محاكمة دعوى الإطلاق في المواثيق الدولية
20 محرم 1432
إبراهيم الأزرق

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، كما قال في ثلاث آيات، وصلى الله وسلم على نبي المرحمة والملحمة، المبعوث بالسيف والكتاب والحكمة، وبعد فقد كتب الشيخ الفاضل/ سامي الماجد وفقه الله، مقالة أحسن ما شاء الله له فيها، وكانت لغته في المقالة محررة الألفاظ غالباً، خلافاً لكثيرين يكتبون فيكثرون من الإنشاء المتضمن لجمل أو تعبيرات أو كلمات غير محكمات، وقد تعرض فيها لتخريج مناط حكم جهاد الطلب، وادعى فيها أن المواثيق الدولية الأممية جارية على الإطلاق الذي يقضي بجوازه بعض محققي الشريعة.

 

ورأيت أن أكتب هذه المقالة تكميلاً لفائدة مقاله، وتنبيهاً على حجة المخالفين لدعوى الإطلاق التي رفعها دون برهان، ليُعلم أن الشأن كبير، وإقحام كثير من طلاب العلم أنفسهم في القضية تقحم لمعترك صعب عسير، والسلامة لا يعدلها شيء، {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36].

 

اختلاف حكم جهاد الطلب باختلاف الأحوال:

وتكميلاً لفائدة مقال أخي سامي أجتزئ فائدة من رسالة كتبتها قبل سنتين في الرد على بعض من تجاوز باسم الجهاد وحررتها إذ ذاك بالقراءة على الشيخ العلامة البراك -وقد استفدت من ملاحظاته الدقيقة عليها-، وإنما اخترت إيراد هذا القدر تتميماً لما ذكره الشيخ سامي، وليدرك من جهِل أن هذه المسائل مقررة عند أهل العلم قد حررت على أيديهم أبحاث فيها منذ أزمنة وما هذا إلاّ واحد منها[1]، دون مصادرة مني للآراء الأخرى التي قال بها أئمة معتبرون.

 

وإليك نص ما كتبت قبل نحو سنتين:
((...مسألة: هل نسخت آيات القتال آيات الكف والصبر والصفح مطلقاً أو أن في الشأن تفصيلاً؟
الخلاف منتصب في هذا والأخير هو الأقرب.
وهو ظاهر كلام شيخ الإسلام قال: "فحيث ما كان للمنافق ظهور، وتخاف من إقامة الحد عليه فتنة أكبر من بقائه عملنا بآية: {وَدَعْ أَذَاهُمْ} [الأحزاب: 48]، كما أنه حيث عجزنا عن جهاد الكفار عملنا بآية الكف عنهم والصفح، وحيثما حصل القوة والعز خوطبنا بقوله: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التوبة: 73]"[2]، ولهذا كان من دأب أهل العلم الاستدلال بالكف في العهد المكي كما قال ابن القيم: "فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها"[3].

 

فالمسألة مبنية على اختلاف الأحوال؛ ولما كان أمر المسلمين في أول الأمر ليس بالقوي وليس عندهم قدرة كاملة أمروا بالكف، ولما كان عندهم من القدرة بعد الهجرة ما يستطيعون به الدفاع أمروا بقتال من قاتلهم وبالكف عمن كف عنهم، فلما قوي الإسلام وقوي أهله وانتشر المسلمون ودخل الناس في دين الله أفواجاً أمروا بقتال جميع الكفار ونبذ العهود وألا يكفوا إلا عن أهل الجزية من اليهود والنصارى والمجوس إذا بذلوها عن يد وهم صاغرون. وهذا القول اختاره جمع من أهل العلم، منهم الحافظ ابن كثير -رحمه الله- عند قوله جل وعلا في كتابه العظيم: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

 

قال الشيخ عبدالعزيز بن باز بعد أن ذكر طرفاً مما سبق: "وهذا القول أظهر وأبين في الدليل؛ لأن القاعدة الأصولية أنه لا يصار إلى النسخ إلا عند تعذر الجمع بين الأدلة، والجمع هنا غير متعذر، كما تقدم بيانه، والله ولي التوفيق"[4].

وقال: "فإن ضعف المسلمون استعملوا الآيات المكية، لما في الآيات المكية من الدعوة والبيان والإرشاد والكف عن القتال عند الضعف، وإذا قوي المسلمون قاتلوا حسب القدرة فيقاتلون من بدأهم بالقتال وقصدهم في بلادهم، ويكفون عمن كف عنهم فينظرون في المصلحة التي تقتضيها قواعد الإسلام وتقتضيها الرحمة للمسلمين والنظر في العواقب، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في مكة وفي المدينة أول ما هاجر. وإذا صار عندهم من القوة والسلطان والقدرة والسلاح ما يستطيعون به قتال جميع الكفار أعلنوها حرباً شعواء للجميع"[5].

 

والواجب علينا أن نأتسي بحال الرعيل الأول في سلمهم وأيام حربهم؛ فحيث ما كان للمنافق ظهور، وخيف من حربه الفتنة واضطراب الأمور، كانت لنا في (دع أذاهم) مندوحة، وحيثما عجزنا عن جهاد الكفار، وأمِرَ أمْرُ أهل النفاق والفجار، كانت لنا في (كفوا) كفاية، وحيثما حصلنا القوة والمنعة والعزة والسلطة توجه التزامنا قول المولى: (جاهد الكفار والمنافقين).

 

هذا ومن بطولات المسلمين التي رأينا بعد شرع الجهاد صلح الحديبية، ورد أبي جندل، ودفع أبي بصير، ولا خصوصية في شيء من هذا على الصحيح، أما قبل إيجاب الجهاد حال الاستضعاف فحدث ولا حرج، ونحن ندين لله عز وجل بأن كل تلك بطولات، وحق علينا أن نأخذ هديه صلى الله عليه وسلم جملة، وأن نؤمن بالكتاب كله...))، إلى آخر البحث، والقصد أن مثل هذه المسألة مقررة عند كثير من طلاب العلم ناهيك عن مثل الشيخ البراك، وقد قرأت بحمد الله عليه الصارم المسلول من الدفة إلى الدفة في سنوات خلت، فقرر في مناسبات هذه المعاني ونقلها عن الشيخ العلامة ابن باز رحمه الله، وهي كما رأيت مثبتة في فتاواه، فهذا محل وفاق بيننا.. وعلاقة هذا البحث بالمعاهدات ضعيفة، فسواء أكانت هناك معاهدات أم لم تكن فالحكم المقرر آنفاً لا يتغير، ومن يفتئت عليه لا تمثل له المعاهدات عائقاً، لحجج أخرى يعلمها من كان بواقع الأمة بصيراً، كما أن ثمرة بحث حكم المعاهدة من الناحية الشرعية قليلة بالنسبة للمخالفين من الكافرين إذ ليس عندهم ما يوجب عليهم التزام حكم الإسلام في المعاهدة، بل هم ألزموا أنفسهم بحكم القانون! أما بالنسبة لنا فالفرق في وجوب النبذ واعتبار العهد عند القدرة وليتأمل الباحث هذا.

 

مقصود الجهاد:

وعوداً إلى المقصود فإن من مقاصد الجهاد العظيمة نشر الدين وتبليغ الدعوة، لاشك في هذا، بيد أن من جعل هذا مناط الحكم وحده لم يستوعب، بل قصده الأعظم ظهور دين الإسلام على سائر الأديان، وأن تكون كلمة الله هي العليا، كما قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39]، وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)، قال شيخ الإسلام: "شُرِع الجهادُ لتكون كلمةُ الله هي العليا ويكون الدين كلُّه لله"، وقال في السياسة الشرعية: "وإذا كان أصل القتال المشروع هو الجهاد، ومقصوده هو أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، فمن منع هذا قوتل باتفاق المسلمين...".

 

فمن مقاصد الجهاد العظيمة ظهور دين الإسلام بالحجة والبيان، وكذلك بالسيف والسنان، وعلوه على سائر الأديان، ولهذا جاز إقرار اليهود والنصارى بل سائر المشركين -على الصحيح- على أديانهم إن أعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فخضعوا لسلطان الإسلام، كما في آية براءة وحديث بريدة عند مسلم وغيره، وليس مقصود الجهاد تطهير الأرض من أصل الكفر، بل هذا ليس بواجب نص عليه شيخ الإسلام في الصارم المسلول، وبين أن اجتماع الكفر مع المحاربة ليس موجباً للقتل أصلاً وإنما هو مبيح للدم، موجب للقتال بشرطه، ولهذا جازت في أسير المشركين واحدة من خمس تصرفات يعرفها الفقيه، والواجب على الإمام –على الصحيح- أن يتخير منها الأصلح.

 

وهذا المقصود حري بالبيان اليوم، وذلك لأن بعض من لم ترسخ قدمه في علم الشريعة، وأبى مع ذلك إلا الخوض في لجة مقاصدها العظمى، غفل عن هذا وجعل مقصود الجهاد محصوراً في تذليل سبل الدعوة، ثم ادعى –وإنه لمن الكاذبين- أن سبل الدعوة في الغرب اليوم مذللة وأبوابها مشرعة فأسقط الجهاد لهذا، ورفض أن يُعلن إن عادت للمسلمين به طاقة، وهذا قصور في تخريج المناط وغلط في تحقيقه.

 

ميثاق الأمم المتحدة هل هو مطلق يجوز نبذه؟

وبعد هذه المقدمة أعود بك أخي الكريم إلى ميثاق هيئة الأمم المتحدة، وأعرض هنا الرأي المخالف لما قرره أخي سامي، وليس غرضي نصره، ولكن بيان بعض حججه، وأترك لك الموازنة، وظني بأن الخلاف في هذه المسألة يسير، وبحث حكم الميثاق المذكور يتعلق بمسائل كثيرة تتجاوز قضية التأبيد فيه، فهل الميثاق المعني نفسه على أمر جائز أم هو عقد على محرم؟ وإذا كان أصله جائزاً فهل فيه شرط فاسد أم لا؟ وإذا كانت بعض بنوده محرمة وبعضها جائزة فهل يتجزأ العقد من حيث الصحة والفساد أم لا؟ وإذا كان فيه شرط فاسد فهل هذا الشرط يعود على مقصود الميثاق بالنقض أم لا؟ وينبني على هذا الحكم بفساد الميثاق نفسه أو بقائه مطلقاً أو بقائه مع عدم اعتبار الشرط، أو بقائه بشروط أو في أحوال دون أخرى.

 

وفي أثناء بحث أجوبة المسائل المذكورة لا بد من التعرض لأحوال عقده اختياراً واضطراراً وماذا يترتب عليها، مطلقاً أو مع بعض الشروط التي لها اعتبار في تغيير الأحكام؟

وكذلك ماذا يلزم الدول الإسلامية من أجل تصحيح أوضاع بعض تلك المواثيق بما يتلاءم مع مقررات الشريعة؟ وهل التحفظ العام على ما خالف الشريعة يكفي؟ متى يكون كذلك ومتى لا يكون؟
فهذه كلها مسائل بحاجة إلى بحث متخصص من قبل راسخين في علم الشريعة قد تصوروا تلك المواثيق، وفقهوا من القانون الدولي الإنساني ما يتمكنون به من فهم أحكامها.

 

وحسبي هنا ذكر بعض حجج من خالفهم أخي سامي في مسألة الإطلاق والتأبيد فيما يتعلق بميثاق الأمم المتحدة الأساسي وهو الذي من أهم مواضيعه السلم والأمن الدوليان، وإلا فإن من معاهدات الأمم المتحدة ما نُص فيه على التأبيد فإنكاره ضرب من الهذيان، ومنها ما نص فيه على التوقيت يعلم ذلك كثير من المختصين في القانون الدولي، وكذلك الباحثين في هذا الشأن.

 

وأعرض هنا لبحث دعوى إطلاق الميثاق الأساسي لهيئة الأمم المتحدة في مسائل أربع تخلص منها إلى الحكم على دعوى الإطلاق.

الأولى: في بيان العهد المطلق اللازم والعهد المطلق الجائز والفرق بينهما.

لا يخفى على كثير من طلاب العلم أن العقود سواء أكانت مطلقة أم مقيدة فهي عند علمائنا على ضربين من حيث لزومها:
- عقود لازمة كالإجارة والبيع.
- وعقود جائزة كالوكالة والشركة والجعالة -في قول الجمهور- بغض النظر عن الإطلاق والتقييد بالزمن.
والعقد اللازم في العهود لا يمكن نبذه من طرف واحد، لكن يمكن إلغاؤه باتفاق الطرفين.

 

وفرق بين عقد العهد المطلق على سبيل اللزوم وبين عقده على سبيل الجواز، فإن كان على سبيل الجواز جاز الفسخ بالنبذ، مع وجوب الالتزام قبل النبذ، وإن كان على سبيل الإلزام لم يجز الفسخ إلاّ برضا الطرف الآخر، وهذا الضرب عند الفقهاء من قبيل العهود المؤبدة وإن لم ينص فيه على التأبيد، كعقد البيع؛ فهو عقد لازم دائم وإن لم ينص المتعاقدان على أن السلعة ملك للمشتري أبداً! ولما كانت الإجارة عقداً لازماً لا على التأبيد شرط فيها العلم بالمدة اتفاقاً، وهذه شبهة من منع العهود المطلقة مع الكافر لظنهم أنها لازمة، لأنها لو كانت جائزة لم يكن لها معنى إذ لا إلزام فيها، وفي هذا بحث.

 

وقد أشار الإمام ابن القيم في أحكام أهل الذمة إلى الاتفاق على حكم العهد المطلق اللازم فقال في معرض رده على من منع العهد المطلق الجائز –وهم الجماعة كما قال ابن قدامة وهو كذلك-: "وأصحاب هذا القول كأنهم ظنوا أنها إذا كانت مطلقة تكون لازمة مؤبدة كالذمة فلا تجوز بالاتفاق، ولأجل أن تكون الهدنة لازمة مؤبدة فلا بد من توفيتها وذلك أن الله عز وجل أمر بالوفاء ونهى عن الغدر والوفاء لا يكون إلا إذا كان العقد لازماً.

 

والقول الثاني وهو الصواب: أنه يجوز عقدها مطلقة ومؤقتة، فإذا كانت مؤقتة جاز أن تجعل لازمة، ولو جعلت جائزة بحيث يجوز لكل منهما فسخها متى شاء كالشركة والوكالة المضاربة ونحوها جاز ذلك لكن بشرط أن ينبذ إليهم على سواء، ويجوز عقدها مطلقة، وإذا كانت مطلقة لم يمكن أن تكون لازمة التأبيد بل متى شاء نقضها".

 

فيجب التفريق بين المعاهدة المطلقة اللازمة فهذه في حكم المؤبدة، وبين المعاهدة المطلقة الجائزة، التي رجح شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم وغيرهما من مشيختنا الذين منهم الشيخ البراك صحة عقدها، وخالفهم معاصرون آخرون وعلماء معرفون فنصروا قول الجمهور.

وفرق بين اللزوم والجواز المذكور هنا وبين وجوب الالتزام ما دام العهد باقيا، فوجوب الالتزام مقرر سواء أكان العقد جائزاً أم لازماً، ما لم ينه.

 

المسألة الثانية: هل ميثاق الأمم المتحدة لازم أو جائز؟

من المقرر عند القانونيين اليوم أن عامة دول العالم تقريباً ملزمة باتفاقيات القانون الدولي الإنساني بدءاً من اتفاقية لاهي عام 1899م ثم 1907م ثم اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949م، والبروتوكولات الإضافية لعام 1977م، فكل هذه ملزمة[6] بمعنى لا يجوز التنصل منها.

 

أما ميثاق الأمم المتحدة –وهو من جملة القانون الدولي الإنساني- فالإلزام فيه أظهر، ولاسيما في ما يتعلق بما يسمى: حفظ السلم والأمن، وقد نص بعض المختصين على "تحريمه نهائياً استخدام القوة في العلاقات الدولية، باستثناء حالة الدفاع عن النفس في حالة تعرض دولة للعدوان"[7]، بل قال: "ذهب [ميثاق الأمم المتحدة] لما هو أبعد من ذلك فالمادة (2/6) تقضي بإلزام الدول غير الأعضاء في الأمم المتحدة بأحكامه، وهو ما يعني بوضوح أن مبدأ التزام الدول والمجتمع الدولي بحل المنازعات الدولية بالوسائل السلمية هو من القواعد الآمرة في القانون الدولي، الناظمة للعلاقات الدولية في التنظيم الدولي المعاصر"[8]، والقاعدة الآمرة في القانون الدولي هي القاعدة المقبولة والمعترف بها من قبل المجتمع الدولي ككل على أنها القاعـدة التي لا يجوز الإخلال بها والتي لا يمكن تعديلها إلا بقاعدة لاحقة من القواعد العامة للقانون الدولي لها ذات الطابع وهذا حسب نص معاهدة فينا –وهي من معاهدات الأمم المتحدة.

 

وبحسب آراء محكمة العدل الدولية –وهي المرجعية في تفسير هذه المعاهدات كما في المادة (36) والمادة (38) من ميثاق الأمم المتحدة- فإن "الغايات العليا للمنظمات الدولية تكتسب صفة الإلزام لأعضائها، مما يترتب عليه عدم جواز الاحتجاج بأي ذرائع للتنصل منها، وأن هذه الغايات تسمو على النصوص بحيث يمكن الاستناد إليها في إجراءات المنع أو القمع وتوقيع الجزاء على الطرف أو الأطراف التي تنتهك التزاماتها الدولية"[9].

 

بل قد نص في الميثاق في المادة (103) على أن التزامه مقدم على التزام أية اتفاقية دولية أخرى:
" إذا تعارضت الالتزامات التي يرتبط بها أعضاء (الأمم المتحدة) وفقاً لأحكام هذا الميثاق مع أي التزام دولي آخر يرتبطون به فالعبرة بالتزاماتهم المترتبة على هذا الميثاق".

 

المسألة الثالثة: هل ثمة ما يؤكد أن ميثاق هيئة الأمم لازم أو على التأبيد؟

بالإضافة لما سبق فهذا ظاهر الميثاق، كما سيأتي لا ادعاء! وهذه إحدى الاستدراكات الأممية على ميثاق عصبة الأمم، فلما كان ميثاق عصبة الأمم لا يحرم الحرب مطلقاً نص واضعوه على تقييد الهدنة بأمد، فقد جاء فيه: "يوافق أعضاء العصبة على أنه إذا نشأ أي نزاع من شأن استمراره أن يؤدي إلى احتكاك دولي على أن يعرضوا الأمر على التحكيم أو التسوية القضائية أو التحقيق بواسطة المجلس، ويوافقوا على عدم الالتجاء إلى الحرب بأية حال قبل انقضاء ثلاثة أشهر من صدور قرار التحكيم أو الحكم القضائي أو تقرير المجلس"، أما المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة فظاهر فقرتها الرابعة أن الأمر على الدوام ولا سيما عند تأمل مقاصد الأمم المتحدة الناصة ديباجتها على ما يشبه التأبيد: "نحن شعوب الأمم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب"، فقولهم الأجيال المقبلة يعمها جميعاً دون استثناء، فكيف وهذا الظاهر يؤيده ما ذكر في المسألة السابقة، ويؤيده أيضاً نص اتفاقيات لاحقة!

فقد جاء في ميثاق فينا للمعاهدات ضمن بنود المادة 42 ما نصه: "2- لا يجوز إنهاء المعاهدة أو إلغاؤها أو انسحاب طرف منها إلا كنتيجة لإعمال نصوص المعاهدة، أو نصوص هذه الاتفاقية...".

 

فإذا قدر أن هذا الميثاق مطلق فهو لازم عندهم لا يجوز التنصل منه من حيث الأصل كما جاء في رأي المحكمة الدولية، ومما يدل عليه أيضاً أن ميثاق الأمم المتحدة –خلافاً لكثير من الاتفاقيات- لم يذكر طريقاً للانسحاب من العضوية الأمر الذي يجعل المادة 42 من ميثاق المعاهدات كالنص في موضوعنا، وهذا ما سأشير إليه في المسألة التالية.

 

المسألة الرابعة: هل يجوز الانسحاب من ميثاق الأمم المتحدة قانونياً؟

بين القانونيين خلاف قديم في حكم انسحاب دولة من ميثاق الأمم المتحدة، وهل لها ذلك أو لا، والذي يظهر أن عقد الميثاق لازم لا جائز، وذلك لأنهم نصوا على اللزوم في أكثر من موضع، وإذا كان الانسحاب متاحاً فإنه يعود على هذا الإلزام بالبطلان.
يؤيده رأي المرجعية المتعاهد على التزام رأيها ونصها على عدم جواز التنصل.

ثم إن في القانون الدولي العرفي يوجد مبدآن محكمان: الأصل بقاء الأمور على حالها، والأشياء تدوم كما هي عليه[10].

 

وفي إطار هذه المبادئ فإنه لا يجوز لدولة أن تنسحب من المعاهدة التي لا توجد فيها أحكام انسحاب إلا إذا حدث تغيير جوهري غير المتوقع، والمادتان 61 و62 من اتفاقية فينا لقانون المعاهدات تؤيدان هذا الفهم لجواز الانسحاب ومنعه فيما عدا ذلك، بل قد نص في الاتفاقية المذكورة على الآتي:

"المادة 56: نقض أو الانسحاب من معاهدة لا تتضمن نص ينظم الانقضاء أو النقض أو الانسحاب:
1- لا تكون المعاهدة التي لا تحتوي على نص بشأن انقضائها أو نقضها أو الانسحاب منها خاضعة للنقض أو الانسحاب إلا:
(أ) إذا ثبت أن نية الأطراف قد اتجهت نحو إقرار إمكانية النقض أو الانسحاب؛ أو
(ب) إذا كان حق النقض أو الانسحاب مفهوماً ضمناً من طبيعة المعاهدة".

 

ومن المعلوم أن نية الأطراف عند العقد لم تتجه نحو إقرار إمكانية النقض أو الانسحاب، بل ليس ذلك في نيتهم منذ النشأة وحتى الآن، وإنما أثرت حالة وحيدة لإندونيسيا فقط لا لسائر الأطراف –وذلك شرط اعتبار الصحة- حيث قاطعت الأمم المتحدة في عهد الرئيس سوكارنو، ولم تكن هناك نية أعضاء سابقة أثناء إبرام الميثاق ولا بعده وإنما خرجت إندونيسيا عن الشرعية الدولية كما يقال.

 

على أن ثمة بعض فقهاء القانون[11] الغربيين والشرقيين يحتجون بخروج إندونيسيا على جواز الخروج، وهذا في الحقيقة احتجاج ضعيف من جهتين:

الأولى: المخالفون من القانونيين طائفتان فمنهم من يصف انسحاب إندونيسيا بأنه مروق عن القانون فمن يخالفهم لا يمكن أن يحتج عليهم بخروج دولة هم يرونها مارقة عن القانون، ومنهم من لا يعتبره انسحاباً أصلاً وإنما هو تجميد غير قانوني من قبل حكومة سوكارنو، ألغته الحكومة التالية.

 

والثانية: وهو الوجه الأهم في رد هذا الاحتجاج أن فقهاء القانون المعاصرين المحتجين بخروج إندونيسيا يغفلون عن وقوعه قبل اتفاقية فينا للمعاهدات الذي عرض للتوقيع عام 1969م، ودخل حيز التنفيذ عام 1980م، وجل الدول العربية ملتزمة به، بما فيها المملكة العربية السعودية.

 

وبعد فإن إطلاق القول بأن ميثاق الأمم المتحدة عهد مطلق جائز، يبقى مجرد دعوى عريضة، وإن قال بها أفاضل ومختصون، تظل تفتقر إلى إثبات قانوني، بل إثبات يقوى على دفع حجج المخالفين من القانونيين وغيرهم الذين أوردت لك بعضها، وإن كان هذا البحث يعسر على بعض منتسبي الشريعة فلهم أن يقلدوا آراء من يثقون بهم من القانونيين المتمكنين العالمين بعقود الشريعة وأحكامها، لكن حسبهم التقليد، وهو فرضهم، وليس لهم أن يتصدروا للنعي على المخالفين، والله خير معين، والحمد لله رب العالمين.

 

________________________

[1] والشيخ البراك من أهل العلم الذين لا يصدرون عن رأي في النوازل إلاّ بعد تأن ودراسة مستفيضة، وربما قرئت عليه في المسألة أكثر من خمسة بحوث محررة كتبها أهل الشأن قبل أن يصدر فيها برأي، وثمة مسائل يتجرأ عليها كثير من مبتدئة الطلبة هي محل توقف عند الشيخ منذ أكثر من خمسين عاماً.
[2] الصارم المسلول 1/362.
[3] إعلام الموقعين 3/4.
[4] مجموع فتاوى ومقالات متنوعة 18/133.
[5] السابق 18/131-132.
[6] انظر للجنة الدولية للصليب الأحمر: (ما هو القانون الدولي الإنساني) ص1، ومفهوم الجرائم ضد الإنسانية في القانون الدولي لوليم جورج نصار ص42.
[7] د. كمال عبدالعزيز ناجي في أطروحته: دور المنظمات الدولية في تنفيذ قرارات التحكيم الدولي، ط مركز دراسات الوحدة العربية ص69-70.
[8] كمال عبدالعزيز ناجي، السابق، ص119.
[9] السابق ص 124.
[10] يعبرون عنه بما نصه:
Clausula rebus sic stantibus "things thus standing".
 [11] بعض الأفاضل نبه على اعتراض بعضهم تسمية هؤلاء القانونيين فقهاء، فإن أراد هذا إطلاق لفظ الفقهاء من غير تقييد فهو كما قال، أما إن الراد المنع ولو مع قيد القانون أو نحوه فلا وجه لاعتراضه، كلفظ العالم إذا أطلق وإذا قيد.