تونس الحمراء.. تركيا الخضراء: حصاد التغريب و"الأسلمة"
5 صفر 1432
أمير سعيد

انفجار شعبي في قلب تونس، والمحللون يقولون إنه "يحمل بصمات الحكومة"، التي أرغت وأزبدت وصالت وجالت فتحسست سلاحها الذي لا تتقن غيره مع أول صرخة مظاهرة، فضمت الجيش إلى عشرات الآلاف من شرطتها لتنفيذ ملحمتها الجديدة.. على شعبها!

 

إنها جريمة متكاملة الأركان، وهو الإرهاب الذي لا ينتظر تعريفاً، ولا وفود عزاء.. فالقتلى لا تتحرك لهم أوروبا ولا حاجة لحديث البابا ولا ساركوزي المذعورين على "مسيحيي الشرق" الذين يواجهون "مخططاً"، وأوكامبو ما زال يسأل عابري السبيل ومقسمي الأوطان، "هل مر البشير من هنا؟!"..

 

لا أحد يستطيع أن يزايد على "تقدمية" أتاتونس هو ورفيقة دربه؛ فلقد شهد لازدهار بلادهما وانفتاحه الرئيس الفرنسي اليهودي نيكولاي ساركوزي من قلب عاصمة "النور"! كما أن أي حلم يمكن أن يراود "مناضلة" ثورية تكافح من أجل أن تنال المرأة العربية "حريتها" ستجده متحققاً في هذا البلد الذي تحكمه امرأة ليس من خلف ستار كما في بعض بلاد بني يعرب، وإنما هكذا مكاشفة، كفاحاً، لا مداراة ولا تجمل؛ فكل تونسي يعرف الآن النفوذ الذي تتمتع به المرأة الحديدية، ولا يضاهيه حتى نفوذ ذاك الأتاتونس المتكلس فوق كرسيه، والذي حفظ مكانه بعد انقلاب "ديمقراطي" أبيض، أزال فيه سلفه الذي أراد أن يموت جالساً بدوره كما معظم الرفقاء والأصحاب.

 

تونس "التقدمية" لا تعرف خراطيم المياه في فض مظاهراتها، فالمياه شحيحة والرصاص أرخص، وأرخص منه دم العربي في بلاد القيروان، بل لا حاجة لكل هذه المظاهرات التي تطالب بالخبز في بلد الصيد والسياحة والثروات المخبوءة والعقول المهاجرة؛ فأما الحجاب الذي كان يعوق المسيرة فقد انخلع، وأما المساجد فقد روقبت، والأحرار قد غيبوا أو قهروا، ما بين السجون واللجوء؛ فما الذي بوسعه إذن أن يعيق انطلاقة الشعب التقدمية الواعدة؟! لقد حقق أتاتونس النموذج فلِمَ التمرد والاحتجاج؟!

 

إن كل تواقة لحياة "الحرية" ستجدها هنا، إذ لا "حجاب العقل والرأس" كما يقولون، بل "الاستنارة" حتى النخاع، فلا مجال لفرضه بل الفرض في خلعه إلى درجة الإرغام والاعتقال، وتلك منقبة الأتاتونس التي لأجلها حياه من قلب عاصمة "النور" ساركوزي!
وإن كل راغب في الحياة الأوروبية بـ"انطلاقتها" غير المحدودة سيجدها على شواطئ تونس الساحرة إذ لا "شرطة دينية" ولا يحزنون!

 

هذه تونس التي تريدون، وهاكم شبابها وبناتها الذين يذرفون الدم من البطالة والفساد قبل أن يلاقوه من جنود "التنوير"، وهذا اليسار المرتزق الذي أغرقت في حبائله البلاد سعياً وراء مناهضة "الظلامية" التي لاكتها ألسنة المتنفذين من أعلى السلطة إلى أدنى حظيرة الفساد.. لا "ظلامية" اليوم اهنؤوا وطيبوا بـ"الاستنارة" نفساً، تنفسوها شهيقاً وزفيراً فلا حصاد سوى تلك الأرقام المفزعة، عن بطالة بلغت حد الـ20% وفقر وصل حد أكل علف الحيوانات للبقاء على قيد الحياة في قفصة بتونس الحضارة، مثلما يؤكد الزميل التونسي عبد الباقي خليفة، وعشرين قتيلاً و800 جريح وألف معتقل على الأقل، إضافة إلى العديد من الشبان الذين أقدموا على الانتحار بعد وفاة الشاب المنتحر الشهير البوعزيزي.

 

المفتي بطيخ دعا فوراً إلى عدم جواز الصلاة على المنتحر "استنكارا لما صدر عنه وزجرا لغيره"، وفي الأمر خلاف لا أخوض فيه، ولكن ما هو معلوم لدى الجميع أن آلافاً قد عذبوا في سجونها من أبناء النهضة وغيرهم وعجلة التغريب تدهم البلاد والفساد يضرب فيها بعطن والحجاب ينزع بالقوة والمصلون يستخفون، وكذا معلوم أن من ثمة من سقطوا على أيدي قوى الأمن، وطالب القيادي "المعارض" نجيب الشابي بسببهم، الرئيس التونسي بـ"وقف إطلاق النار على مواكب التشييع فوراً"، ولا جواب لدى بطيخ!

 

"الحكومة فهمت جيدا الرسالة وستتخذ اجراءات تصحيحية"، قال وزير الاتصال التونسي؛ فالاتصال منقطع بين النظام "التنويري" والشعب "الظلامي" والرسائل لا تصل إلا مخضبة بالدم في طياتها الجثث!

 

والإجراءات التصحيحية، تعني أن أموالاً ستتدفق لحفظ "النظام"؛ فمن أين أتت تلك الأموال التي ظهرت للشعب فجأة بعد أن طفح الدم والذل والهوان، وصرخ ملء الدنيا وفضائها، حيث رجع الصدى لا يسمعه أتاتونس وليلاه، والشعب يبكي على ليلاه..
وما بين مفارقة "التنوير" الذي تعيشه تونس، تبدو "الظلامية" قد حلت على ربوع الأناضول!؛ فحجابها عاد، واندفعت تركيا صاعدة فيما الأوروبيون إلى اختناق، وحيث تلك المفارقة موغلة في الإضحاك إلا أن المناسبة تسمح به؛ فحصاد التغريب حقيقة لم يفرز إلا تلك المجاعة والانتحار في تونس، بينما انتقلت تركيا العلمانية من ديون شارفت بها البلاد على الإفلاس بلغت نحو 60 مليار دولار إبان حكم بولنت أجاويد، إلى نموذج بهر الأعداء كما المحبين.

 

إن تركيا بقيادة العدالة والتنمية ذات الجذور الإسلامية، والتي أفرزت العديد من القوانين والإجراءات التي أطلقت يد الإبداع والحرية المندفعة نحو هويتها الدينية تبرهن بجلاء على تمكن دولة تسعى إلى المصالحة مع دينها وهويتها من أن تصنع في سنوات الأمل، وهذه القوة الاقتصادية المتنامية تتحدث إحصاءات العالم ـ لا إحصاءاتها ـ عن أرقام مبهرة؛ حيث غدت القوة الاقتصادية السابعة في أوروبا بدخل قومي بلغ نحو 617 مليار دولار (استلمت العدالة البلاد ودخلها القومي 181 مليار دولار)، وبمعدلات نمو تزيد في أعوام كثيرة عن 10%، ومعدلات بطالة انخفضت إلى نحو 4%، واعتبرت لدى كثير من المحللين الاقتصاديين قوة عظمى قادمة في عالم الاقتصاد معززة بقوة سكانية كبيرة أضافت لرصيدها ولم تخصمه كما في تونس وغيرها، إلى الحد الذي جعلها تستغني مؤخراً عن "الحلم العلماني" بالانضمام للاتحاد الأوروبي، مع أنها قد أضحت في الوقت نفسه قريبة من ماضيها وأصولها التي رفعتها منذ قرون، وهو ما يقلب الطاولة في وجه الذين قرنوا بين القيم والتخلف، وبشروا باقتصاد لم نره أبداً في ظل أيديولوجيتهم المعاندة للهوية وحركة التاريخ ومتلازماته.