نموذج العدل والظلم
26 شوال 1431
د. خالد رُوشه

بينت الرسالة الإسلامية الخالدة أن العدل هو  إعطاء كل ذي حق حقه ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر ، من غير تفرقة بين المستحقين , وقد اعتبرته قوام الدنيا والدين ، وسبب صلاح العباد والبلاد , وأن الله قد وضع العدل لتوزّع به الأنصبة والحقوق، وتقدر به الأعمال والأشخاص، إذ هو الميزان المستقيم، الذي لا تميل كفته، ولا يختل وزنه , كما اعتبرته من أهم دعائم السعادة، التي ينشدها البشر في حياتهم، أن يطمئنوا على حقوقهم وممتلكاتهم، وأن يستقر العدل فيما بينهم.

وأدرك الإسلام أن العدل مشعر للناس بالاطمئنان والاستقرار، وحافز كبير لهم على الإقبال على العمل والإنتاج، فيترتب على ذلك: نماء العمران و إتساعه، وكثرة الخيرات وزيادة الأموال والأرزاق فأكد على تنفيذه بصورة عملية في كل موطىء قدم في دولته الإسلامية الوليدة .

فعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن المقسطين عند الله على منابر من نورٍ عن يمين الرحمن عز وجل وكِلتَا يديه يمينٌ، الذين يعدلون في حُكمِهم، وأهليهم، وَمَا وَلُوا» مسلم.

إن الأمم التي تهمل العدل وتنشأ على الجور إنما تربي في نشأتها أسباب هدمها وبوارها وخسارتها , والمؤسسة التي تهمل صرخات العاملين فيها جراء ظلمهم واستغاثاتهم إنما يرسمون بأيديهم صورة بائسة لغدهم القريب ساعة يصرخون فلا مجيب لهم ولا منجا لهم ولا ملجأ من الله إلا إليه .

تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح، فقالوا: من يُكلِّم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد، حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُتيَ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكلمه فيها أسامة بن زيد، فتلوَّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أتشفع في حد من حدود الله؟» فقال له أسامة: استغفر لي يا رسول الله! فلما كان العشي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختطب فأثنى على الله بما هو أهله، فقال: «أما بعد، أيها الناس: إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» مسلم

إن القيم لا تتجزأ , والعدل الذي يرفع النبي محمد صلى الله عليه وسلم لواءه لا يمكنه أن يتعطل لأجل امرأة من عائلة غنية أو مشهورة , إنه ههنا يعلن أن العدل سيف مسلط على كل مرتكن على اسمه أو نسبه أو ماله أو قوته , فلو أنفاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها , فليخسأ إذن كل الظالمون وليختبىء كل أصحاب الوساطات لإيقاف تطبيق الدستور الحق .

- وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال وهو على المنبر: أعطاني أبي عطيّةً، فقالت عمرة بنتُ رواحة: لا أرضَ حتى تُشهِدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعطيتُ ابني من عمرة بنت رواحة عطيّةً فأمرتني أن أُشهدكَ يا رسولَ الله، قال: «أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟» قال: لا. قال: «فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم» قال: فرجع فردَّ عطيته. وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألك ولدٌ سواه؟» قال: نعم، قال: فأراه قال: «لا تُشهدني على جور» وفي لفظ: «لا أشهد على جور» وفي لفظ: إني نحلتُ ابني هذا غلاماً، فقال: «أكلّ ولدك نحلتَه مثلَهُ؟» قال: لا. قال: «فأرجعه» وفي لفظ لمسلم: «أليس تريد منهم البر مثل ما تريد من ذا؟» قال: بلى، قال: «فإني لا أشهد " أصله في البخاري , فالسبب الأكبر في تفكك شتى الحالات الإجتماعية وخصوصا الحالة الأسرية في العصر الحديث هو غياب منطق العدل بين أفرادها , ما يجعل الأفراد مهتمين بشأن أنفسهم ومصالحهم الشخصية فحسب , فقل البر للوالدين , وتوترت العلاقات بين الأبناء , وسكن الشيطان بين مفاصل الأسرة , فعن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كانت له امرأتان فمال إلى إِحداهما جاء يوم القيامة وشِقُّهُ مائل " أبو داود , وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُفضِّل بعضنا على بعضٍ في القَسْمِ من مكثه عندنا، وكان قلَّ يومٍ إلا وهو يطوف علينا جميعاً فيدنو من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ إلى التي هو يومها فيبيت عندها" أبو داود