التمويل الغربي بين الجاسوسية والتغريب
19 محرم 1432
الهيثم زعفان

تنتشر المراكز البحثية والفكرية في ربوع العالم العربي ومنذ نشأتها وهناك متلازمة أصلية تصاحبها وتسبب لها الكثير من المشكلات وأزمات الثقة سواء على مستوى الحكومات أو على مستوى الشعوب، وهذه المتلازمة تتمثل في التمويل الغربي الذي تتلقاه بعض هذه المراكز نظير تبني أجندة معينة أو القيام بدراسات بحثية ومقالات فكرية تخدم الهدف العام للممول الغربي، وتحدث نوعاً من التوجيه الفكري لأطياف المجتمع بما يخدم الأفكار الغربية.

 

هذا فضلاً عن الأثر الكبير للتمويل الغربي في تحقيق الأهداف الاستخباراتية والمعلوماتية للدول الغربية، من خلال صناعة ثغرات تمكنها من التواجد داخل المجتمعات الإسلامية، وإجراء دراسات تعينها على جمع أكبر قدر ممكن من المعلومات حول تلك المجتمعات الإسلامية، إضافة إلى الاستعانة بالباحثين المحليين من خلال التمويل الغربي لقراءة وتحليل المعلومات المجمعة أو الظاهرة محل النظر، ومن ثم تتكون لدى الكيان الغربي معلومات ميدانية موثقة جمعها أهل البلاد الإسلامية بأيديهم، ومصحوبة بقراءة تحليلية ثاقبة من أبناء تلك البلدان أيضاً، والذين يدركون جيداً كيف يفكر المواطن العربي، وكل هذا يخدم في النهاية المراكز الفكرية الغربية ووكالات الاستخبارات الغربية في فهم الواقع العربي والإسلامي عن قرب، ومن ثم رفع التوصيات الدقيقة والتي في ضوئها يتخذ صانع القرار الغربي قراراته السيادية، والتي تأتي في النهاية في غير صالح العالم الإسلامي، وما احتلال العراق عنا ببعيد.

 

إن ظاهرة التمويل الغربي للمراكز البحثية في العالم العربي ترتبط بها الكثير من الإشكاليات البحثية سواء على مستوى أهداف التمويل ومبررات المانحين، وكذلك نوعيات مؤسسات التمويل الدولية، وحجم حركة التمويل الغربي في العالم العربي، وطبيعة جهات التمويل الغربية، وكذلك اهتمامات وأجندات التمويل الغربي في بعض بلدان العالم العربي، ودور التمويل الغربي في صناعة ما يعرف بالإسلام المعتدل وفق الرؤية الأمريكية للاعتدال في العالم العربي، مع محاولته اختراق بعض الدول العربية الغنية الرافضة للتمويل الغربي مثل المملكة العربية السعودية.( ).
وبدورنا سنحاول من خلال هذا المقال المختصر الإطلال على ظاهرة التمويل الغربي، وما يصاحبها من إشكاليات ومخاطر على الهوية الإسلامية، وأمن وسلامة المجتمعات العربية والإسلامية. 

 

لكن ينبغي ابتداءً التفريق في عملية تلقي التمويل الغربي بين ثلاثة أصناف من الباحثين العرب.
الأول: باحث حسن النية لا يدرك أنه يعمل في مشروع بحثي ممول من الغرب، ومن ثم فهو يحصل على الأجر من الإدارة المحلية للمشروع البحثي دون استفهام عن الممول الحقيقي للمشروع، وهذا الصنف منهم من يتراجع عن التعاون في المشروعات البحثية فور علمه بالممول الحقيقي، وأحياناً يرد ما حصل عليه من أموال غربية حتى لا يكون في سجله وتاريخه أنه حصل على أموالاً غربية تحوم حولها الشبهات، ومنهم من لا يتراجع ويتمادى في التعاون المثمر مع مؤسسات التمويل الدولية.
الثاني: باحث يدرك طبيعة الجهة الممولة للمشروع البحثي لكنه يرى بحدود فهمه ومعلوماته أنه لا يفعل شئ مريب حينما يتلقى تمويلاً غربياً لإتمام مشروع بحثي معين، ومن ثم فهو لا يحاول التحري كثيراً حول طبيعة الجهات الممولة، فالأمر بالنسبة له مجرد مصدر دخل مفتوح لا يريد أن يغلقه.
الثالث: باحث يدرك جيداً الأهداف الحقيقية لمؤسسات التمويل الدولية ولا يتردد في قبول أي مشروع بحثي ممول مهما كان مضراً بمصالح المجتمع).

 

أولاً... مفهوم وأهداف التمويل الغربي
يقصد بالتمويل الغربي: "كافة المنح الآتية من الدول الغربية ومن مؤسسات التمويل الغربية إلى المراكز البحثية والفكرية في العالم العربي سواء كانت تلك المراكز مستقلة أو محسوبة على أحد قطاعات الدولة، وكذلك الدعم الغربي للأفراد والباحثين لخدمة أغراض وأهداف المانح".
وبعد مراجعة الأدبيات والوثائق الدولية فإنه يمكننا تحديد أهم أهداف التمويل الغربي في الآتي:

1.    جمع أكبر قدر من المعلومات عن البلد المتلقي للتمويل الغربي.
يعد جمع المعلومات الأساس الذي تبنى عليه أجهزة المخابرات في كافة أنحاء العالم، وفي ضوء تلك المعلومات يتم اتخاذ القرارات السياسية والعسكرية، والدخول للبلد المستهدف من خلال التمويل الغربي ووفق مشروعات يحددها المانح يعمل على تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي، بقصد أو بغير قصد من المتلقي للتمويل الغربي وفي ذلك يقول "ستانفيلد تيرنر" مدير وكالة المخابرات المركزية في عهد الرئيس كارتر "أن الحصول على المعلومات بالنسبة لبلد مثل أمريكا مهم للغاية، فالولايات المتحدة دولة ذات نشاط عالمي، ولذا فهي تحاول التواجد في كل بقعة من العالم"( ). وهذا بدوره يفسر الاهتمام غير العادي من الجهات المانحة في إجراء أكبر كم من الأبحاث الميدانية في المجتمعات العربية بكافة طبقاتها، والإنفاق السخي على تلك الأبحاث التي يلمس المطلع عليها خطرها على الأمن القومي للدول العربية، فضلاً عن مخالفتها لكافة الأعراف العلمية والقانونية المرتبطة بجمع البيانات وإجراء الأبحاث، وتفسير هذا التواجد يثير دهشة "محمد حسنين هيكل " بقوله " أنا غير راض أساساً على التمويل الخارجي للأبحاث فالمثل الإنجليزي يقول (الرجل الذي يدفع للزمار هو الذي يقرر النغمة التي يعزفها الزمار)".... ويضيف هيكل.... "عندما لا يكون لنا رأي في توجيه هذا التمويل للأبحاث، ولا نعلم لمن تقدم نتائج هذه الأبحاث، وفي غياب مفهوم شامل يعطيني كل الصورة، وبدون رقابة أو توجيه، يدخل التمويل للسيطرة على عقل المجتمع ووجدانه، فعندما يكون أحد الأبحاث يمول من السي آي إيه أو المركز الأكاديمي الإسرائيلي، فهل يعقل أن يكون ذلك طبيعياً؟ وهل يمكن أن نفصل بين موضوع البحث ومن سيستفيد منه؟ فعندما نجد أن 100 مليون دولار من المعونة الأمريكية مرصودة للأبحاث، فلابد أن اسأل ما هو المطلوب ؟؟"( ).
ومحاولة للإجابة على هذا السؤال تقول سناء المصري "هذه الإعانات ظاهرها المساعدة الإنسانية، ولكن في حقيقة الأمر فإن المؤسسات التمويلية استخدمت هذه المساعدة لدعم بحوث ودراسات تقدم عن المجتمعات التي يُراد اختراقها، حيث تنتهي  كلها إلى مكاتب المخابرات الأمريكية"( ).

 

2.    قراءة وتحليل المعلومات من قبل باحثين ومفكرين محليين
يمتد الأمر أحياناً إلي استقدام خبراء محليين إلى الدولة المانحة ليقوموا بتقديم تحليلات وتفسيرات للمعلومات التي تم جمعها، فضلاً عن تقديم تقارير مباشرة عن الأوضاع الداخلية للبلاد، وتقديم قراءات وتحليلات لتلك الأوضاع، والإجابة عن الإشكالات التي يستعصي على المانح فهمها حول المجتمعات العربية والظواهر المرتبطة بها، والمانح في ذلك يشتري بالدولارات القليلة التي يدفعها تفسير المعلومة الغامضة بلسان قومها، وبالخلفية المرجعية للخبراء التي تتقاطع مع الخلفيات المرجعية للمبحوثين، ومن ثم يتم فهم المعلومة بالطريقة التي يفكر بها أصحابها. ولعل ما قدمه "منصف السليمي" يوضح تلك الجزئية، وذلك عندما أشار إلى أن" المؤسسات السياسية تتوخى أسلوب دعوة الخبراء والأساتذة الجامعيين لتقديم تقارير وآراء بشأن المشاكل والقضايا المطروحة قبل اتخاذ القرارات، وخلال السنوات العشر الأخيرة ركزت أجهزة: (وزارة الدفاع الأمريكية – وزارة الخارجية الأمريكية- وكالة المخابرات الأمريكية CIA- لجنة الشئون الخارجية والخاصة بأوروبا والشرق الأوسط بالكونجرس الأمريكي) على تكليف مئات الباحثين لإنجاز دراسات وأبحاث حول إحدى الظواهر الدينية في منطقة الشرق الأوسط والمتعلقة بالإسلام السياسي. ويشكل الأكاديميون العرب المقيمون بالولايات المتحدة وقادة الأبحاث والدراسات في الجامعات العربية مجالاً أساسياً للتوظيف والتعاون في هذا الموضوع، نظراً لارتباطهم الاجتماعي والثقافي والحضاري بمثل هذه الظواهر"( ).

3.    محاولة إحداث التوازن قبالة التيارات الدينية في العالم العربي
وفي هذا الصدد يوصي تقرير مؤسسة راند الأمريكية- شديدة الاقتراب من دوائر صنع القرار الأمريكي- والذي حمل عنوان " الإسلام المدني الديمقراطي: بأهمية " دعم التقليديين ضد الأصوليين الإسلاميين وذلك لنظهر لجموع المسلمين وإلى الشباب والنساء من المسلمين في الغرب ما يلي عن الأصوليين الإسلاميين: دحض نظريتهم عن الإسلام وعن تفوقه وقدرته، إظهار علاقات واتصالات مشبوهة وغير قانونية لهم، إظهار هشاشة قدرتهم في الحكم وتخلفهم، تغذية عوامل الفرقة بينهم، دفع الصحفيين للبحث عن جميع المعلومات والوسائل التي تشوه سمعتهم وفسادهم ونفاقهم وسوء أدبهم وقلة إيمانهم، وتجنب إظهار أي بادرة احترام لهم ولأعمالهم، أو إظهارهم كأبطال، وإنما كجبناء ومخبولين وقتلة ومجرمين كي لا يجتذبوا أحداً للتعاطف معهم"( ).

 

ثانياً....مؤسسات التمويل الدولية
هناك عدد كبير من مؤسسات التمويل الدولية التي تمول مشروعات وفعاليات بحثية في العالم العربي، ومن أهم هذه المؤسسات:
1.    برنامج الأمم المتحدة الإنمائي
 برنامج الأمم المتحدة الإنمائيUnited Nations Development Programme) واختصاراً (UNDP) وهي شبكة تطوير عالمية تابعة للأمم المتحدة, تعمل في 166 وتقدم دعم مالي للمنظمات المدنية، والمراكز البحثية في العالم العربي، وهذا البرنامج له نشاط ملحوظ في دعم المشروعات التي تخدم الأجندة الغربية مثل قضايا المرأة، ومراجعة المناهج التعليمية والدينية، لكن ما لفت نظرنا عند تحليلنا لمشروعات هذا البرنامج خاصة البحثية والفكرية، هو تركيزها على دراسات استكشافية للقوات المسلحة، وأجهزة المخابرات في العالم العربي. وهذا يكشف خطورة الدور الذي تلعبه برامج الأمم المتحدة في المنطقة العربية والإسلامية تحت ستار الأعمال البيضاء.

 

2.    مؤسسة فورد الأمريكية
    تعد مؤسسة فورد الأمريكية من أنشط المؤسسات التمويلية الدولية التي تدعم الباحثين والمراكز البحثية والفكرية في العالم العربي. والمحلل للمشروعات البحثية التي تدعمها مؤسسة فورد الأمريكية في المنطقة العربية يلمس بقوة تلك الطبيعة الاستخباراتية للأبحاث، ويلمس أيضاً دورها الاستراتيجي في الحرب الغربية الجديدة على الإسلام والتي يطرحها الأمريكان تضليلاً تحت مسمى الحرب على الإرهاب. 
في 14 أبريل 2007 نشرت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية على موقعها الإلكتروني وثيقة تاريخية استعرضت من خلالها كتاب (الحرب الباردة الثقافية: المخابرات المركزية الأمريكية وعالم الفنون والآداب) الصادر في نيويورك عام 2000، ذلك الكتاب الذي وثق العلاقة بين المخابرات الأمريكية ومؤسسة فورد وبعض المؤسسات الأخرى، ووضح بالشواهد العملية والمقابلات الشخصية مع ضباط المخابرات كيف تتخذ المخابرات الأمريكية مؤسسات التمويل كغطاء لأنشطتها السرية، وقد أشادت وثيقة المخابرات بهذا الكتاب التوثيقي الهام( ).
وفي دراسة بعنوان "مؤسسة فورد ووكالة الاستخبارات الأمريكية المركزية" للأكاديمي الأمريكي "James Petras" استاذ الاجتماع بجامعة "Binghampton" بنيويورك جاء في هذه الدراسة الهامة( ) " وكالة الاستخبارات المركزية تستخدم المؤسسات الخيرية باعتبارها قناة فعالة أكثر لتوجيه مبالغ كبيرة من المال لمشروعات الوكالة دون تنبيه المتلقين إلى مصدرها، وقد سمحت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية لتلك المؤسسات أن تقوم بتمويل مجموعات من الشباب، والنقابات العمالية والجامعات ودور النشر وغيرها من المؤسسات الخاصة بما يخدم برامج العمل السري لوكالة المخابرات، وتعد مؤسسة فورد واحدة من أهم وأكثر المؤسسات التي لعبت دوراً كبيراً في التعاون مع وكالة الاستخبارات الأمريكية المركزية".
ويضيف "James Petras"" ومن خلال التعاون الوثيق المستمر بين المخابرات الأمريكية ومؤسسة فورد، يتم تأمين العديد من فرص العمل لعملاء المخابرات المركزية داخل مؤسسة فورد، فمن القواعد الهيكلية الأصلية أن هناك علاقة وثيقة وتبادل للموظفين على أعلى المستويات بين وكالة المخابرات المركزية ومؤسسة فورد، وكان من ثمرة هذا التعاون الهيكلي هو نجاح عملاء المخابرات في الوصول لوسائل الإعلام، وموجهات الفكر تحت الغطاء القانوني لمؤسسة فورد ".
كما يقول "James Petras" " في الفترة الحالية تطرح واشنطن الموضوع بأنه "الإرهاب أو الديمقراطية"، تماماً كما كان الأمر خلال الحرب الباردة، "الشيوعية أو الديمقراطية" وفي كلتا الحالتين الإمبراطورية الأمريكية تقوم بتجنيد وتمويل منظمات واجهة، مثقفين وصحافيين، ومؤسسة فورد إحدى المؤسسات التي تتعاون مع الحكومة وتقوم بدورها في تشكيل الغطاء الثقافي في الحرب الباردة الجديدة".

 

3.    مؤسسة روكفلر الأمريكية
مؤسسة روكفلر (Rockefeller Foundation‏) هي منظمة "خيرية" يقع مقرها في مدينة نيويورك الأمريكية، وقد تأسست على يد رجل الأعمال الأمريكي جون د. روكفلر في 14 مايو 1913.
وهذه المؤسسة لها نشاطات بحثية متعددة في المنطقة العربية حيث تقوم بدعم الباحثين والمراكز الفكرية والبحثية العربية، وهذه المؤسسة لا تختلف عن نظيرتها مؤسسة فورد من حيث علاقتها بالمخابرات الأمريكية وقد وثقت هذه العلاقة الكاتبة البريطانية "فرانسيس ستونر سوندرز" في كتابها ( الحرب الباردة الثقافية: المخابرات الأميركية وعالم الفنون والآداب)( ).

4.    مركز جنيف للرقابة على القوات المسلحة
مركز بحثي دولي له مشروعات بحثية مشتركة في العالم العربي شديدة الحساسية والخطورة على الأمن القومي العربي، وهو إما يقوم بتمويل تلك الأبحاث بصورة مباشرة، أو بصورة غير مباشرة عن طريق دعم المؤسسات الدولية للمشروعات البحثية في المنطقة العربية لصالحه وتأتي على رأس هذه المؤسسات الدولية الأممية، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP.

 

ثالثاً....جغرافيا التمويل الغربي وشفافيته
التمويل الغربي في العالم العربي لا يقتصر على دولة بعينها، بل إنه يمتد ليغطي كافة الدول العربية، وفي كافة الأنشطة، وبعد مراجعة التقارير السنوية والنشرات التعريفية والمواقع الالكترونية لبعض المراكز البحثية في العالم العربي، يمكننا تحديد وتوصيف المراكز البحثية والمنظمات المدنية العربية الممولة غربياً والتي من أنشطتها الأبحاث والدراسات والأنشطة الثقافية والفكرية كالندوات والمؤتمرات وورش العمل التي تستقطب فيها الكتاب والأدباء والمفكرين والخبراء العرب في كافة القطاعات الحيوية.
أما عن الشفافية فإن غياب الشفافية وتبادل الاتهامات بالفساد في تحركات التمويل الغربي متبادل بين المانح والمتلقي، فبالإضافة إلى العمولات والرواتب والمكافآت والاعتمادات المبالغ فيها، والتي لا تتناسب مع حجم المجهود والمردود، فإن الأدبيات والدراسات تكشف عن أن التمويل الغربي قد نجح في صناعة سوقاً جديداً للفساد على مستوى المانح والمتلقي، وأطراف هذا السوق يحرصون على ديمومته بمزيد من الاعتمادات والمشروعات، وفي ضوء ذلك يتم إبعاد جميع الكفاءات الفنية الوطنية التي تبدي أية اعتراضات على انعقاد هذا السوق، لما يرونه من أضرار مباشرة تلحق بالشعوب في غيبة منها.

 

رابعاً....التوجه الغربي لشراء الفكر في العالم العربي

بتحليلنا لمحتوى المشروعات البحثية الممولة غربياً والمنفذة من قبل مراكز بحثية وباحين ومفكرين في العالم العربي في العالم يمكننا تحديد أبرز التوجهات الغربية لشراء الفكر في العالم العربي وذلك بالصورة التالية:

1.    قضايا الأمن القومي وجمع المعلومات الإستراتيجية
يلمس المحلل للمشروعات البحثية الممولة غربياً تركيز المشروعات على فئات خاصة في مؤسسات الدولة، يشكل الوصول إليها بصورة مباشرة صعوبة شديدة، فهناك جملة من المشروعات المرتبطة بالأمن القومي والقوات المسلحة، الشرطة، ورجال القضاء، فضلاً عن المشروعات الميدانية التي تعتمد على جمع أكبر قدر من المعلومات الإحصائية عن المجتمعات العربية من خلال استمارات استقصائية تتضمن تساؤلات تمثل إشكاليات يصعب على صناع القرار في أوروبا وأمريكا استيعاب تفسيراتها بدون الحصول على معلومات بصددها من أرض الواقع، وسيندهش القارئ عندما يعلم أن هناك العديد من المشروعات البحثية شديدة الحساسية والمتعلقة بآليات صناعة سياسات الأمن القومي في العالم العربي، والتسليح وشراء الأسلحة وآليات الرقابة على عمليات التسليح وعلى ميزانيات وعمل القوات المسلحة بالدول العربية، فضلاً عن جملة من الدراسات الموسعة عن رجال القضاء والنيابات والبرلمانيين ورجال الشرطة.
فعلى سبيل المثال دعم برنامج الأمم المتحدة UNDP في بيروت, في الفترة من 12/05/2006 - 14/05/2006 ورشة عمل بحثية حول إدارة قطاع الأمن والقوات المسلحة والرقابة البرلمانية عليه في المنطقة العربية، وذلك بالشراكة مع "مركز جنيف للرقابة الديمقراطية على القوات المسلحة DCAF"، وقد حضر ورشة العمل 50 مشارك، حيث قاموا باستعراض ومناقشة الممارسات الدولية والإقليمية السائدة في مجال إدارة قطاع الأمن والقوات المسلحة في كل من (الجزائر، الأردن، الكويت، لبنان، المغرب وفلسطين).
وكانت المحاور الرئيسية لهذه الورشة التي اشتركت فيها مراكز بحثية مؤثرة في العالم العربي (إدارة قطاع الأمن والرقابة البرلمانية: اللجان، الموازنة، وعمليات شراء المعدات الحربية- تحديات المنطقة العربية في قطاع الأمن- آليات رقابة وتوجيه القوات المسلحة في المنطقة العربية- آليات ضمان الشفافية في موازنة القوات المسلحة- آليات شراء الأسلحة في المنطقة العربية)( ).

 

2.    محاولات الاقتراب من دوائر صنع القرار والسياسات.
يلاحظ على المشروعات الممولة غربياً محاولة اقتراب مؤسسات التمويل الدولية بقدر الإمكان من دوائر صنع القرار في الوزارات المتعددة بالدول العربية، حيث تدخل من باب الدعم البحثي لصانعي السياسات والقرارات، وفي ضوء ذلك يقدم الدعم لإنشاء وحدات بحثية بالوزارات، أو تمويل مشروعات بحثية تحقق ذات الهدف، ومن ثم تحاول المؤسسات الدولية من خلال التمويل الغربي ومشروعاتها البحثية التأثير في مصدر المعلومة التي يبني عليها صانع القرار قراره، ومن ثم يتحقق للممول على المدى البعيد التأثير في القرار ذاته لمؤسسات الدولة.

3.    قضايا المرأة والنسوية
بتحليلنا للمشروعات المتعلقة بقضايا المرأة والنسوية يتبين أن المرأة المسلمة تشكل عنصراً فاعلاً على أجندة مؤسسات التمويل الدولية، وفي ضوء ذلك يتم طرح أكبر قدر من المشروعات البحثية التي تحاول فهم المرأة المسلمة من كافة النواحي، حتى أشد التفاصيل الحرجة خصوصية، إضافة إلى دعم كل المشروعات البحثية التي من شأنها تغريب المرأة المسلمة ووضعها في إطار عولمي ليبرالي، يجردها من أية ضوابط عقدية أو مجتمعية.

 

4.    الدين الإسلامي ومحاولات التلاعب في الثوابت
 تحاول المؤسسات التمويلية الغربية النفاذ للمجتمعات الإسلامية من زاوية أن الإشكال ليس في الإسلام، ولكنه في فهم المسلمين للإسلام والنصوص الشرعية، ومن ثم تتم الدعوة لإعادة قراءة الإسلام وفق النظرة الغربية الليبرالية، وبالتالي يحدث التلاعب في الثوابت الشرعية، من خلال المشروعات البحثية المحققة لهذا الهدف، إضافة إلى طرح المشروعات والمبادرات التي تبشر بالليبرالية والمدنية قبالة كل ما هو ديني في المجتمعات العربية.
    
5.    مؤسسات التمويل وبرامج الزيارات البحثية التطبيعية
تقوم مؤسسات التمويل الدولية بتنظيم زيارات متبادلة بين الباحثين في الشرق والغرب، وهذه الزيارات تسمح للغرب بالاحتكاك المباشر بالباحثين العرب والتعرف على أنماط تفكيرهم، وقراءة رؤيتهم للأحداث والظواهر المتعددة التي يهتم بها الغرب، وقد لاحظنا على بعض مشروعات مؤسسات التمويل الدولية في العالم العربي حرصها على ترتيب زيارات متبادلة للباحثين العرب وممثلي المؤسسات والمنظمات والمراكز البحثية العربية إلى تل أبيب وطهران، وذلك في إطار التطبيع مع الكيان الصهيوني، وفي ذات الوقت القفز فوق الضلالات الشيعية ومحاولة فرض الاندماج والتطبيع الكلي بين السنة والشيعة.

 

خامساً...مشروعات مبادرة الشراكة الأمريكية الشرق أوسطية-  التابعة لوزارة الخارجية الأمريكية
هذه المبادرة استحدثتها الولايات المتحدة الأمريكية لنشر ما يعرف بالمدنية لتكون مواجهة ومضادة لكل ما هو ديني في منطقة العالم الإسلامي.
وعلى ذلك توضح الجهات المعينة لدائرة صنع القرار في الحكومة الأمريكية أن"  المجتمع الديمقراطي المدني لن يشجع قوانين الشريعة الإسلامية التي يريدها التيار التقليدي الأصولي، كما أن الحداثة لا تتماشى مع عقوبة القتل للزنا والجلد والبتر باعتبارها عقوبات جنائية مقبولة. كما لن تتقبل الفصل الإجباري بين الجنسين أو التفرقة المتطرفة والواضحة ضد المرأة في قانون الأسرة مثل الميراث، وفى العدالة الجنائية، وفى الحياة العامة والمجال السياسي. إن هذا التيار الإسلامي المتشدد بشكل عام لا يتواكب مع قيم المجتمع المدني، والرؤية الغربية للحضارة، والنظام السياسي والمجتمع، كما أن إنشاء منظمات المجتمع المدني في المناطق الريفية والضواحي، يشكل بنية أساسية يمكن أن تؤدي إلى نشر الوعي السياسي، وإلى صنع قيادات معتدلة تؤمن بالحداثة، وكذلك يجب دعم الفئات التي تبدو أكثر تمشياً مع المجتمع المدني الحديث. فمثلاً هناك مدارس قانونية إسلامية لديها القابلية للتعديل بحيث تتماشى مع نظرتنا للعدالة وحقوق الإنسان أكثر من الآخرين "( ).
وعلى ذلك فإن المشروعات البحثية والتدريبية للخارجية الأمريكية في العالم العربي تسعى لاستثمار كافة وسائل الاتصال المتاحة سواء في التعليم أو الإعلام أو الملتقيات التدريبية والفعاليات المجتمعية، وكل ذلك تحت إشراف مراكز بحثية محلية توثق وتصوب مسار عملية نشر القيم الليبرالية والمدنية الأمريكية في المجتمعات العربية.
ومن أكثر المشروعات الملفتة في هذا الصدد هي المشروعات المرتبطة بما طرحته أمريكا ويعرف بمصطلح "الإسلام المعتدل"، ولذا فليس غريباً أن نجد مشروعات تدريبية تقوم فيها وزارة الخارجية الأمريكية بتدريب الأئمة والوعاظ والواعظات العرب على هذا الاعتدال الأمريكي.
وهذه المبادرة تمكنت خلال سبعة أعوام من تخصيص أكثر من 530 مليون دولار لأكثر من 600 برنامج في17 بلد.

 

سادساً....المملكة العربية السعودية، ومحاولات تغلغل مؤسسات التمويل الدولية إلى مراكزها البحثية وبعض مفكريها وباحثيها.
يحاول التمويل الغربي الالتفاف على المملكة العربية السعودية، محاولاً اختراق جدارها بمشروعات تمثل اللبنات الأولى لدخول التمويل الغربي على أرض المملكة، وذلك من أجل محاولة زعزعة الكيان الديني المتماسك، وطرح الرؤى الغربية العولمية محل الثوابت الشرعية والعقدية، وبصفة خاصة في قضايا المرأة والعمل الخيري، وفي ذلك تقول مؤسسة راند الأمريكية: " وأخيراً، بسبب أن برامج نشر الديمقراطية تأتي بشكل دائم من خلال التعاقدات المرتبطة بالمعونة الأمريكية USAID، فإن الأسلوب التقليدي في دعم الديمقراطية في دول غنية مثل الكويت والسعودية- والتي لا تتلقى دعماً مالياً من أمريكا- يبقى محدوداً، وبسبب أن قدرة البرامج النمطية لنشر الديمقراطية في تلك الدول محدودة في أثرها ودرجة وصولها، فإن مشروعات على غرار مبادرة الشرق الأوسط السياسية MEPI التابعة لوزارة الخارجية الأمريكية، قد تم تصميمها للمساهمة في ملء الفراغ من خلال الالتفاف حول تدخلات الدولة المحلية، وعن طريق الدعوة لقيام برامج ذات طابع إقليمي( ).
وفي ضوء محاولات التغلغل تلك قامت وزارة الخارجية الأمريكية، برعاية بعض المشروعات في المجتمع السعودي، إضافة إلى محاولة مؤسسة فورد الأمريكية وثيقة الصلة بالمخابرات الأمريكية بالنفاذ للمجتمع السعودي من خلال أسلوب الجوائز والمنح الفردية.

 


سابعاً...توصيات ومقترحات مجابهة الآثار السلبية للتمويل الغربي..

1.    مناصحة أولي الأمر بالمخاطر التي يحدثها التمويل الغربي من خلال المشروعات والأنشطة البحثية والفكرية على الأمن القومي للبلاد العربية والإسلامية، بما يعينهم على سن تشريعات وإصدار قرارات تحد من ظاهرة التمويل الغربي في المنطقة العربية والإسلامية.
2.    العمل على ترجمة الأعمال البحثية والدراسات الغربية التي تكشف مفاسد مؤسسات التمويل الدولية وسقطاتها وسوءاتها، وعلاقاتها بأجهزة المخابرات الدولية، والعمل على توفير هذه الترجمات في سلاسل صغيرة يسهل تداولها والاهتمام بها.
3.    عقد مجموعة من الدورات التدريبية للباحثين والمفكرين والكتاب والإعلاميين الوطنيين الذين يرفضون التمويل الغربي، ومدهم بكافة المعلومات المرتبطة بحركة التمويل الغربي وما يشوبها من سوءات، وذلك حتى يتم توجيه الرأي العام لرفض هذه الظاهرة ولفظ المتعاطين معها.
4.    محاولة توثيق شهادات الباحثين والمفكرين والإعلاميين الرافضين للتمويل الغربي، والذين كانت لهم تقاطعات مع مؤسسات التمويل والمراكز والمنابر الفكرية والإعلامية المتعاطية مع التمويل. ومحاولات التوثيق هذه يمكن إتمامها من خلال تنظيم لقاءات لهؤلاء الخبراء أو إجراء حوارات ومقابلات شخصية مباشرة معهم.
5.    صناعة الوعي لدى الجماهير العربية بعدم التفاعل مع الأبحاث الميدانية التي لا تعلن عنها الدولة في وسائل الإعلام الرسمية.

 

6.    السعي لعمل وقفية إسلامية تكون بمثابة مظلة تمويلية للمراكز البحثية والفكرية الحاملة لهم الأمة وأزماتها ومشكلاتها ومشروعاتها النهضوية، ومن خلال هذه الوقفية يمكن تحصين الباحثين، المفكرين، والإعلاميين المسلمين الأكفاء من الوقوع في براثن التمويل الغربي وأسر المؤسسات التمويلية ومشروعاتها التغريبية والاستخباراتية.
7.    محاولة جذب رجال الأعمال وأصحاب الأموال لتمويل المشروعات البحثية التي تخدم الأمة الإسلامية ونهضتها وتقدمها، ويمكن في هذا الصدد استحداث وظيفة أخصائي تسويق المشروعات البحثية داخل المراكز البحثية، بحيث تكون مهمته فتح قنوات اتصال مع الشركات ورجال الأعمال لتقديم الدعم الشفاف للمشروعات البحثية والفكرية.
8.    السعي لعمل شبكة أو ائتلاف للمراكز البحثية الساعية لنهضة الأمة الإسلامية وصد المشروعات التغريبية، على أن يصاحب الائتلاف بصندوق مالي لرعاية الباحثين والمشروعات البحثية، ودعوة المجتمع العربي والإسلامي الرسمي والشعبي للمساهمة المالية والعينية لهذا الصندوق. على أن يتم انتخاب إدارة الائتلاف من بين رؤساء المراكز البحثية المنضمة له، مع اشتراط أن يكون الباحث أو المركز البحثي المنضم للائتلاف لا يتعاطى مع التمويل الغربي. وهذا الائتلاف من شأنه تحقيق عدة فوائد يتوقع أن تصب جميعها في خدمة البحث والباحث، وتصرف الأذهان عن التمويل الغربي ومن هذه الفوائد؛ توحيد الخريطة البحثية وصناعة ما يعرف ببنك الأفكار البحثية المشترك-عدم تكرار المشروعات البحثية، ومن ثم يتم توفير أموال كثيرة كانت ستنفق في مشروعات مكررة- استكشاف وتكوين قواعد بيانات عن الكفاءات البحثية في العالم العربي والإسلامي، ومن ثم تحقيق أقصى استفادة ممكنة- من خلال صندوق الائتلاف سيتم معالجة أزمة التمويل التي تعاني منها المراكز البحثية- ستساهم نتائج المشروعات البحثية التابعة للائتلاف بإذن الله في معاونة صانع القرار العربي والإسلامي على اتخاذ قراراته وصياغة سياساته وفق دراسات وأبحاث علمية رصينة.