ويكيليكس .. رؤية أخرى
17 محرم 1432
د. محمد بن سعود البشر

كنت قد كتبت مؤخراً في هذه الجريدة ( 5 ذو الحجة1431  هـ ، الموافق 11 نوفمبر 2010 م ) عن عصر الإعلام والمعلوماتية الذي تتجدد تقنياته بسرعة هائلة ، جعلت من سلطة المعلومات وقنواتها الالكترونية متغيراً رئيساً في فهم موازين القوى ومصادر التأثير . وكان الشاهد الرئيس فيما كتبت هو نفوذ مصادر المعلومات الالكترونية واتساع نطاق تأثيرها وقوته ، بالتركيز على موقع الويكيليكس Wikileaks  وتأثيره على الحكومات القوية والتابعة على حد سواء .
    ومهما قيل عن من يقف وراء هذا الموقع ويدعمه ، وطبيعة أهدافه ، ومصداقية ما ينشره من وثائق فإن ما حصل من تسريبات للوثائق قد أحدث هزة قوية في البناء المعلوماتي للدول التي كانت تتحصن بسلاح المعلوماتية نفسه .
    وحيث كانت الولايات المتحدة الأمريكية ومنطقة الشرق الأوسط وقضاياها هي الأطراف الرئيسة في مضمون ما تسرب من وثائق ، فإني أقف هنا أربع وقفات عاجلة تنظر إلى بعض ما خلفته نتائج إعصار الويكيليكس من آثار ، وما كشفته من حقائق :

 

أولاً : تهافت شعار حرية الرأي والتعبير الذي طالما ادعت الولايات المتحدة ممثلة في دستورها ونظمها وسياسيها وإعلاميها بتقديسه والدفاع عنه ، ونالوا من سيادات الدول والمجتمعات بذريعته . فها هي الولايات المتحدة الآن تحاول تشويه حقائق ما تسرب من وثائق ، وتطارد مؤسس الموقع وتحاكمه ، وتنتفض مدافعة عن تكميم الأفواه ، وبعض كبار كتاب الصحف الأمريكية لا يزال يحاول ويراوغ ويدعي أن الوثائق المسربة إنما تؤكد تطابق سياسة الولايات المتحدة في السر والعلانية ، مستشهداً هذا البعض بموقفها من إيران وامتلاكها للسلاح النووي ، وهو اجتزاء للأحداث أريد له أن يكون شاهداً على الكذب والنفاق .

 

ثانياً : أن سياسة الولايات المتحدة الخارجية ، وبخاصة تجاه قضايا دول الشرق الأوسط والعالم الثالث إنما تدار من خلف الكواليس ، وفي الغرف المغلقة ، وأما التصريحات الإعلامية التي تلي انتهاء نشاطاتها في المنطقة إنما هي من أجل التعمية على الرأي العام . وقد استأثر مصطلح ( التجسس ) أو ( الجاسوسية ) على مضمون كبير من الوثائق التي سربها موقع ويكيليكس ، حتى ليخيل للمتابع أن العالم تحكمه ( إمبراطورية  التجسس ) ، التي وصلت إلى كل رمز سياسي أو اقتصادي أو علمي يمكن أن يحقق التجسس عليه منفعة لأمريكا . نحن - إذن - أمام رؤية جديدة لمنهج سياسي جديد أكدها موقع ويكيليكس تقوم على شعار : ( الميكافيلية الجاسوسية) !!

 

ثالثاً : لا تزال الأدوار التي يقوم بها الطابور الخامس تتجدد في كل زمان ومكان . والمنتمون لهذا الطابور هم أشد على الأمم والمجتمعات من أعدائها ، إذ هم يقوضون الأمم من داخله ، ويأتون على البناء من قواعده . فكثير ممن سرب الوثائق التي أضرت بسياسة الولايات المتحدة ، وهددت مصالحها ، وشوهت صورتها ، وأثارت حفيظة الغير عليها ، هم من الموظفين الذين يعملون ، أو كانوا يعملون ، في السفارات والقنصليات والبعثات الدبلوماسية الأمريكية في مناطق كثيرة من العالم . هذا الأسلوب هو الذي استخدمته الولايات المتحدة - ولا تزال - في تحقيق سياستها ومصالحها القريبة والبعيدة ، وها هي الآن تجني ثمار هذا الأسلوب وتقع في شر أعمالها . فلطالما جندت أمريكا طوابير متنوعة لخدمة أهدافها ، والتحق بهذه الطوابير جحافل من المخدوعين الذين يسبحون بحمد الولايات المتحدة ، ويروجون لشعاراتها ومثلها وقيمها وأفكارها ، فكانوا – على تعاقب الإدارات الأمريكية – مطية للنيل من سيادة دولهم ومجتمعاتهم ، وأدوات لتقويض بنائها السياسي والقيمي . والشواهد في ذلك كثيرة تقصر عن الحصر ، ويعرفها من يملك أدنى مستويات الفطنة .

 

رابعاً : تفاخر الولايات المتحدة بأنها رائدة أمن المعلومات التي بنت عليها نهضتها ، وقامت عليه مصالحها ، ونفذت بسلاحه استراتيجياتها . وكانت إلى وقت قريب تظن أن تسيدها وهيمنتها على ( عصر المعلوماتية ) هو سر قوتها وجبروتها ، الذي قوضت به دول ، وهدمت به نُظم ، وأرعبت به مجتمعات ، وعززت به أساليب الظلم والعدوان والتجبر والاستكبار حتى أتاها العذاب من مصدر قوتها ، فإذا بها ترعد وتزبد ، وتنتفض خوفاً ورعباً من قصف أتاها من قواعدها نظير مكرها واستعلائها ، وكأن المتابع منا لتطورات ما يجري يقرأ في هذه الأحداث قول الحق تبارك وتعالى : ( قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد ) ، وقوله عّز وجل : ( ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريباً من دارهم ) ، وقوله تعالى : ( ... وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فآتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم ) .        في معاني هذه الآيات من القرآن الكريم تتبين سنن الله في الذين خلوا من قبل ، ممن استكبر وعلا وتجبر حتى أتته العقوبة من مأمنه . وهي سنن ماضية على اختلاف في العقوبة بما يناسب الحال والزمان : ( وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر  .(