السودان والطريق إلى الانفصال
9 محرم 1432
د. عمرو عبد الكريم

قال الرئيس السوداني عمر البشير قبل حوالي عشرة أيام: "إن انفصال الجنوب بموجب الاستفتاء على تقرير المصير المحدد له التاسع من شهر يناير المقبل بات متوقعًا ويجب علينا أن نكون واقعيين".
ثم جاء حوار نافع علي نافع – وهو من هو في هرم السلطة في السودان إلى جانب كونه مساعد الرئيس البشير- على قناة الجزيرة قبل أيام قليلة ليمهّد الطريق أكثر لقبول الانفصال بعد أن يقع، وذلك بتأكيده أن الانفصال أصبح هو الأرجح، وأن فرص الوحدة باتت أقل بكثير.

 

 


أمّا أمريكا فتلوّح للسودان بالعصا والجزرة، فإجراء الاستفتاء في موعده يمكن أن يساهم في رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية أو الداعمة للإرهاب، ولا أحسب أن هناك جزرة يمكن أن تقدم للسودان بل الجزرة هي ما ستأكله أمريكا (حار ونار) من نفط الجنوب، وربما كانت الجزرة هي السماح ببقاء نخبة انقلاب 89 أو حكومة ما يسمى بالإنقاذ على رأس هرم السلطة في الشمال. ولعل ذلك ما حدى ببعض الناس أن يقول: إن أمريكا في عصر الإنفراد الدولي بالعالم أصبحت تلوّح بالعصا والعصا، فقد ولّى عهد الجزر أيام الثنائية القطبية والتوازن الدولي ومحاولات الدول الصغرى اللعب على حبال التناقضات الدولية والمصالح المتعارضة.
يكاد يكون كل شيء في السودان (وفي البيئتين: الإقليمية والدولية) يشير إلى أن الانفصال حقيقة واقعة ومتوقعة أو هي مسألة وقت فقط، بل تكاد تكون من طبائع الأشياء، فيبحث الجنوبيون عن عَلَم ونشيد وسلام وطني ويتعامل قادة الجنوب منذ اللحظة – وإن كانت الحقيقة أنهم يتعاملون منذ سنوات– بأنهم قادة دولة مستقلة تقيم علاقات وتنسج شبكة مصالح وتلوح بفتح سفارة أو قنصلية لإسرائيل وتلوح بالبترول للشركات الأمريكية، ويقوم الرئيس مبارك بزيارة عاصمة الجنوب.

 

 


لا أؤمن بمقولة: أن التاريخ يعيد نفسه، ولا أؤمن بأن حوادث التاريخ تتكرر، فالإنسان فعلا لا ينزل النهر مرتين، ومنذ وعيت أدركت أن السودان في طريقه إلى الانفصال ودائما ما كان يلحّ على خاطري تصوّر مفاده: أن الانقلاب العسكري الذي قام في مصر عام 1952 باع السودان (وهو جنوب مصر وقتها) ليحتفظ بالحكم الاستبدادي الذي جاء على أسنة الرماح، وفق ترتيبات سرية مع الولايات المتحدة وبريطانيا، وأن النخبة العسكرية الحاكمة في مصر لتبقى في الحكم تنازلت عن السودان عام 1956 عبر صيغة استفتاء تخيّر السودانيين بين الوحدة والانفصال، ولم يفعل عسكر مصر شيئا لتكون الوحدة جاذبة إلى السودانيين، تماما كما لم يفعل عسكر السودان (الذين جاؤوا على أسنّة الرماح أيضا) شيئا لتكون الوحدة جاذبة للجنوبيين، في الحالتين باع العسكر الجنوب عبر صيغة الاستفتاء ضمن أطر وترتيبات مع الخارج حينا أو الاستقواء به أحيانا أخرى وفي كل الحالات كان الرضوخ لصيغ ومعادلات إقليمية ودولية ربما لم يكن لهم طاقة بمواجهتها خاصة وأنهم لم يكونوا أصحاب رسالة حقيقية وإن كان عسكر السودان أخير كثيرا.

 

 


لا أريد أن أحمّل حكومة الإنقاذ أوزار حكومات السودان المتعاقبة منذ انفصاله عن مصر، لكن كيف لا يمكن أن تتحمل المسؤولية التاريخية إذا كان سبب مجيئها ومبرر قيام الانقلاب هو الحفاظ على وحدة السودان وهويته عربية إسلامية بما يتوافق مع طبيعة مجتمع تعددي ولا مركزي من المستحيل أن يحكم بالحديد والنار ولا بشعارات لم تسمن ولم تغن من جوع ولم تستطع إحداث نهضة حقيقة في واقع البلاد رغم ثرواتها الضخمة.
خذلتنا حكومة الإنقاذ وخذلت أصحاب الفكرة الإسلامية يوم أن فشلت في تأسيس نظام إسلامي ينزل أفكار الإسلام من عالم المثال والتصورات إلى عالم الواقع والحقائق. نظام سياسي يقبل بالتعددية الفكرية والتنوع الثقافي وحقوق الإنسان وحرية التعبير والاعتقاد ويحقق نجاحات ملموسة على الصعيد الاقتصادي يساهم في ازدهار الحياة ورفاهية العيش لجموع الناس مما يجعلهم يحسون بأن تغييرا حقيقيا تم في حياتهم.

 


خذلتنا حكومة الإنقاذ وخذلت أصحاب الفكرة الإسلامية يوم أن فشلت في إحداث نقلة نوعية في بلد قتلته ثرواته وقدراته الكامنة.
خذلتنا حكومة الإنقاذ وخذلت أصحاب الفكرة الإسلامية يوم أن اشترت بقاءها بذهاب وحدة السودان وجنوبه، وهو ثمن بخس.
أما وإن وصل السودان إلى ما وصل إليه فأرجو ألا تكون سبحة الانفصالات قد كرّت، فالسودان إما أن يكون سودانا واحدا أو أربع سودانات، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
وعلى صعيد تحميل المسئولية التاريخية لا يمكن أن ننسى الدور المصري في ضياع السودان، قديما وحديثا: قديما يوم أن باع عسكر انقلاب 52 جنوب مصر بثمن بخس هو بقائهم في السلطة، وحديثا يوم أن غفلت الحكومات المصرية المتعاقبة عن أمن مصر القومي في الجنوب والمياه والحدود والاتصال الطبيعي بين شمال الوادي وجنوبه، ولكن الحكومات المتعاقبة التي فرطت في أمن مصر القومي في عقر دارها لا يرجى منها خيرا في الحفاظ على أمن من أخطار وتهديدات ظنها الغافلون بعيدة.
ربما كانت الضغوط الدولية في تلك اللحظة التاريخية من عمر أمتنا مما لا طاقة للسودان بأوضاعه السياسية والاقتصادية أن يتحملها وحده، لكن نظام عجز عن قراءة المعادلات السياسية الإقليمية والدولية وحقائق القوة على الأرض، وعجز عن إدراك حدود الطاقة، وسقف التطلعات، فهوت به أحلام اليقظة في واد سحيق، يوم أن وقع اتفاق نيفاشا وهو يعلم يقينا أن ما تهدم من أواصر وعلاقات بين شمال السودان وجنوبه في سبعين سنة لا يمكن أن يعاد بناؤه في سبع سنين وهي سبع سنين عجاف.
السودان إلا أن يتداركه الله برحمته مقبل على حقبة عصيبة من تاريخيه، حقبة انفصال وتشرذم وضياع هوية، ونخبة حاكمة تعتقد أن بقائها في الحكم نجاحا أو هدفا في ذاته مهما كانت الأثمان باهظة نخبة لا تبشر بخير، وشر الاستبداد ما كان باسم الدين.

 


وفي لحظات الانكشاف التاريخي – مثل التي تحياها أمتنا ودولنا العربية والإسلامية- لا تفكر النظم السياسية المستبدة بأبعد من مواقع الأقدام، ولا تملك القدرة على تجاوز اللحظة بمعادلاتها الراهنة واحباطات الواقع الأليم ولا القدرة على تجاوز مرارات الهزيمة في ظل فشل خطط تنمية لم تغادر أوراقها ومعادلات إقليمية ودولية لم تعد تمثل بالنسبة لها طوق النجاة.

 


سيظل جرح السودان غائرًا في النفس والقلب، سواء الجرح الناجم عن الانفصال الأول أو الانفصال الثاني الذي نسأل الله أن يكون آخر الانفصالات، وستظل أنشودة الوحدة: عربية كانت أو إسلامية تثير في النفس الشجن، وفي العين الدمع، وفي النفس المرارة.
حسبنا الله ونعم الوكيل، ففي الوقت الذي يتجه فيه العالم شرقه وغربه إلى الوحدة والتكتلات العملاقة سياسيا واقتصاديا، يتجه العالم العربي والإسلامي إلى سياسات تجزئة المجزأ وتقسيم المقسّم.

المصدر: المصريون