السودان يناير2011.. قراءة في مخاطر الانفصال
18 ذو القعدة 1431
رضا عبدالودود

قبل أقل من ثلاثة أشهر من استفتاء التاسع من يناير 2011 حول مصير جنوب السودان تزداد التعقيدات السياسية وتقل الخيارات السياسية المتاحة أمام دعاة الوحدة في السودان، وتصب التفاعلات الداخلية والخارجية في حساب الانفصال ..
ويزيد من صعوبة الموقف وجود القوات الدولية ؛ حيث تساند أمريكا والدول الأوروبية مطالب الجنوبيين فى مجلس الأمن بزيادة عدد القوات الدولية وإقامة منطقة فاصلة بين الشمال والجنوب، وذلك اتساقا مع نهج إدارة بوش لتمكين الجنوبيين من تحقيق مطالبهم الانفصالية بالمال والعتاد، حيث تشير الأرقام  إلى أن حجم الانفاق الأمريكي بجنوب السودان يقترب من ستة مليارات دولار طبقا لتقرير نشرته مجلة نيوزويك أخيرا، أنفقت فى إمدادات السلاح وفى بعض المشروعات الممهدة للانفصال.
كما أن فشل المفاوضات السياسية حول تقسيم أبيي واستمرار الخلافات حول من يحق له الاستفتاء والتهديدات الجنوبية بإجراء الاستفتاء في الجنوب دون الرجوع للخرطوم أو التصويت على الانفصال بالبرلمان الجنوبي يزيد حالة الإرباك السياسي، التي تفاقمها لغة المساومات والمتاجرة بشعار الوحدة (من قبل الجنوبيين) مقابل رئاسة دورية للجنوبيين و70% من عائدات النفط الأمر الذي لم تعترض عليه الخرطوم بل يتم دراسته الآن في أروقة الحزب الحاكم الذي أعلن مسئولوه استعداد الخرطوم لادخال التعديلات المطلوبة على اتفاقية السلام وتوسيع مهام الجيش الجنوبي وتعديل الترتيبات الأمنية المنصوص عليها..
ومما يزيد الضغوط على صانعي القرار السوداني بصورة عامة خمول السياسات العربية تجاه الكارثة التي ستحل بالمنطقة العربية بتفكك أكبر الأقطار العربية....كل ذلك يضع السودان أمام خيارين : الانفصال أو الحرب الأهلية..

 

 


تأجيل الاستفتاء

ووسط تلك الحالة تطالب الحكومة السودانية بتأجيل الاستفتاء على مصير الجنوب نظرا لتعثر العديد من الإجراءات المؤهلة لاستفتاء نزيه، في مقدمتها تأخر حسم مسألة السجلات الانتخابية الخاصة بالجنوبيين وعدم تحديد من يحق لهم التصويت في الجنوب، وعدم تحديد مصير نحو مليون ونصف جنوبي يعيشون بالشمال ولهم تجارتهم ووظائفهم وارتباطاتهم بالشمال، في الوقت الذي لم يتم الاتفاق على هويتهم في حال وقع الانفصال وهل سيعودون للجنوب أم لا؟ وترسيم الحدود وتقسيم الديون ووضع منطقة أبيي الحدودية الغنية بالنفط والتي انضمت إليها مناطق قبيلة المسيرية العربية وفق قرار الأمم المتحدة والذي يتعارض مع أهداف الجنوبيين الساعية لتحييدهم لأنهم عرب ومؤيدين للوحدة.
وقد جاءت مطالبة الخرطوم بتأجيل الاستفتاء على لسان وزير الدفاع السوداني عبد الرحيم محمد حسين خلال مؤتمر صحفي بالقاهرة عقب لقائه بالرئيس المصري حسني مبارك (يجب أن نكون مستعدين جيدا للاستفتاء، لأنه ليس غاية في حد ذاته، بل وسيلة للأمن والاستقرار.. من المهم أن تحل قضايا الحدود وقضايا أبيي في اطار الدولة الواحدة).
فيما يتمسك الجنوبيون بإجراء الاستفتاء في موعده مهددين بإجرائه بصورة منفردة بالمخالفة لاتفاق نيافاشا، وتنتهج حكومة الجنوب سياسة التأليب واستغلال خلافات البشير وحكومته مع بعض الأطراف الدولية بتصوير الأوضاع الحدودية مع الشمال بالمتوترة وأن الشمال يحشد عشرات الالاف من الجنود إلى جنوب كردفان وأبيي وراجا ومنطقتي الوحدة وهجليج الغنيتين بالنفط. بل وتطالب حكومة الجنوب بنشر قوات دولية لمنع حرب متوقعة تشنها الخرطوم لمنع استقلال الجنوب، وفي ذات السياق صرح سيلفا كير أكثر من مرة بأنه سيصوت لصالح الانفصال، بل ان جميع الأوضاع السياسية في الجنوب تسير نحو الانفصال...
ما يضع الجميع في ورطة سياسية لا يتوقف تأثيرها عند السودان فقط ولكن يمتد نحو بقية المنطقة العربية إذ ستصبح سابقة لكل الحركات الانفصالية للسعي بقوة نحو تقرير مصيرها بعيدا عن أوطانها سواء كانت صادقة في دعواها أم لا..

 


الانفصال حل لأزمة أم بداية لأزمات؟

على أرض الواقع يبدو أن انفصال الجنوب أصبح في حكم المولود الجديد الذي ينتظر شهادة ميلاد، فالترتيبات والإجراءات المشتركة المتفق عليها في نيفاشا لجعل الوحدة خياراً جاذباً للجنوبيين لم تتحقق. بل وأكثر من ذلك فإن ثمة حالة من الاستقطاب الشديد في لغة الحوار السياسي المتعلق بمستقبل السودان وذلك بين تياري الوحدة والانفصال.
فالحركة الشعبية تمارس الحكم منفردة منذ أكثر من خمسة أعوام، وهي تمتلك مؤسسات للحكم ورموزاً للدولة مثل العلم والبعثات الخارجية وحتى النشيد الوطني، بجانب تمدد صهيوني وغربي وأمريكي داعم لفصل الجنوب عن شمال السودان لوقف التمدد العربي في الفضاء الإفريقي..
ما يطرح تساؤلا حول : إذا كان انفصال الجنوب أمرا واقعا منذ خمس سنوات فلماذا يصر الجنوبيون على أن يكون الانفصال معترفا به من الداخل والخارج، بل ولماذا ممارسة كل هذه الضغوط على الخرطوم ؟؟؟
وبعيدا عن نظرية المؤامرة فإن الهدف من ذلك وفق ما يذهب إليه السفير د.عبدالله الأشعل هو تدشين لمرحلة انفراط العقد السوداني في الغرب في دارفور وفي الشرق ...لأن الانفصال حينئذ سيصبح سابقة تاريخية وواقعية بالسودان..

 

هل الانفصال ميزة واقعية؟ أم مخطط صهيو أمريكي؟
اليقين أن قضية انفصال الجنوب لن تكون نهاية للتجاذب السياسي والصراع بين الشمال والجنوب، وإنما سيفتح الانفصال بابا واسعا جديدا لتحديات داخلية وخارجية على السودان، شماله وجنوبه.
وقد بدأت معالم هذه التحديات تطل برأسها قبل أن يحين موعد الاستفتاء ويحسم الجنوبيون نتيجته، فعندما تعلن الإدارة الأميركية حزمة حوافز وعقوبات جديدة مرتبطة بهذا الاستفتاء، فما على الحكومة السودانية إلا أن تحزم أمرها للعقوبات، وذلك لأن حركة النواب السود في الكونغرس وجماعات الضغط اليمينية واليسارية والصهيونية، وصقور وزارة الخارجية والاستخبارات في الولايات المتحدة الذين لا يريدون أي تطبيع مع حكومة السودان، ويطالبون الرئيس البشير بالتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، ظلوا على الدوام يطالبون بأن تتخذ إدارة الرئيس أوباما موقفا أشد حزما مع حكومة الخرطوم، بغض النظر عما تنجزه الأخيرة في مضمار السلام في الجنوب...كل تلك التحديات كان يجب أن يواجهها السودان موحدا، لأن الوحدة تقلل ضغط التحدي الخارجي على دولة أنهكتها صراعاتها الداخلية.
بجانب ذلك هناك مزايا مهمة، تعد إستراتيجية للجنوب سوف يفقدها إذا تخلَّى عن السودان، وفضَّل الانفصال، ومنها خسارته المزايا الإستراتيجية الموجودة في الشمال، ومن تلك المزايا امتدادات المناطق الثلاث "جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق وأبيي"، وكذلك سيفقد الجنوب وجود الحكومة المركزية السياسية، وسيُحرم مليون ونصف المليون جنوبي موجودون في الشمال من امتيازات الجواز السوداني، فالجنوب سيتضرر ضررًا بالغًا من انفصال "شكلي لن يعود عليه بالمنفعة..ورغم ذلك فقد هيأت النخبة الحاكمة الشارع الجنوبي للانفصال، فقد أكد تجمع 22 حزب جنوبي على ترتيبات ما بعد الانفصال واعتماد تشكيل حكومة انتقالية بزعامة سلفا كير وإجراء انتخابات شاملة..

 

اليوم التالي للانفصال (10/1/2011)
وتشير المعطيات السابقة إلى أن الانفصال بات قاب قوسين أو أدنى، إلا إذا أدرك الجنوبيون خطورة مآلات خيارهم ونجحت الخرطوم في اقناعهم بالوحدة لإي الوقت بدل الضائع سواء بتنازلات اقتصادية أو أخرى سياسية...ومالم يحصل ذلك فإن اليوم التالي للانفصال يمكن قراءة معالمه كالتالي..
سيدرك الجنوبيون أن مرحلة الهتافات قد انتهت وأن الجنوب أصبح منطقة "مُغلقة" أكثر من ذي قبل، ولن يكون له تواصل مع العالم الخارجي إلا بالطائرة، ومن يرد أن يذهب من الرنك غرب السودان إلى الجنوب فعليه أن يعود إلى الخرطوم ليستقل الطائرة إلى ملكال، أو جوبا وغيرها من المناطق، ويظل الجنوب مُعلقًا بالشمال سواء في بتروله الذي يتدفق عن طريق الشمال، وعائداته النفطية أيضًا ستصل عن طريق الشمال، والذي سيكون مربوطًا بالخزانة المركزية.
وستتواجه قبيلة الدينكا المسيطرة على الحركة الشعبية بمزيد من المشكلات حيث لا تحظى بثقة كل أهل الجنوب؛ فهناك انشقاق حادث بالفعل في الجنوب حول أداء الحكومة الجنوبية في الفترة المنصرمة نتيجة الفساد وهدر الأموال، وعدم وجود إنجازات تتكافأ مع التدفقات المالية من الخارج والداخل، إلى جانب انتشار القبلية والجهوية والعرقية، وتوطن المؤسسات الموصلة بجهات خارجية.

 

وستدخل الحركة الشعبية في نفق مظلم من الأزمات حيث لم تحسم بعد ملفات الحدود والنفط والرعي، ولم تحسم الملفات الداخلية كذلك وأبرزها الصراعات بين قبائل الجنوب التي ترتكب بين الحين والآخر مجازر بشرية متبادلة، ما يجعل من السهل تشظي دويلة الجنوب المنتظرة إلى دويلات قبلية شتى، تحت ذريعة حق تقرير المصير، خاصة أن قبيلة الدينكا أصبحت تنفرد بالقرار وتسيطر على كل شيء في الجنوب، لتبرز نتيجة هذا الوضع الاستبدادي قضايا الولاءات القبلية والحريات العامة والديمقراطية وإعادة تشكيل الحركة والجيش الشعبي، وهي قضايا لم تجد لها قيادة الحركة حلولاً حتى الآن، وما الحديث عن حوار جنوبي  جنوبي إلا أحد أعراض الأزمة، وإن لم يتخط حتى الآن مرحلة السمسرة السياسية لحين إعلان الانفصال .
أما العلاقات الجنوبية الشمالية فستشهد تجاذبًا حول الحدود، وهذا كله سوف يؤثر على دول الجوار؛ حيث يحفز الانفصال القوميات والهويات المختلفة في كل إثيوبيا وأوغندا وهو ما سيؤدي إلى هجرات جديدة وحراك سكاني في اتجاه كينيا وشمال السودان وبقية دول الجوار؛ مما يجعل السودان يرجع إلى مربع الحرب والمواجهات، هذا بالإضافة إلى ملف مياه النيل والذي قد دخل في دهاليز التدويل، ومستقبل زيادة موارد النيل يظل مرتبطًا بقضايا السلام والتنمية في جنوب السودان.

 

الكونفدرالية خيار ليس مستبعدا
وفق ما تقدم من معطيات فإن مبدأ تقرير المصير في الجنوب الذي نص عليه اتفاق السلام الشامل يصعب تطبيقه في ظل الأوضاع والسياقات الراهنة في السودان، فالحركة الشعبية التي تحكم الجنوب بقبضة حديدية لم تستطع أن تحقق التنمية المرجوة. وعوضاً عن ذلك عانت هياكلها الإدارية والمؤسسية من الفساد وسوء الإدارة. وعلى سبيل المثال فإن نصيب الجنوب من النفط والذي بلغ نحو عشرة مليارات دولار بالإضافة إلى المساعدات الخارجية قد أسيئ استخدامه وتوزيعه. إذ استأثرت جوبا وحدها بنحو (90%) من الميزانية الجنوبية في حين حصلت باقي الولايات العشر التي تشكل الإقليم الجنوبي على نحو (10%) فقط من الميزانية الخاصة بحكومة جنوب السودان.
ولا يزال جنوب السودان يعاني من تردي الأوضاع الأمنية حيث تحارب القبائل المتعددة بعضها البعض. وبعد الانتخابات الأخيرة في الجنوب تمرد بعض قادة الحركة الشعبية عليها وأصبحوا اليوم يحاربون حكومة الجنوب.
وعليه يصبح الخروج من هذا المأزق وحالة الاستقطاب تلك وتداعياتها الخطيرة على مستقبل السودان متمثلاً في البحث عن الطريق الكونفدرالي. وقد ناقش بعض المثقفين السودانيين من الجنوب والشمال على السواء هذا الخيار وإن كان على استحياء في كثير من الأحيان.
خيار الكونفدرالية يمثل مخرجاً مناسباً لأزمة السودان المعقدة والمتشعبة, وهذا الخيار سوف يجعل كلا من الجنوب والشمال في رابطة اقتصادية واحدة تتكامل وتتعاون مع جوارها العربي والأفريقي
ويحقق خيار الكونفدرالية مزايا كل من الوحدة والانفصال ولكنه -وهذا هو الأهم- يحافظ لهم على هويتهم السودانية الجامعة، وفق ما يذهب إليه الخبير بالشأن الإفريقي الأستاذ الزائر بجامعة الإمارات د.حمدي عبدالرحمن، وهي ما يعني أن يتمتع جنوب السودان باستقلال أوسع نطاقاً من حالة الكيان الكردي في شمال العراق.
إلا أن الأمر يستدعي إن يمعن السودانيون النظر في إمكانية تطبيق النظام الكونفدرالي كحل يبعد السودان عن شبح الحرب ، ويتيح للطرفين أن يتمتعان بدرجة عالية من الاستقلال وتحتفظ كل منهما بسيادته على إقليمه مع وجود سلطة كونفدرالية تتولى التنسيق في أمور مثل الدفاع والتجارة والسياسة الخارجية.

 

بيد أن ثمة تساؤلات صعبة ينبغي التفاوض بشأنها حول شكل الحكومة الكونفدرالية والسلطات الممنوحة لها، وكذلك موضوع النفط ومسألة تقاسمه بين الكيانين الشمالي والجنوبي.
وثمة نماذج تاريخية عديدة للرابطة الكونفدرالية بين الدول مثل الولايات الأميركية خلال الفترة من (1781-1788) واتحاد الدول الأفريقية بين مالي وغانا وغينيا (1961-1963) واتحاد سنجامبيا بين السنغال وغامبيا (1982-1989). ولعل بعض الباحثين يشيرون إلى نماذج معاصرة مثل سوسيرا وبلجيكا التي تطبق كل منهما بعض ملامح النموذج الكونفدرالي....كخطوة لاستعادة التوازن إلى الخيارات الوطنية للسودان بعيدا عما تدفع إليه الأطراف الدولية التي تسعى لتحقيق مصالحها في إفريقيا على حساب السودانيين شماليين وجنوبيين....