دور الأسرة في تربية الابناء

إن أول ما يجب التنبيه عليه أن طلاب العلم في الحضارة الإسلامية، كانوا يضعون نُصب أعينهم غاية عظيمة، تتمثل في تقدُّم وإعلاء حضارتهم إلى مصافّ الحضارات العالمية، ولم تكن هذه الغاية مطلبًا في حد ذاتها بقدر ما كانت طريقًا لإرضاء رب العالمين.

 

ويعجب الإنسان حينما يقرأ أن العلماء في الحضارة اليونانية القديمة كانوا أضحوكة للعوام، ومثلاً صارخًا لمن أراد أن يُستهزأ به في تلك الحضارة التالدة[1]!

 

غير أن الحضارة الإسلامية قد أعلنتها صريحة منذ نزول الوحي على النبي، أن أكثر الناس خشية لله تعالى هم العلماء، فقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]. ومن ثَمَّ غُرست تلك القيم الربانية عند كل فرد من أفراد هذه الحضارة، فعرف المسلمون أن العلماء هم السادة الحقيقيون لهذه الأمة؛ لأن "الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ"[2].

 

ومن هذا المنطلق، نهض آلاف من أبناء هذه الحضارة -منذ نعومة أظفارهم- لطلب العلم، وتلقيه من كل حدبٍ وصوب، فكانت تنشئة هؤلاء العلماء مثالاً يُحتذى، وقَصصًا خالدًا.

 

من أخلاق طلاب العلم
ومن الأخلاق التي استعان بها طلاب العلم في هذه الحضارة التواضع والمثابرة في تحصيل العلوم، فقد رَوَى حَبْر هذه الأمة، وعالمها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه "لما قُبض رسول اللهقلتُ لرجل من الأنصار: هَلُمَّ فلنسألْ أصحاب رسول اللهفإنهم اليوم كثير. فقال: واعجبًا لك يابن عباس! أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس من أصحاب رسول اللهمن فيهم[3]؟ قال: فتركَ ذلك، وأقبلتُ أسأل أصحاب رسول اللهعن الحديث، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل، فآتي بابه وهو قائلٌ[4] فأتوسَّد ردائي على بابه تَسْفِي عليَّ الرياح من التراب، فيخرج فيراني فيقول: يابن عم رسول الله، ما جاء بك؟ ألا أرسلتَ إليَّ فآتيك؟ فأقول: أنا أحق أن آتيك، فأسأله عن الحديث. فعاش ذلك الرجل الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي يسألوني. قال: هذا الفتى كان أعقل مني"[5].

 

ولذلك كانت المنافسة بين الخلاّن في تحصيل العلم سمة من سمات هذه الحضارة، ولا نكاد نقرأ في عصر من عصور الحضارة الإسلامية إلا ووجدنا المنافسة بين الصديقين في تحصيل العلم قائمة، وفيها من المواقف والقصص ما يلفت الانتباه، ويجذب المتلقي؛ فقد روى فقيه المدينة صالح بن كيسان (ت 140هـ) أنه قال: "اجتمعتُ أنا والزُّهري (محمد ابن شهاب) ونحن نطلب العلم فقلنا: نحن نكتبُ السنن. فكتبنا ما جاء عن النبي، ثم قال لي: هَلُمَّ فلنكتب ما جاء عن أصحابه؛ فإنه سُنَّة. فقلتُ: إنه ليس بسُنَّة فلا نكتب. قال: فكتب ما جاء عنهم ولم أكتب، فأنْجَحَ وضَيَّعْتُ"[6].

 

والعجيب أن الخلفاء والأمراء كانوا يحرصون على طلب العلم وتحصيله منذ صغرهم، بل رأينا منهم من كان يتشوَّق للعودة لهذه الأيام الجليلة، ويغبط طلبة العلم الفقراء، السُّعاة دون كلل أو ملل؛ فقد "كان المنصور (ت 158هـ) في شبيبته يطلبُ العلم من مظانّه، والحديث والفقه، فنال جانبًا جيدًا، وطرفًا صالحًا، وقد قيل له يومًا: يا أمير المؤمنين، هل بقي شيء من اللذات لم تنله؟ قال: شيء واحد. قالوا: وما هو؟ قال: قولُ المحدِّثِ للشيخ من ذكرتَ رحمك الله. فاجتمع وزراؤه وكُتَّابه وجلسوا حوله وقالوا: ليُمل علينا أمير المؤمنين شيئًا من الحديث. فقال: لستم بهم، إنما هم الدَّنِسةُ ثيابهم، المشققة أرجلُهم، الطويلةُ شعورهم، روّاد الآفاقِ، وقُطّاعِ المسافات، تارةً بالعراق، وتارة بالحجاز، وتارة بالشام، وتارة باليمن، فهؤلاء نقلة الحديث"[7].

 

اهتمام الآباء بتعليم أبنائهن
وقد اهتم الآباء بتعليم أبنائهم، وتوجيههم ناحيته منذ صغرهم؛ وتربيتهم على الرحلة في طلب العلم، فهذا علامة الأندلس الحميدي (المولود قبل عام 420هـ) يحمله والده على كتفه لسماع الحديث وذلك في عام 425هـ، ورحل سنة 448هـ، وقدم مصر، وكان قد سمع بالأندلس من ابن عبد البر[8] وابن حزم ولازمه وقرأ عليه مصنّفاته وأكثر من الأخذ عنه، وشهر بصحبته، وصار على مذهبه إلاّ أنّه لم يكن يتظاهر به، وسمع بدمشق وغيرها، وروى عن الخطيب البغدادي وكتب عن أكثر مصنّفاته، وسمع بمكة من الزنجاني، وأقام بواسط مدة بعد خروجه من بغداد، ثم عاد إلى بغداد واستوطنها، وكتب بها كثيرًا من الحديث والأدب وسائر الفنون، وصنّف مصنّفات كثيرة، وكان إمامًا من أئمة المسلمين في حفظه ومعرفته وإتقانه وثقته وصدقه ونبله وديانته وورعه ونزاهته، حتى قال بعض الأكابر ممّن لقي الأئمة: لم تر عيناي مثل أبي عبد الله الحميدي في فضله ونبله ونزاهة نفسه وغزارة علمه وحرصه على نشر العلم وبثه في أهله[9].

 

 

بل الأعجب من ذلك أن الآباء كانوا يشتركون مع أبنائهم في الخروج لطلب العلم، وهو ما حدث مع عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصّامت وأبيه الوليد، حيث قال: "خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحيّ من الأنصار، قبل أن يهلكوا، فكان أوَّل من لقينا أبو اليسر صاحب النبيومعه غلام له. فذكر الحديث"[10].

 

الرحلة في طلب العلم
كانت الرحلة في طلب العلم مع الأبناء إضافة إسلامية جديدة في مسار الحضارة الإنسانية، لم تتميز بها طائفة على أخرى، فقد رحل أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك إلى عطاء هو وابناه، "فجلسوا إليه وهو يصلي، فلما انفتل إليهما، فما زالوا يسألونه عن مناسك الحج، وقد حوّل قفاه إليهم، ثم قال سليمان لابنيه: قوما. فقاما، فقال: يا بَنيَّ، لا تنيا في طلب العلم"[11]. وكذلك رحل خليفة المسلمين هارون الرشيد بولديه الأمين والمأمون لسماع موطأ الإمام مالك في المدينة المنورة[12].

 

وقد كان بعض الآباء يمنعون أبناءهم من طلب العلم؛ نظرًا لشظف العيش، وضيق ذات اليد، بَيْدَ أنَّ المجتمع كان يحرص على مساعدة هؤلاء النُّجباء من الطلاب على الاستمرار في تلقي العلم، وتحصيله، وقد روى ابن كثير أن "هاشم بن بشير بن أبي حازم القاسم أبو معاوية السلمي الواسطي، كان أبوه طباخًا للحجاج بن يوسف الثقفي، ثم كان بعد ذلك يبيع الكوامخ[13]، وكان يمنع ابنه من طلب العلم ليساعده على شغله، فأبى إلا أن يسمع الحديث. فاتفق أن هاشمًا مرض، فجاءه أبو شيبة قاضي واسط عائدًا له ومعه خلق من الناس، فلما رآه بشير فَرِح بذلك، وقال: يا بُنيَّ، أبلَغَ من أمرك أن جاء القاضي إلى منزلي؟ لا أمنعك بعد هذا اليوم من طلب الحديث. وكان هاشم من سادات العلماء، وحدّث عن مالك وشعبة[14] والثوري[15] وخلق غير هؤلاء، وكان من الصُّلحاء العُبَّاد"[16].

 

لا ريب أن هذه المسئولية الاجتماعية التي تجعل قاضي المدينةِ، وكثيرًا من أعيانها يأتون لشابٍّ يافع فقير مغمور، لا يملك من حطام الدنيا إلا المثابرة على تحصيل العلم، والمجاهدة في التفوق فيه، ليؤكد لدينا أن الحضارة الإسلامية تحترم العلم وكل المشتغلين به، بدءًا من طلابه، وانتهاءً بالعلماء والمدرسين. ومن دون شك فإن هذا الموقف وأمثاله ليعمِّق لدينا أن الحضارة الإسلامية وضعت طلبة العلم في مكانة متقدمة في منظومتها الاجتماعية، وهو ما لم نجده عند أي أُمَّة من الأمم الأخرى، التي كانت تجعل الأمور المادية من المال والملك والقوَّة والسلطان والخرافة، مقدَّمة على أي شيء آخر.

 

أمهات يعلمن أولادهن
وقد كان للأمهات دور غير منكور في حض الأبناء على طلب العلم في هذه الحضارة، وقد ضربت بعضهن أروع الأمثلة الدالة على الوعي التام الذي تمتعت به المرأة في تلك العصور الخالدة، فمن أُولاء الأمهات الجليلات، كانت أم "ربيعة الرأي"[17]، شيخ الإمام مالك، حيث خرج زوجها فرُّوخ في البعوث إلى خراسان أيام بنى أمية، وترك ربيعة حملاً في بطنها، لتقوم هي على تنشئته وتربيته وتعليمه، وقد ترك عندها ثلاثين ألف دينار.. ولما رجع بعد سبعٍ وعشرين سنة، دخل مسجد المدينة، فنظر إلى حلقة وافرة، فأتاها فوقف عليها، وإذا فيها مالك والحسن وأشراف أهل المدينة، ولما سأل عن صاحب هذه الحلقة، أجابوه بأنه ربيعة بن أبي عبد الرحمن (ابنه)!!

 

فرجع إلى منزله وقال لزوجته وأم ولده: "لقد رأيت ولدك على حالة ما رأيت أحدًا من أهل العلم والفقه عليها". فقالت له: فأيُّهما أحب إليك: ثلاثون ألف دينار، أم هذا الذي هو فيه؟! فقال: لا -والله- بل هذا. فقالت: أنفقتُ المال كله عليه. قال: فوالله ما ضيَّعتيه[18]!!

 

وإنَّا لَنَعجَبُ حين نعلم أنَّ سفيان الثوري رحمه الله - فقيه العرب ومحدثهم، وأمير المؤمنين في الحديث، والذي قال فيه زائدة[19]: "الثوري سيِّد المسلمين"[20]. وقال فيه الأوزاعي[21]: "لم يبقَ من تجتمع عليه الأمة بالرضا إلا سفيان"[22]- كان وراءه أمٌّ صالحة، تكفلت بتربيته والإنفاق عليه، فكان هو ثمرتها.

 

يصوِّر ذلك بنفسه فيقول: "لما أردت أن أطلب العلم؛ قُلتُ: يا ربِّ، لا بد لي من معيشة. ورأيت العلم يَدْرُس (أي: يذهب ويندثر) فقلت: أُفرِّغ نفسي في طلبه. قال: وسألتُ الله الكفاية"، يعني أن يكفيه أمر الرزق، فكان من كفاية الله له في ذلك الشأن أن قيَّض له أُمَّه التي قالت له: "يا بُنَيَّ, اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي"[23].

 

فكانت -رحمها الله- تعمل بالمغزل، وتقدم لولدها نفقة الكتب والتعلُّم؛ ليتفرغ هو للعلم، بل والأكثر من ذلك أنها كانت كثيرًا ما تتخوله بالموعظة والنصيحة لتحضه على تحصيل العلم، فكان مما قالته له ذات مرة: "يا بُنيَّ، إذا كتبت عشرة أحرف فانظرْ هل ترى في نفسك زيادة في خشيتك وحلمك ووقارك، فإن لم تَرَ ذلك فاعلم أنها تضرك ولا تنفعك"[24].

 

وهكذا كانت أمه فكان هو.. تَبوَّأ السيادة في العلم والإمامة في الدين!!

 

ولا يفوتنا هنا أن ننوِّه بدور الأم في حياة الأئمة المشهورين، مثل البخاري أمير أهل الحديث، فقد نشأ البخاري يتيمًا في حِجْر أمه، لتقوم هي على تربيته أفضل تربية، فتتعهده بالرعاية والدعاء، وتدفعه إلى التعلم والصلاح، وتزين له أبواب الخير، بل وترحل به وهو في سن السادسة عشرة إلى مكة للحج، ثم تتركه هناك وترجع، ليطلب العلم بلسان قومه.. ليرجع ويكون هو البخاري، ولتُعلِّم أمهات المسلمين -والأرامل منهن خاصَّة- كيف تكون تربية الأبناء، وما دور الأمهات في جهادهن لرفعة الأمة والنهوض بها!

 

أما أم الشافعي فقد ارتحلت به حين بلغ عامين من عمره من غزَّة -مسقط رأس الشافعي- إلى مكة، حيث العلم والفضل، وحيث البادية حولها، والتي فيها يقوَّم لسان الغلام وتصح لغته[25]، وكان الشافعي هو ثمرة جهود تلك المرأة الفاضلة.

 --------------------------------------------------------------------------------

[1] آدم متز: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري 1/327.

[2] سنن أبي داود (3641)، وسنن الترمذي (2682) .

[3] أي أن أصحاب رسول اللهكثير، والناس يلجئون إليهم، ولن يلجئوا إليك.

[4] نائم وقت الظهيرة.

[5] الفسوي: المعرفة والتاريخ 1/298.

[6] ابن كثير: البداية والنهاية 9/376، 377.

[7] ابن عساكر: تاريخ مدينة دمشق 32/330.

[8] ابن عبد البر: هو أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر القرطبي المالكي (368- 463هـ/ 979- 1171م)، إمام عصره في الحديث والأثر، يقال له: حافظ المغرب. من مصنفاته: "الاستيعاب في معرفة الأصحاب". انظر: ابن خلكان: وفيات الأعيان 7/66-71، والذهبي: تذكرة الحفاظ 3/217، 218.

[9] المقري: نفح الطيب 2/113.

[10] الذهبي: تاريخ الإسلام 1/341.

[11] ابن عساكر: تاريخ مدينة دمشق 40/375.

[12] الذهبي: تاريخ الإسلام 40/41.

[13] مفردها الكامخ، وهو إدام يؤتدم به، وخصه بعضهم بالمخللات التي تستعمل لتشهي الطعام.

[14] شعبة بن الحجاج: هو أبو بسطام شُعبة بن الحجاج بن الورد الأزدي البصري (82- 160هـ/ 701- 776م)، من أئمة الحديث والشعر والأدب، قال الشافعي: "لولا شعبة ما عُرف الحديث بالعراق". انظر: الزركلي: الأعلام 3/164.

[15] سفيان الثوري: هو أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري (97- 161هـ/ 716- 778م)، أمير المؤمنين في الحديث، ولد ونشأ بالكوفة ومات بالبصرة، ألف (الجامع الكبير) و(الجامع الصغير) في الحديث. انظر: الزركلي: الأعلام 3/104.

[16] ابن كثير: البداية والنهاية 10/198.

[17] ربيعة الرأي: هو ربيعة بن أبي عبد الرحمن التيمي مولاهم أبو عثمان المدني المعروف بربيعة الرأي، يقول ابن حجر عنه: ثقة فقيه مشهور. مات سنة 136هـ على الصحيح. انظر تقريب التهذيب، ص 207 - تاريخ بغداد 8/420 - الباجي: التعديل والتجريح 2/ 573.

[18] ابن خلكان: وفيات الأعيان 2/290،289.

[19] زائدة بن قدامة الثقفي: هو أبو الصلت الكوفي، من كبار أتباع التابعين، قال الذهبي: ثقة حُجّة صاحب سُنَّة، توفي غازيًا بالروم سنة (161هـ) . انظر: الذهبي: الكاشف 1/400، وابن حجر: تقريب التهذيب ص213.

[20] ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل 1/118.

[21] أبو عمرو الأوزاعي: هو عبد الرحمن بن عمرو (88- 157هـ)، إمام أهل الشام في زمانه في الحديث والفقه، كان ثقة مأمونًا، سكن بيروت، وبها مات. انظر: ابن سعد: الطبقات الكبرى 7/488، والمزي: تهذيب الكمال 17/308.

[22] الذهبي: تذكرة الحفاظ 1/204.

[23] أبو نعيم: حلية الأولياء 6/370.

[24] ابن الجوزي: صفة الصفوة 3/189.

[25] راجع في قصة أم الشافعي: مصطفى الشكعة: الأئمة الأربعة ص10، 11.
=====================================================

المصدر : قصة  الإسلام