من اغتيال السفير إلى تفجير الكنيسة.. من يخاطب القاهرة؟
28 ذو القعدة 1431
أمير سعيد

مع الإقرار بأن ثمة ما ينبغي بحثه جيداً بعيداً في فراغ بعيداً عن زحمة التنديدات المتقاطرة على مسيحيي العراق من جميع الجهات والأطياف والتي جمعت كل التناقضات التي تعج بها الساحات الفكرية والسياسية العربية؛ فإن في قلب تلك المتواريات خلف حجب التنديد الكثيفة، واللازمة في كثير من الأحيان من منطلقات مبدئية وأخلاقية قبل أن تمثل مواقف سياسية يريد أصحابها أن يسجلوها، هو البحث في جدوى تلك العملية ابتداءً من فاعليها، وفي مردودها المحلي والإقليمي، وفي توقيتها، والرسائل التي تحملتها هذه العملية الدموية غير المبررة.

 

والمعلومات المتوافرة لدينا من الوسائل الإعلامية التقليدية تعطي صورة للمناخ الذي وجهت فيه هذه الضربة للمتعبدين في "كنيسة النجاة" ببغداد تحت لافتة المطالب التي وجهتها القاعدة لعدة جهات في آن معاً.

 

المعطيات الأولية تقول إن تنظيماً دولياً هو "القاعدة" قد قرر احتجاز رهائن في كنيسة ببغداد، وهي كنيسة تضم مسيحيين كلدانيين يخالفون مسيحيي مصر في مذهبهم، وقد وضع التنظيم بعض المطالب التي يدركون تماماً أن لا أحد سيستجيب لها، كالإفراج عن المسلمتين المحتجزتين كاميليا شحاتة ووفاء قسطنطين، والإفراج عن زوجة زعيم ما يُسمى "دولة العراق الإسلامية" أبو عمر البغدادي، إضافة إلى محتجزين من "القاعدة" في العراق، وقد رفضت السلطات العراقية فوراً الاستجابة لمطالب "القاعدة" وسرعان ما نفذت عملية فاشلة، تحدثت مصادر عن لجوئها إلى مساندة أمريكية جوية، أودت بحياة معظم الرهائن، ومجموعة الخاطفين، وعدد كبير قيل إنهم من قوات النخبة العراقية، في مجموع لا يقل عن خمسين شخصاً، وقد تردد على نطاق واسع أن المالكي قد طلب اقتحام الكنيسة فوراً دون إفساح أي مجال حتى لإرهاق المختطفين نفسياً عبر إجراء مفاوضات مطولة.

 

لكن من دون فصل عن المناخ المحيط بالعملية، يمكننا ملاحظة عدد آخر من المعطيات، وهو أن هذه العملية استفتح بها 13 تفجيراً استهدفت مناطق في بغداد يقطنها شيعة، إضافة إلى حيين سنيين، جميعها أسقطت 300 ما بين قتيل وجريح، وأنها أعقبت الكشف عن وثائق ويكيليكس التي وجهت ضمنياً اتهامات موثقة إلى رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي بارتكاب جرائم حرب وعمليات تصفية وتعذيب بحق الغالبية السنية في البلاد، والتي اعتبرت أكبر ضربة توجه إلى الزعيم العراقي الطائفي وحظوظه القادمة في الانتخابات لصالح إياد علاوي المدعوم من بعض الدول العربية ويضم ائتلافه كتلاً سياسية سنية لها امتداداتها المعنوية خارج حدود العراق وفي أكثر من دولة عربية موصوفة بـ"الاعتدال".

 

ثمة حقائق ظلت ترد من الموصل لشهور عن عمليات التهجير القسري التي نفذتها ميليشيات أكد الناجون ـ عبر مواقع كلدانية عرضت مقاطع صوتية موثقة لروايات الأهالي المسيحيين ـ أنها تابعة للزعيم الشيعي مقتدى الصدر الداعم الرئيس لائتلاف دولة القانون الذي يتزعمه المالكي، وأن جيش المهدي التابع له نفذ عمليات ترهيب ممنهجة لتهجير المسيحيين الكلدانيين عن الموصل، وبعضها قد نسب إلى القاعدة أيضاً، لذا؛ فإن أصحاب هذه الطائفة أضحوا على يقين أنهم يتعرضون بعد اعتداءات على 51 كنيسة في الموصل وكركوك وبغداد لعملية تغيير ديموجرافي ممنهج قال عنه لويس أقليموس نائب رئيس مجلس الأقليات العراقية وأحد الرهائن الناجين إن جهات (لم يسمها) "تدفع بالمجرمين لارتكاب مثل هذه الأعمال بتحرك طائفي من جهات معينة".

 

إن المظلة التي حدثت تحتها الأحداث تقول إن المذبحة وقعت عندما تعرض المالكي (الذي ينتمي إلى حزب الدعوة الطائفي ذي المرجعية الصدرية الموالية لإيران) لهزة عنيفة صنعتها فضائح ويكيليكس، بما يمنح منافسه إياد علاوي فرصة أعلى في تشكيل الحكومة، ويرفع من درجة تطلعات نظم عربية رئيسية في إحداث اختراق عربي للساحة السياسية العراقية.. مناخ مشابه إذن للأجواء التي اغتيل فيها السفير المصري في بغداد إيهاب الشريف قبل خمسة أعوام، والذي كان أمين العلاقات الخارجية بالحزب الوطني المصري محمد عبد اللاه قد أكد لصحيفة الزمان العراقية على "أن ميليشيات تابعة لإيران قتلت الشريف"، موضحاً: "لدينا معلومات مؤكدة عن أن إيران متورطة في اغتيال السفير المصري في بغداد" [الزمان ـ 1/9/2008].

 

لنعد إلى العملية التي نفذها على ما قيل تنظيم القاعدة الذي تتردد شائعات عن علاقته بإيران وتحديداً بالتيار الصدري الذي يعد الذراع الذي تستخدمه طهران في تنافسها مع الولايات المتحدة لترجيح كفة مرشحيها عادة، وفي أجوائها التي ازدادت سخونة مع توجيه المحكمة العليا العراقية قبل أقل من أسبوعين أمراً بانعقاد البرلمان العراقي، ومن ثم انتخاب رئيسه ونائبيه (المنتظر الأسبوع القادم)، والتمهيد بالتبعية للإعلان عن تشكيل الحكومة العراقية الجديدة، حيث قرار المحكمة قد جاء في أعقاب فضيحة ويكيليكس التي لوت  ذراع المالكي لفترة ثم بدا أن لتحالفه وسائل أخرى لإطلاق يديه.

 

زيارة وزير خارجية مصر لبغداد بصحبة وزير البترول المصري في أكتوبر الماضي، والتمهيد لعودة سفير مصري لبغداد بعد 5 أعوام من اغتيال الشريف، والإعلان عن مبادرة سعودية لجمع الفرقاء على طاولة واحدة، والإعلان عن عقد القمة العربية المقبلة في بغداد تقابلها في سياسة عض الأصابع عدة تفجيرات وانضمام حزب "الفضيلة" الموالي لطهران للمالكي ومحو آثار ويكيليكس الإعلامية داخلياً..

 

قد يكون تنظيم القاعدة بحاجة إلى دغدغة مشاعر الحانقين على مشكلتي كاميليا ووفاء بمصر والذين لم يسلكوا إلا طريقاً سلمياً مشروعاً للاعتراض على احتجازهما، لكن هل يقوى هذا المبرر لدى القاعدة بما يكفي ليجعلها تنسى الاحتلالين الأمريكي والإيراني والنظام الذي نجم عن تعاونهما ضد نظام صدام حسين وتتجه إلى أقباط مصر عبر هذه العملية الدراماتيكية؟! وهل كان زعماؤها ليصدقوا ولو لبرهة واحدة أن أحداً سيستجيب لمطالبهم؟! وهل يصدق تلميح بغداد عن لهجة خليجية للخاطفين، وتصريح مسؤول عراقي نقلت عنه واشنطن بوست أن السلطات وجدت جوازات سفر مصرية ويمنية في الكنيسة؟! ثم أخيراً، ما الذي طمر السؤال الأهم في زحمة التنديد بالحادثة المروعة، وهو عن هذا الكوماندوز الأحمق الذي تدخل ليصب زيته على نار أزمتها؟ لماذا فعل ولماذا لم تناله أعين الناقدين؟!