكن ماذا عن تعلق الطفل بأمه ومدى تأثير مرحلة الانفصال في فترة الطفولة المتأخرة ، فقد أجريت دراسة حول ( أنماط التعلق وعلاقتها بالقلق والكفاءة الإجتماعية في مرحلة الطفولة المتأخرة ) ، للباحثة " هنادي عبد الوهاب الهروط " ، وقد أجريت الدراسة على أكثر من 400 طالب وطالبة ، وقد أشارت نتائجها إلى أن أطفال نمط التعلق الآمن يتميزون على نظرائهم من نمط التعلق المقاوم أوالتجنبي بدرجة ذات دلالة على متغيرات الكفاءة الاجتماعية ، وقد ظهر أثر رئيسي لمتغير الجنس على سمة القلق ، يشير إلى أن الإناث بوجه عام أعلى قلقاً من الذكور في تلك المرحلة.
 

 

 

وهنا يثار السؤال الأساسي لأي أم تعاني من مشكلة تعلق أبنها بها وهو ؛ كيف توازن الأم بين ابنها ومسؤولياتها؟
 
- وهذه بعض الخطوات التي تعين الأم على الحفاظ على هذا التوازن ، وعلى تخفيف حدة التعلق :
 
1 - تبدأ مشكلة التعلق من سلوكيات الوالدين تجاه الطفل ، فقد يتعامل أحد الوالدين بطريقة خاطئة مع الطفل ، فقد يكون الأب قد تعامل بنوع من الفتور أو الشدة فجعل الولد ينفر منه ويلجأ للأم ، أو قد تكون الأم قد أسرفت في تلبية رغبات الطفل وتدليله ، فتجعله يرتبط بها زيادة عن اللازم ، فالأم تلبي كافة رغباته فلماذا يبعد عنها ؟
لذا على الأم ألا تلبّي لطفلها كل طلباته ؛ حتى لا تتسبّب في تدليلة ، وتزيد من تعلّقهِ بها. حتى ولو بكى الطفل وصرخ وصاح بكل قوته ، فمهما بكى سيسكت ، ومهما غضب سيهدأ ، ولكن الأمر يحتاج من الأم بعض الصبر والقدرة على التحمل ، فلا تغضب و لا تنفعل ، ولكن تواجه الطفل بكل حزم وهدوء ، وفي نفس الوقت تشعر طفلها بحبها له ، من خلال كلمات تهدئ من روعه ، مثل ( ماما تحبك .. ماما تريد أن تحضنك ، ولكن عليك أن تهدأ أولا ) ، وذلك حتى لا يشعر الطفل بنفور من قبل الأم له ، فيفهم الرسالة التي تريد الأم إيصالها له خطأ، فيحدث ما لا يحمد عقباه.

 

 
2 - على الأم ألا  تستجيب لبكاء طفلها حتى لا تكون نقطة ضعف يحاول بها السيطرة عليها ، فالحل هنا يكمن في التجاهل التام حتى لو طال هذا الأمر، ، وهنا تظهر قدرة الأم على الصبر والحزم والحكمة , فكأنها وطفلها في لحظة اختبار ، فكلا منهما يضع أصبعه في فم الأخر ليضغط عليه وينتظر من يكون الأول في الصراخ والتسليم ، هو يريدك بجواره دائما ، وأنتِ تريدين القيام بمسؤولياتك وان يعتمد ابنك عن نفسه قليلاً. وكل منكما في طريقه لتنفيذ ما يريد ، والأشجع هو من سيكمل المشوار !!
 
3 -  جربي اللعب الإيهامي مع طفلك ، فمثلا ألعبي معه لعبة من خلالها تنصرفين لأداء عملك وهو يكمل اللعب وأنتِ تتابعيه من خلال صوته وتجاوبه معكِ .
 

 

4 - تعمل الأم على إيجاد نشاط محبب للطفل ، فمثلا الأم الذي يريد طفلها دائما أن يتواجد معها بالمطبخ ، فلتخصص له رف لأشياء لا تحتاج إليها كثيرا في المطبخ ( علب بلاستيكية ، غطاء إناء ... ) ، وهو الذي يفتح ليخرج ما على الرف ويلعب به ، والأم تشاركه بين الفينة والأخرى باللعب والضحك .. وهكذا ، ولا ننسى أن الطفل في تلك المرحلة العمرية يتبرمج بسرعة عالية ، ولديه قابلية عالية لاكتساب أشياء جديدة.
 
5 - يجب إشراك الطفل في اللعب مع من هم في مثل سنه ، في خلال الزيارات العائلية أو نحوه من التجمعات ، فلا نجد الأم تحيط بابنها بذراعيها وتمنعه من المشاركة في اللعب ، خوفا عليه من الاحتكاك بمن هم أكبر منه سنا ، وفي البداية اشتركي معه في اللعب ثم اتركيه ينطلق ويتفاعل من هم في سنه.
 

 

6 - على الأم استقبال الأطفال الصغار بمفردهم في المنزل للعب مع طفلها ، وبذلك يلاحظ أنهم أتوا إليه بدون أمهاتهم.
 
7 - فلتحاول الأم إشعار طفلها بالأمان بتواجدها معه، وتخبره بأنها إن ذهبت لأي مكان ستعود إليه، وذلك حتى يعتاد على الأمر! ولو حدث وتأخرت في يوم من الأيام تعتذر له عن التأخير، وتوضح له أسباب ذلك التأخير بصورة مبسّطة.
 
 

 

وختامًا إن التغيير لا يأتي فجأة أو بين عشية وضحاها ، وأنه يحتاج إلى صبر ومثابرة
، حتى نستطيع إبدال العادات السلوكية القديمة بأخرى جديدة جيدة ونعمل على تعزيزها ، لذا فلنستمر بلا كلل ولا ملل ، مع أمل في التغيير نحو الأفضل بإذن الله