تفجير الكنيسة لم يكن أمس
26 محرم 1432
أمير سعيد

لاشك أن رفض هذا العمل الشائن الذي جرى بالقرب من كنيسة مصرية وإدانته هو أمر مبدئي ينطلق من أسس قيمية لابد أن تحكم نظرتنا لمثل هذه الأحداث التي لا تبرر فيها الغايات الوسائل غير المشروعة، غير أن البقاء في دائرة الإدانة بأقسى الدرجات وانتاج المكرر من العبارات المعروفة في مثل هذه الحوادث لن يزيد مصر إلا بؤساً وتغييباً عن جذور مشاكلها وانعكاساتها المستقبلية، لاسيما وهي تقف على أعتاب مرحلة تفكيك العالم العربي وصناعة الأزمات وتعميق الشروخ والتمهيد لإحداث الفوضى في غير ما بلد عربي وإسلامي.

 

الحديث عن "أجندة خارجية" للفاعلين وتجنيد جميع النخب لتكرار الإدانة وتعدد الإدانات الصادرة عن جهات دينية كالأزهر والإفتاء بكل فروعها وشخوصها لن يحل المشكلة، كما أن الدور الذي تقوم به بعض الفضائيات "المسيحية" المتطرفة التي تصب الزيت على النار بتغطيتها التحريضية الواضحة على كل القوى السلمية المحافظة في مصر ومحاولتها خلط الأوراق وتصفية حساباتها الطائفية من خلال الحادثة سيزيد الأمر اشتعالاً ويفاقم الوضع المتأزم أصلاً.
إننا إزاء نتاج لحزمة من الاخفاقات في التعامل مع أزمات دولية وإقليمية ومحلية، تتبدى معالمها في معالجة ما قبل وما بعد الحادثة مما يمتد إلى كيفية إدارة العلاقات مع إيران و"إسرائيل" والولايات المتحدة الأمريكية، مثلما يتضح في العلاقات البينية بين مسلمي مصر و"مسيحييها" والتي تحكمها أطر مالت إلى السطحية في التعاطي الرسمي معها.

 

وفي مقابل هذا، نحن أمام مجموعة من المخططات الإقليمية والدولية تستهدف بنية المجتمع المصري التي صارت هشة بما يتيح للآخرين تهيئة المناخ لتفتيته وإدخاله في أنفاق الصراعات الطائفية وغير الطائفية.
لقد منحت وثائق ويكيليكس ذريعة لإيران لتبرر تدخلها في الشؤون المصرية عبر مزاعمها عن صناعة مصر لـ"خلايا نائمة" في إيران، وصمتنا عن تمرير هذه الأكاذيب، ووجهت إيران من بعد أصابع الاتهام في تفجير زاهدان لـ"جهات خارجية" لم تسمها هذه المرة، وتركت العنان لإعلامها للمز "قوى إقليمية" بالمسؤولية عن ذلك، بما يفتح الطريق لها للحديث عن "تدخل مصري في شؤونها" وبما يتيح لها تبرير تدخلها "المقابل" في مصر من دون أن نكون مسؤولين عن شيء مما يحدث في إيران بسبب تمييزها المذهبي والعرقي الواضح.

 

ولقد منح الصمت عن الدور الصهيوني _ الذي تحاول تل أبيب تنفيذه في مصر في الداخل وفي الامتداد الإفريقي الأمني لها دون رادع، والذي اتضح من خلال الرد الخجول على جريمة التجسس الصهيونية الأخيرة أو لنقل الـ"لا رد" الذي لمسناه والذي يشجع على مضي "إسرائيل" في مطامعها ومغامراتها المحسوبة _ اطمئناناً إلى بقاء ردود أفعالنا في الحيز القانوني لا سواه، أن تفعل ما تريد دون حساب أو عقاب.. (هل لفت توقيت التفجير هذا _ إلى جوار حزمة من التفجيرات السابقة في سيناء والتي رافقت مناسبات وطنية كالسادس من أكتوبر وغيره من قبل والتي أشارت بعض أصابع الاتهام فيها إلى تورط "متمرد" على حركة فتح فيها بإيعاز من "إسرائيل" وبتنفيذ بعض العناصر المغيبة عقلياً من خارج فتح _  أحداً على أبعاد هذه العملية مثلاً؟).
أعود وأقول، إنه من اليسير نشر الإدانات هنا وهناك، لكن البحث في الجذور الإقليمية مكلف بعض الشيء، ومثله البحث في المبررات التي تقودها التصرفات غير المسؤولة لقوى طائفية متطرفة والتي أظهرت الطائفة كجهة قانونية منبتة عن الدولة، والتي أفرزت هذه التظاهرات والاحتجاجات الفورية التي أعقبت التفجير بدقائق..

 

نعم، هل لجهابذة التحليل الذين أمطرتنا بهم تلك القناة الطائفية التي بثت هتافات تتعرض لكبار المسؤولين في الدولة في معرض "تغطيتها" للحادثة، أن يفيدونا عن الجهة التي أمكنها تجييش هذه الاحتجاجات غير العفوية بهذه السرعة التي لا يقدر عليها الحزب الوطني نفسه فضلاً عن بقية القوى السياسية والحزبية في مصر؟ وهل يمكنهم تفسير عدم قدرة القساوسة داخل الكنيسة على احتواء الموقف و"الغضب" وإلقاء الحجارة بل ومحاولة حرق المسجد المجاور من مظاهرة خرجت من داخل الكنيسة وجوارها؟
ليس هناك في الحقيقة ما يدعو المسلمين في مصر للوقوف موقف الدفاع عن أنفسهم في حادث شائن ليسوا مسؤولين عنه في الحقيقة، وتقع المسؤولية عليه بالأساس إلى عوامل خارجية وأخرى تتعلق بمعالجة عقيمة لقضايا عميقة لم تجر مناقشتها بجدية ولم تُعرها الجهات المعنية حظها اللائق من الفهم والدراسة. ولن يفيد إزاءها تقديم أطنان من صفحات الإدانة والشجب؛ فمن المحزن في الواقع أن نرى الأخطاء التي مهدت لتقسيم السودان وغيره _ قبل سنين  _ يعاد إنتاجها في مصر، ونحن ما زلنا نبحث عن الأدوات ولا نبحث عن القوى الفاعلة الرئيسية.. ولا نلتفت إلى إحدى المسلمات التي عززت مخططات التفكيك، وهي غياب العدالة وشيوع التمييز وتعزيز الاحتقان باسم الحفاظ على "الوحدة الوطنية".