من هنا يبدأ علاج الفتنة
27 محرم 1432
جمال سلطان

لا أظن أن مسألة إدانة الجريمة التي وقعت أمام كنيسة القديسين في الاسكندرية تحتاج إلى مزيد بيان ، فهناك إجماع من التيارات والقوى الوطنية والدينية والفكرية في مصر على إدانة هذا العمل الجبان ، والذي نتمنى أن يتم التوصل إلى مرتكبيه في أسرع وقت لقطع خيوط هذا الجنون ومنعه من التفكير في العودة أو التمدد في مصر ، بعد أن برأها الله من هذا العنف المجنون الذي اجتاحها في التسعينات من القرن الماضي ، فمصر لم ولن تكون العراق .

 

لكن المسألة الأهم والأكثر إلحاحا هي النظر الجاد والبناء في جذور الأزمة والتواصي فيها بالحق والخير والأمانة مع الله ومع الوطن ، من أجل صياغة مستقبل أكثر رشدا واستنارة وسلاما لمصر ، بدلا من هذه الروح الانتهازية التي استشرت في عدد من الأصوات أو الأقلام التي كان تفكير كل واحد منها في كيفية استثمار هذه الجريمة لتصفية حسابات سياسية أو طائفية ، وليس التفكير في المخرج أو حتى التفكير في من صاحب المصلحة من مثل هذا العمل الإجرامي .

 

اندهشت وأنا أستمع إلى التليفزيون الرسمي للدولة الذي استضاف وكيل لجنة الدفاع والأمن في البرلمان قطب الوطني اللواء محمد عبد الفتاح عمر الذي حمل المسؤولية عن هذا الانفلات لمن أهاجوا المجتمع بالحديث عن البرلمان الموازي أو بطلان المؤسسات الشرعية للدولة ، على حد قوله ، فما دخل البرلمان الموازي بمثل هذا العملية إلا أن يكون الأمر مجرد استغلال الواقعة لتصفية حسابات سياسية ، وهناك آخرون راحوا يحملون الوقفات السلمية التي تطالب الدولة بالكشف عن مصير سيدات محتجزات لدى الكنيسة ، حملوهم المسؤولية عن الأحداث ، رغم أن هؤلاء هم أول من أدان تهديدات القاعدة التي صدرت قبل أشهر وأكدوا أن مطالبهم سلمية وفي إطار القانون والدستور ، بل وحماية للقانون والدستور ، كما أن التظاهرات القبطية الغاضبة والمتشنجة في الكنائس كانت أسبق من ذلك بكثير وقبل أن يخرج مسلم واحد في مظاهرة ، وهناك من راح يشير بالاتهام إلى التنظيمات القبطية المهووسة التي ظهرت بعض ملامحها في العنف الذي شهدته حادثة العمرانية واستخدام قنابل المولوتوف ، وهناك من راح يلقي بالتهمة على علماء وشخصيات رفيعة وذات هيبة واحترام مثل الدكتور العوا أو فضيلة الشيخ حافظ سلامة لأنهم ينتقدون في كتاباتهم بعض المواقف الكنسية التي لا تتوافق مع القانون أو النظام العام ، وكأن الحالة الطائفية قبل كلام العوا وكلام سلامة كانت في أفضل حالاتها وانفجرت فقط بعد كلامهم ، وهناك من راح يلقي بالمسؤولية على المادة الثانية للدستور التي تقول أن الشريعة هي المصدر الرئيس للتشريع ويطالب بحذفها وكأن إلغاء هذا السطر سوف ينهي الاحتقان الطائفي ويمنع تهديدات القاعدة ، وكل هذه الآراء والتلميحات ليست لوجه الله ولا الوطن ، وإنما هي مجرد استثمار غير أخلاقي وغير وطني لفاجعة وطنية كانت جديرة بمستوى أخلاقي وعقلاني أكثر شفافية وجدية من هذا الذي رأيناه خلال الساعات الماضية .

 

الخيط المؤكد في هذه الحادثة أنها تأتي في سياق توتر طائفي متنامي منذ مطلع السبعينات في القرن الماضي ، سببه الرئيس تزايد النفوذ السياسي للكنيسة الأرثوذكسية في الشأن العام وتمددها في مساحات يفترض أن الدستور كفلها للدولة وحدها ، ومحاولة قيادات كنسية تجاوز سلطات القانون والمؤسسات الدستورية لفرض أمر واقع في مختلف القضايا ، والاستهتار الكبير الذي تعاملت به قيادات رسمية في الدولة مع هذه الحالة مما سبب غضبا متزايدا لدى عموم المواطنين ، والذين يتحدثون عن مظاهرات غضب إسلامية عليهم أن يتذكروا أن الذي افتتح مظاهرات الغضب الدينية داخل وأمام دور العبادة كانت هي الكنيسة الأرثوذكسية ، بما في ذلك الكاتدرائية الرئيسية في العباسية وكنائس في صعيد مصر ومدن أخرى ، حتى أصبحت التظاهرات الكنسية برنامجا أسبوعيا لا ينقطع ، يهدد به الكهنة مؤسسات الدولة ورموزها ، وبعضهم هدد محافظ منطقته بالعزل على وقع تحريك مظاهرات قبطية بالآلاف حسب قوله ، ولعل القارئ يذكر أن صاحب هذه الزاوية حذر وقتها من أن هذا "الاستعراض" الطائفي يمثل استدعاء لاستعراض مقابل ، وهو ما حدث بالفعل ، لأن الشارع لن يكون ملك طرف وحده ، وعندما تساهلت أجهزة الدولة مع هذا الاستعراض الطائفي فقد فتحت الباب أمام الاستعراض المقابل .

 

الدولة وسلطاتها ومؤسساتها القانونية والأمنية في حاجة إلى استعادة زمام المبادرة ، وبسط سلطة القانون على الجميع ، وفصل المؤسسة الدينية عن الشأن العام ، لأن هذا وحده هو المخرج وهو الرادع ، أما أساليب "الطبطبة" على حساب القانون ، والترضيات الخاصة لقيادات دينية ذات طموح سياسي غير مشروع ، ومحاولات الحزب الحاكم الدخول في صفقات سياسية من خلال مفردات لها بعد طائفي ، فهو اللعب بالنار ، وهو الذي يعرض مصر للخطر ، وهو الذي يدخل الدولة في نزيف من التنازلات الخطرة لا نهاية له ولا قرار لمنحدره ، حما الله بلادنا من كل سوء ، ورد كيد الكائدين لها في نحورهم .
[email protected]

صحيفة المصريون الإلكترونية