"ويكليكس".. أداة من أدوات السياسة الخارجية الأمريكية!
30 ذو الحجه 1431
جمال عرفة

منذ بدء موقع "ويكليكس" قبل ثلاثة أشهر بتسريب المعلومات والوثائق الأمريكية خصوصا من وزارتي الدفاع والخارجية، والجدل يدور حول سؤال رئيسي هو: هل هذه الوثائق تسريبات أمريكية أم أنها شطارة أو قرصنة انترنت حصل بموجبها قراصنة علي هذه الوثائق من الإدارة الأمريكية أم أنها – كما قيل – وثائق سربها جندي أمريكي - باردلي ماننج في سلك الاستخبارات العسكرية - حانق علي إدارة بلاده للحروب في المنطقة وتورط بنقلها الي قرصان انترنت صديق له، فوصلت عبره إلي موقع ويكليكس؟

 

ومع أن غالبية استطلاعات الرأي التي تنشر عبر الصحف والانترنت ترجح أن هذه الوثائق عبارة عن تسريبات أمريكية متعمدة من أجهزة أمنية أمريكية، إلا أن الأمريكيين لم يزالوا يمارسون تمثيلية طريفة في إظهار غضبهم علي هذه التسريبات وكيف أنها شوهت صورة بلادهم، ويطالبون بمحاكمة المسئول عن هذه الشبكة بتهمة جرائم الحرب!

 

ويمكن القول أن هناك دلائل عديدة تؤكد على أن هذه الوثائق مسربة عمداً من أمريكا لا مسروقة، لتحقيق أهداف أمريكية محددة من ورائها باعتبار هذه الوثائق ونشرها أداة من أدوات تحقيق المصالح الأمريكية منها:

 

1-  أنه يصعب تصور تسريب 70 ألف وثيقة عن أفغانستان و400 ألف عن العراق، ثم 250 ألف عن قضايا شرق أوسطية أخرى من وزارة الدفاع الأمريكية والخارجية برغم الستار الاستخباري الحديدي عليها.

 

2-  أن أغلب هذه الوثائق يخص الأوضاع في المنطقة العربية وغالبية الدول العربية في الخليج والمشرق والمغرب، ومع هذا فلم نرَ وثيقة واحدة تتحدث عن المستوطنات الصهيونية مثلا أو العدوان الصهيوني علي جنوب لبنان أو غزة أو اغتيال قادة حماس أو الرئيس عرفات، ومن غير المنطقي أن ما ظلت وسائل الإعلام تركز عليه بخصوص الخلاف الأمريكي حول وقف الاستيطان الصهيوني وحزم المساعدات الأمريكية وغيرها، لا توجد وثيقة واحدة تتحدث عنه، وإلا – لو تصورنا أن الوثائق صحيحة ومسروقة لا مسربة – لكانت مصيبة كبيرة ألا تجري محادثات بين أمريكا و"إسرائيل" بخصوص المستوطنات، وكان معنى هذا أن هناك تواطؤاً أمريكياً علي العرب والسلطة الفلسطينية وما يقال عن ضغوط أمريكية علي "إسرائيل" لوقف الاستيطان ما هو سوى وهم ومخدر للعرب؟!

 

3- أن الوثائق المسربة لا تعرض الأمن الأمريكي للخطر ولا أرواح مواطنين في الغرب أو الشرق للخطر مثلما زعمت الإدارة الأمريكية، وإنما عرضت للخطر أنظمة عربية لا تكترث أمريكا لها كثيرا، وتعاني من أخطائها هي في تعريض الأمن القومي الأمريكي للخطر عبر الكبت وتزوير إرادة الناخبين وقمع الحريات الذي ينعكس علي اشتعال العنف، الذي ينتقل لاحقا الي أمريكا في صورة كراهية للغرب الذي يرعى هذه الأنظمة، والتسريب هنا يخدم الأهداف الأمريكية من زاوية أنه يزيد من حجم حرج هذه الأنظمة ويزيد الضغوط عليها ما يجعلها عجينة لينة في يد الإدارة الأمريكية (كاتمة أسرارها المسرب بعضها)!

 

4-  كل ما نشرته الوثائق عن العراق وأفغانستان معلوم بالضرورة وليس فيه أي أسرار جديدة، فكل الدول العرب تعلم حجم جرائم الميليشيات الشيعية التابعة للمالكي وغيره من القادة الشيعة في قتل المسلمين السنة في العراق، وهناك آلاف الوثائق والمعلومات التي سربتها المقاومة العراقية السنية عن هذا، ولكن الفضائيات العربية لا تبثها لحسابات خاصة بالأنظمة العربية التابعة لها(!) .

 

5-  كل ما نشر في هذه الوثائق عن العراق أو أفغانستان لا يخدم سوى المصالح الأمريكية في نهاية المطاف والمتمثلة في الرغبة في هروب سريع من العراق وأفغانستان بدون إراقة ماء الوجه الأمريكي بحيث يقال – كما تشير الوثائق – أن الشيعة يعرقلون اتفاق السلام وهناك من يدعم عمليات العنف والتفجير وبالتالي لم تعد لأمريكا ناقة ولا جمل هناك!

 

6-  ما نشر عن تعاون المخابرات الباكستانية مع حركة طالبان، استهدف أمرين : (الأول) تبرير السيطرة علي السلاح النووي الباكستاني خشية وقوعه في أيدي "متمردين إسلاميين" كما يقول الأمريكان، حتي إنهم اعترفوا بمحاولة للسيطرة علي بعضه بدعاوي أنه كان قريباً من متناول "الإرهابيين"، و(الثاني) هو الضغط علي باكستان ودفعها لمزيد من التعاون مع أمريكا لقتال طالبان والضغط علي حكومة إسلام اباد لمزيد من هذا التعاون، والزعم أن باكستان هي الشماعة التي تعلق عليها أخطاء وفشل الحملة العسكرية الأمريكية في أفغانستان، وبالتالي تبرير الانسحاب من هناك وانتصار طالبان!

 

7-  ما نشر عن دعم عربي لضربة أمريكية ضد إيران ورغبات الحكومات العربية في أن تقوم أمريكا بهذه الخطوة للجم البرنامج النووي الإيراني ولو عسكريا، لا تخدم في النهاية سوي الأهداف الأمريكية والصهيونية في حشد تحالف عربي مع أمريكا يساندها في محاربة إيران ومن ثم التورط في حرب جديدة كما ورطهم بوش الأب في حرب العراق الأولي، أما الأخطر من هذا فهو أن الوثائق زادت من حدة الخلافات العربية عبر نشر تهكمات بعض الحكام العرب علي بعضهم البعض والتي دارت في الغرف السرية، وسمحت أمريكا بنشرها بدعاوي أنها وثائق مسروقة!

 

8-  ما نشر عن المقاومة الفلسطينية خصوصا ودعم دول عربية لها يستهدف دق أسافين بين المقاومة وهذه الدول العربية أو ممارسة ضغط عالمي علني عليها لوقف مساندتها للمقاومة والتضييق عليها.
الغزو الإعلامي الجديد !

 

 والحقيقة أن هناك هدفاً أمريكياً خطيراً من وراء تسريب هذه الوثائق تحديداً والمتعلقة فقط بما أرادت واشنطن تسريبه (!)، هو هدف إعلامي يستهدف توجيه أنظار الإعلام العالمي والدول العربية شطر موقع ويكيليكس والنقل عنه بحيث يصبح مستقبلا هو ناقل المعلومات المضللة للعرب والمسلمين مثلما سعى الأمريكيون سابقا لتعظيم الاستفادة من مواقع أخرى مثل (فيس بوك) و(تويتر) حتي باتت هي مصدر المعلومات وكعبة العرب الإعلامية ومنها يجري امتصاص المعلومات عن العرب وتفكيرهم وخططهم.

 

فليس سرا أن فيس بوك يلعب دورا في تأجيج الصراعات العربية وكشف معلومات ثمينة من مستخدميه العرب للأمريكان والصهاينة، كما أن موقع تويتر يستخدم كأداة للضغط علي الحكومات التي تريد واشنطن ممارسة الضغط عليها، وقد لعب دورا في إشعال نار المظاهرات في إيران ردا علي نتيجة انتخابات الرئاسة الأخيرة.

 

بعبارة أخرى فالدور الذي يخططون أن يلعبه ويكيلكيس هو محاولة استعادة السطوة الإعلامية الأمريكية العالمية من خلال وسائل الإعلام الحديثة خاصة الشبكة العنكبوتية بعد تراجع الدور الأمريكي الإعلامي، وظهور الفضائيات العربية، وغياب تأثير الميديا الأمريكية التقليدية في الفضائيات أو الإنترنت بعد ظهور مواقع دولية أخرى منافسة، فجاء اختراع حكاية ويكليكس لنشر معلومات تخدم أهداف السياسة الأمريكية من جهة، واستخدام الموقع كأحد المنافذ التي تحقق رؤى وأهداف السياسة الأمريكية، وهو نمط جديد من العمل الإعلامي الذي أفرزته العولمة قائم على سرد الحكايات والقصص بطريقة جذابة للطرف الآخر لكي يقتنع وينسجم مع هذه الحكاية ويصدقها ويبقى يسمع لهذا الراوي بلهفة وبشوق لما يقوله وهو ما يفعله العرب غالبا عندما يسمعوا لهذه الحكايات والقصص الواردة في ويكليكس ويصدقونها دون التعمق والبحث عن جذورها وراويها والهدف من الرواية.

 

بعبارة أخرى يمكن القول أن أحد أهداف هذه التسريبات عبر موقع ويكليكس هو جعل الموقع محط أنظار العالم خصوصا العربي يستقي منه معلوماته، وأن تعود الهيبة للإعلام الغربي والأمريكي – إعلام المحتلين – بعدما نجح إعلام  (المقاومين) أو (الإرهابيين) كما شكى جنرالات أمريكيون، حتي أصبحت بيانات الظواهري أو بن لادن التي تنشرها مواقع عربية بسيطة مختصة بأخبار الجهاد، هي محط اهتمام العالم، ويرصدها مواقع ومراكز أبحاث أمريكية نشأت خصيصا لهذا الغرض مثل معهد (سايت) اليهودي ومركز (ميمري) الصهيوني في أمريكا، وكل هذا هو جزء من خطة إعلامية أمريكية تستهدف مساندة" الخطة الاستراتيجية الأمريكية الأصلية الخاصة بالسعي لتسريع تحقيق مكاسب ضد المقاومة في العراق وأفغانستان تمهيدا للهروب من هناك.

 

وقد نبهت قوى عربية لعدم أهمية هذه الوثائق وأنها لم تكشف جديدا وحذرت من الهدف من وراء تسريبها، فهيئة علماء المسلمين في العراق قالت أن ما نشره موقع "ويكيليكس" من وثائق سرية بشأن الجرائم الوحشية التي ارتكبها الاحتلال الغاشم وأعوانه في العراق أثبتت صحة ما أعلنته الهيئة في بياناتها وتصريحاتها الصحفية وتقاريرها الفصلية عن الأوضاع المأساوية التي يشهدها العراق في ظل الاحتلال، لاسيما في الجانب الإنساني، وحجم وضخامة المصاب الذي مُني به العراق وطنا وسكانا ومقدرات، لكنه استدرك بأنه لم يأت بجديد فيها.

 

والمقاومة الفلسطينية قالت إنها تدرك هدف الوثائق المتعلق بالضغط عليها وحصارها عبر نشر وثائق تتحدث عن علاقات بعض الدول العربية بها، ونددت حماس بسعي الأمريكان ومعهم السلطة الفلسطينية وحركة فتح لدق إسفين بينها وبين قطر، فماذا يتبقى إذن من أسرار ويكيلكس سوى من يثير الخلافات العربية وينقذ الأمريكان من مازق حروبهم الخارجية؟!