في ذاكرة طفلك .. دون تاريخا يفتخر به
20 شوال 1431
صفية الودغيري

ذاكرة الإنسان هي تلك الخزانة الكبيرة التي ترتب بداخلها أوراقك وملفاتك، هي مكتبتك الواسعة، الشاملة لموسوعاتك العلمية، وكتبك القيمة النادرة.
أنت من تنظمها وترتبها كل فترة وفترة، وأنت من تضع فهرستها بحسب اختصاص موضوعاتها وتنوع فنونها المختلفة، وبحسب أرقامها المتصاعدة..

 

وكلما توالت الأيام والسنوات تضاعف رصيد محتواها، وازدادت رفوفها وامتلأت، وكلما كانت خزانتك ومكتبتك عامرة بكتب وموسوعات ذات قيمة علمية، وتاريخ عتيق وأصيل، كلما كانت  ثمينة وإرثا يستحق أن تتوارثه الأجيال، يظل بعدك خالدا ينتفع به الناس ، ويكون عملك الذي لا ينقطع بعد مماتك .

 

وخلاف ذلك لو كانت خزانتك ومكتبتك فارغة، رفوفها قليلة، رصيدها لا يتعدى مجموعة أوراق متناثرة وسجلات متراكمة، وأقلاما هنا وهناك، وكتيبات وقصص وروايات تافهة، قيمتها لحظات قراءتها للتسلية أو تمضية وقت فراغ  يحسب  عليك لاحقا، فمثلها تخجل أن يلج بابها شخص سواك، فيكتشف قلة نظامك وسوء ترتيبك وفساد ذوقك وانحراف طبعك، فتسقط قيمتك ومكانتك كسقوط قيمة خزانتك ومكتبتك..
إنها مجرد مكان تخفي فيه مهملاتك وأغراضك التافهة، وأوراقك القديمة، وسجلات أسرارك..

 

 لتمضي بعدها أيام وسنوات من عمرك ثم تكرهها، فتقرر لحظة يقظة فكرك ونضج إحساسك أن تتخلص منها، فتلقي بكل محتواها في سلة مهملاتك، أو تلقي بحطامها المتبقي لتحصده النيران، فيصير طعمة للحطب ..
كذلك خزانة ذاكرتك، فيها ملفات وسجلات تستحق أن تخلدها وتتذكرها وتحيا يومياتها بفخر واعتزاز، وأخرى تخاف منها أو تخجل كلما اطلعت عليها أو أعاد إخراجها سواك..
إلا أننا ونحن أطفالا صغارا لا نملك نضجا في التفكير يدعونا لننتقي أصناف وموضوعات ما تحمله ذاكرتنا، كما نفعل حين نؤسس لخزانة مكتبتنا، فنحن لا نستطيع  اتخاذ القرار الصحيح، لأننا لم ندرك بعد سن النضج والتمييز، فنعجز عن اختيار ما يناسب أعمارنا أو ينسجم مع أذواقنا، أو أن نرتقي لنرى بعين البصيرة كما ونحن كبارا نبصر بها صور الحقيقة، التي يحجبها عنا الضباب الكثيف الذي تنشره حولنا أعمارنا التي مازالت في طور الطفولة، فنحتاج سنوات مديدة حتى تقوى عزائمنا، وتنمو فينا الهمة، ويكبر بداخلنا ما نحمله  من قيم وأفكار، كما تكبر بعقولنا الأهداف والغايات..

 

إننا لا نملك ونحن أطفالا صغارا أن نسجل باختيارنا وقرارنا الحر ما يستحق أن يُخلد بداخل رؤوسنا الصغيرة، أو يُحفظ في خزانة ذاكرتنا الفتية،..
إننا في مرحلة التقليد لا في مرحلة الإبداع للفكرة، فهواياتنا ما زالت بسيطة، واهتماماتنا ليست عظيمة، وأحلامنا ننسجها بخيال مساحته ضيقة، وبألوان الطبيعة نضع معالم رسمها، بريشة ما زالت  بأيدينا خجلى مترددة  .
فنحن لم نولد متعلمين ولا مثقفين، ولا مميزين مدركين لمحيط العالم الذي نعيش فيه، ولا مكتشفين لكل خباياه وأسراره الكثيرة، التي تفوق قدرات مداركنا..

 

إننا ما زلنا صغارا لم نرتوي بعد من قضاء ساعات أعمارنا في اللعب والتسلية، لأن ساعاتنا لا نضعها أمامنا بل خلفنا، لا نهتم أن نزين بها المعصم، أو نعلقها على الحيطان أو نضعها على رفوف مرتفعة، لتذكرنا كم أمر من الزمن وكم تتبقى، فلا قيمة لكل الساعات حينها، ولا للزمن الذي يرحل عنا وينقضي، فأوقاتنا حينها ملك لنا نصرفها بسخاء ولا نفكر في يومنا القادم، بل نعيش لحظاتنا كما هي .
 لا نعي لخطورة ما نقدم عليه في أفعالنا أو تجاربنا أو تصرفاتنا، ولا ما تنطق به ألسنتنا، فنطلق لها العنان بلا لجام يلجمها، بل نمضي بفطرتنا وتلقائيتنا أحرارا بلا قيود تعتقلنا، نحلق في عالمنا كطائر في الفضاء حيثما حط به هواه على غصن رطيب  حط فغرد، وإذا ما هتف به جناح ليطير حلق وارتفع.

 

إننا ونحن أطفالا صغارا نسجل كل ما تلتقطه أعيننا بكامرتها الصغيرة، أو تسمعه آذاننا كدبدبات صوتية متناغمة، أو تلمسه أيادينا الناعمة، أو يمر عبيره فنستنشقه  من أصناف العطور والروائح المختلفة..، أو تتحرك اتجاهه أقدامنا في أطوار مختلفة ونحن نحبو،  أو ونحن نمشي على أقدامنا وهاماتنا للأعلى وأجسادنا مستقيمة .
إننا نواجه زوبعة من المشاهد ودوامة من المواقف وشريطا من الصور، بكل معانيها وألوانها وأشكالها، فنحفظ كل ذلك كما هو، فلا نستخدم آلات التصفية والغربلة ولا نضع مواد مطهرة، بل نستقبل كل ذلك مادة خاما بدون معالجة ولا تصنيع، وننقشه في ذاكرتنا كالنقش على الحجر، يماثل حفظنا التقليدي في الكتاتيب القرآنية والمدارس العتيقة، بطرق تلقينا وسماعاتنا العتيقة، من غير تنظيم ولا ترتيب لما نخطه وننقشه
وكأننا أوعية حافظة وكتب مدونة تؤرخ لكل الأحداث، وليومياتنا المتسلسلة، الحزينة منها والمفرحة، ولردات أفعالنا وأفعال الآخرين الظاهرة والخفية، حتى التي تنشأ بداخلنا أوقات غروب الشمس وما يجري وقت حلول الظلام، والجلوس تحت ضوء القمر أو الشموع الموقدة، حتى التي نكتم أنفاسها فلا تجد لها صوتا لتصرخ، لا تجد إلا مكانا قصيا بالذاكرة..

 

أعمارنا ما زالت في أطوارها الأولى ، لم ندرك بعد سنوات الالتزام بالمسؤولية واعتلاء مناصب القرار، لهذا فنحن لا نتحمل مسؤولية ما نحفظه بهذه الذاكرة، كما أننا لا نتحمل مسؤولية اختيار طبيعة تنشئتنا، ولا ظروف عيشنا، ولا طريقة تربيتنا، ولا التقاليد والأعراف التي تعودنا عليها..
إن المسؤولية الحقيقية ملقاة على عاتق أهالينا، على آبائنا وأمهاتنا، على الراعي داخل الأسرة، وعلى كل من يتحمل وظيفة القوامة، وسلطة الإدارة، وعلى من تدبر شؤون البيت وتنظم أركانه، على الراعي والراعية داخل البيت.. فذاكرتنا هي السجل الذي دون فيه آباؤنا وأمهاتنا، والأسر التي ترعرعنا في أوساطها، وارتوينا من ينابيع حياضها، ومن  فيض أوديتها وأنهارها.. بداية تاريخنا، وأحداث طفولتنا، وذكريات ماضينا.. بل المجتمع كله يتحمل مسؤولية الرعاية، كما يتحمل أمانة حفظ سجل ذاكرتنا وصيانة محتواه،  فنحن نولد فيلفنا قماش أبيض، ونرضع حليبا صافيا، ونحمل أجسادا ناعمة، ورؤوسا خالية، بداخلها نضدت رفوف من الصفحات البيضاء النقية، لم يخط  عليها القلم نقطة حبر سوداء ولا واحدة،.

 

إن ما تحمله اليوم بذاكرتك- وأنت شاب يافع، أو كهل تخدم مجتمعك من خلال منصبك، أو شيخ علا الشيب مفرقه وانحنى ظهره فاعتكف-  في قسم مهم منها حصدت ما نقش على صفحاتها في سنواتها الأولى، التي أرخ لها أشخاص أنت لم تخترهم ليؤرخوا بدلا عنك، ولم تطلب منهم أن يكونوا ربابنة يقودزن سفينة ذاكرتك بإرادتهم وباختيارهم أو أن يتحكموا فيها بقوة سلطانهم..

 

إن الطفل الذي كان بالأمس يحمل ذاكرة صافية نقية، بريئة من كل ذنب أو ظلم أو سوء أو أذى، صار اليوم كبيرا يحمل بداخله سجلات الماضي، سيشعر حينها بوجع الألم الذي نشأ بداخله صغيرا، وسيعيشه مرة أخرى بنفس الإحساس، بل أشد منه لأنه إحساس ناضج كبير، كما سيشعر في الوقت نفسه بفرحة النشوة، وابتسامة تشرق وجهه كما أشرقت في الماضي وهو صغير، وبمرح النفس لما تشدو وتنعم، مزهوة بأثوابها البيض التي كستها لحظات الترف والسلوى وزينتها أيام الأعياد..
فعلى كل راع أفرادا أو جماعات واجب حفظ سلامة هذه الذاكرة من التحريف، أو التشويه أو الإساءة إليها والإضرار بها أو هضم حقها وانتهاك حرمتها، لأنها سجل أجيال المستقبل، ورجال ونساء سيعتلون يوما مناصب اتخاذ القرارات التي تقيم أمة سياسة وتعليما واقتصادا..

 

فلنؤهل ولنربي ولننشئ ذاكرة قوية لا منهزمة، ذاكرة سليمة ومعافاة من العلل والأمراض والمتاعب النفسية، لنحميها  من الانهيار والضياع، حتى نحافظ للأمة على عقول وأوعية أبنائها، فهي التي ستبدع الأفكار، وبسواعدها ستطبقها على مساحات واسعة، وبقرائحها وعزيمة همتها ستقيم المنشآت والمؤسسات وتؤسس الجمعيات.. التي تنشط ثقافة الأمة وتقيم حضارتها وتقعد أسس وأعمدة ازدهارها وتفوقها في مختلف الميادين والمجالات التنموية..

 

 ولنخلد جميعا لنا ولأبنائنا تاريخا حافلا بالعطاءات، تاريخا مجيدا يفتخر به نشئنا غدا، تاريخا يستحق أن يعيش ويدون بماء من ذهب، لا تاريخا قاتما كتب في الظلام، بأقلام مدادها صنعته الدموع،  وعبرت عنه بالآهات والعبرات، وبأنين القلب ووجعه.. لا نريد لأبنائنا أن يقفوا أمامنا غدا يحاسبوننا على تقصيرنا في حقهم، وبأننا كنا معاول هدم لذاكرتهم، ودمارا لتاريخهم..
ولندون كلنا ونحن كبارا بذاكرة الأجيال تاريخنا وتاريخهم، ولنؤسس للمستقبل ما تنعم به النفس وتعبر عنه بحريتها المشروعة، لنصنع في ذاكرتهم حياة سعيدة، وذكريات جميلة وصورا رائعة، ومشاهد نادرة، ويوميات عظيمة، حتى لا  يراودهم الخوف عبر مراحل حياتهم، أو تطفو المآسي على صفحات ذكرياتهم،  فيلاحقهم الفشل كبارا، وتصغر في أعينهم الهمة، وتهزم بداخلهم القوة، وتخرس على ألسنتهم الجرأة ، وتكتم أنفاسهم الصرخة..
ذكرياتنا فيها أشياء كثيرة تستحق منا أن نراجعها ونغيرها ونصححها كبارا، ما دمنا عجزنا عن  تأليف سجلها صغارا،  فلنخلد لنا ولمن بيخلفنا ما يصنع  مجد أمة .
a