مكاسب "العدالة" من تعديل الدستور التركي
10 شوال 1431
نسيبة داود
قبيل ساعات من فتح باب الاقتراع في الاستفتاء على تعديل الدستور التركي يوم الأحد الماضي، قال رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان إنه مطمئن إلى أن %55 من المقترعين سيقولون "نعم" كبيرة. لكن فيما يبدو أن الناخبين أعدوا مفاجئة سارة له عندما انحاز أكثر من 58% لصالح التعديلات.

لكن المفاجئة السارة لا تكمن فقط في هذا الفوز الذي يعزز معنويات حزب أردوغان في الانتخابات البرلمانية المزمعة في يوليو 2011، لكن في التأثير الإيجابي لهذه النتيجة على القضايا الأساسية التي تشغل حكومة حزب "العدالة والتنمية" الإسلامي الذي يرأسه أردوغان.

 

 

ومن أبرز هذه القضايا التي باتت مضمونة للحزب: توسيع البرنامج الإصلاحي السياسي والاقتصادي والحقوقي، وما يمليه ذلك باعتبارها خطوة في سبيل الانضمام للاتحاد الأوروبي، وأيضا الحد من سيطرة الجيش والسلطة القضائية وهما عمادا المؤسسة العلمانية، ومحاسبة جنرالات الجيش الذين تورطوا في جرائم ضد الإنسانية إبان انقلاب عام 1980، وهو ما يؤدي أيضا إلى إمكانية محاسبة قادة في الجيش متهمين حاليا بمحاولة تنفيذ مخطط انقلابي ضد الحكومة. وتجنب محاولات الحظر أو إسقاط الحكومة التي تتم بإيعاز من العلمانيين، وضمان خوض انتخابات 2011 المقبلة باطمئنان أكبر إلى الفوز، إلى جانب التوصل إلى حلول لمشكلات أخرى تدخل في جانب توسيع الحقوق المدنية وحرية العقيدة خاصة أزمة المحجبات في الجامعات التركية، وأزمة الهوية لدى الأكراد.
وفي الاستفتاء الذي أجري في الذكرى الثلاثين لانقلاب عام 1980، صوت 58% بنعم مقابل 42% صوتوا بلا. وبلغت نسبة الإقبال على المشاركة في الاستفتاء 77% بين 50 مليونا يحق لهم الإدلاء بأصواتهم.

وجاءت هذه النتيجة المبهرة بعد أن عمد أردوغان على مدار الأسابيع التي سبقت الاستفتاء إلى شحذ الرأي العام وراء تغيير الدستور -الذي كتب خلال الحكم العسكري للبلاد- من خلال تذكير الأتراك بالحكم الاستبدادي الذي نشأ مع تولي الجنرالات الحكم، والقمع الوحشي الذي تعرض له الشعب التركي.

 

 

تعديل الدستور
وفي أعقاب الكشف عن نتيجة الاستفتاء، تعهدت الحكومة التركية بالمضي قدما في خططها للإصلاح. وقدم رئيس الوزراء التركي مذكرة تفيد بأن حزبه سيشرع على الفور في وضع دستور جديد للبلاد.
وهذه التعديلات الدستورية المرتقبة من شأنها أن تساعد الحزب في مسعاه لتوسيع البرنامج الإصلاحي السياسي والاقتصادي والحقوقي الذي تتبناه الحكومة، والذي يشترطه الاتحاد الأوروبي في مفاوضات الانضمام إليه.
وتقول الحكومة التركية إن حزمة الإصلاحات الدستورية تلك ستعزز الديمقراطية بتركيا لتحرز بذلك نقاطا في سبيل الوصول إلى الاتحاد الأوروبي. فالاتحاد الذي يبدو غير مرحب بتركيا الإسلامية في ناديه النصراني يتذرع دائما بعدم كفاية الإصلاحات الديمقراطية وبسجل تركيا في مجال حقوق الإنسان الذي هو أحد موروثات حكم العسكر الذي سبق حكومة "العدالة والتنمية" الإسلامية.
وكان ستيفان فولي مفوض التوسع بالاتحاد الأوروبي قد قال في بيان له في أعقاب الإعلان عن نتائج الاستفتاء: إن انتصار الاستفتاء "يظهر استمرار التزام المواطنين الأتراك بالإصلاحات في ضوء تعزيز حقوقهم وحرياتهم".
وأبدى ترحيبه بالنتيجة قائلا إن "هذه الإصلاحات خطوة في الاتجاه الصحيح لأنها تعالج عددا من الأولويات المعلقة في جهود تركيا تجاه الامتثال بشكل كامل إلى معيار الانضمام".

كما حث أنقرة على تطبيق قوانين تضمن تنفيذ التعديلات الدستورية.

 

 

تجنب حظر "العدالة" أو إسقاط حكومته
لقد بات حزب "العدالة والتنمية" في مأمن من محاولات العلمانيين المتكررة لإسقاط حكومته، خاصة وأنه أفلت من محاولات متكررة لحظره كانت آخرها العام الماضي. تلك المحاولات التي لم تسلم منها أحزاب سابقة ذات توجهات إسلامية، وذلك بإيعاز من أركان المؤسسة العلمانية مستخدمة في ذلك سلاحيها؛ الجيش: في الانقلابات، والقضاء: في فرض الحظر على ممارسة العمل السياسي للأحزاب.

وتضم مجموعة الإصلاحات 26 بندا ينظر إلى معظمها على أنها متدرجة وغير مثيرة للجدل منها بند يجعل من الممكن محاسبة أعضاء الجيش أمام المحاكم المدنية، مع عدم إمكانية محاسبة المدنيين أمام المحاكم العسكرية إلا في حالة الحرب. وهذا بدوره يضمن عدم انقلاب الجيش الذي يحركه العلمانيين على الحكومة.

 

 

التمهيد لانتخابات 2011
لقد اعتبر فوز الحزب في معركة التعديلات الدستورية -التي كان التصويت فيها إلزاميا بواقع غرامة تبلغ نحو 22 ليرة للفرد الذي لا يشارك- بمثابة تصويت بالثقة على الحكومة. وهذا بدوره يمهد الطريق أمام حزب العدالة والتنمية للفوز بولاية ثالثة على التوالي في الانتخابات العامة المقرر إجراؤها في يوليو 2011.

فحزب "العدالة والتنمية" كان هو الحزب الوحيد تقريبا الذي قام بحملة في سبيل تأييد هذه الإصلاحات، بينما عارضتها أو قاطعتها باقي الأحزاب. أي أن حصيلة الـ 58% "نعم" التي حصدتها التعديلات كلها تصب في وعاء "العدالة والتنمية" منفردا، بينما تصب الـ 42% "لا" في أوعية باقي الأحزاب مجتمعة.

 

 

وفي هذا السياق، علق كاتب الافتتاحية في صحيفة "ملييت" سميح أديز يوم الاثنين 13-9-2010 الذي تلى الاستفتاء بالقول: "يمكنه بالتالي أن يؤكد وبشكل شرعي أنه نال وحيدا" تلك الأصوات المؤيدة.
فالمعارضة هي التي اعتبرت ذلك الاستفتاء تصويت بالثقة على الحكومة، وهي التي عمدت إلى هذا الوصف خلال الحملة الدعائية التي شنتها لرفض التعديلات. والآن حزب العدالة استطاع بالفعل الفوز بهذا الرهان باجتيازه هذا الاختبار المهم قبيل انتخابات 2011، وحصد ثقة الناس.
وجاءت هذه النتيجة في الوقت المناسب للعدالة والتنمية، الذي كان يترقب مؤشرات حول أدائه المتوقع في الانتخابات المقبلة، فهو وإن كان حقق فوزا كبيرا في الانتخابات العامة الأخيرة في 2007 بحصوله على 47% من الأصوات، إلا أنه أبدى بعض مؤشرات التراجع في الانتخابات البلدية العام الماضي بفوزه لكن بنسبة أقل بلغت 39% فقط.

لكن بعد نتيجة الاستفتاء أصبح بمقدور قادة الحزب الاطمئنان إلى أغلبية مريحة في الانتخابات تخوله من تشكيل الحكومة المقبلة منفردا.

 

 

التخلص من وصاية الأتاتوركيين
وهذا بالضبط ما أشار إليه موقع "Open Democracy" في مقدمة ملف عن الأوضاع في تركيا، حيث قال إن "الحكومة الإسلامية في تركيا سجلت انتصارا عظيما عندما أظهرت نتيجة الاستفتاء الموافقة على التعديلات الدستورية لإعادة تشكيل القضاء والحد من سلطات الجيش، وهو ما سمح لحزب العدالة والتنمية الحاكم بسحب البلاد بعيدا عن الميراث العلماني الغربي الذي خلفه مصطفى كمال أتاتورك مؤسس تركيا العلمانية".
وهذا أيضا ما كتبه المحلل السياسي إحسان داغي في صحيفة "زمان" التركية صبيحة إعلان نتائج الاستفتاء، حيث قال: إن "قوة الشعب تعيد بناء تركيا سياسيا، عن طريق التخلص من وصاية الأتاتوركيين من خلال الاستفتاء. وبالموافقة على حزمة التعديلات الدستورية تمكن الناس بالوسائل الديموقراطية من تخطي مقاومة قوة النخبة الأتاتورية التي بذلت ما في وسعها من أجل الدفاع عن مناصبها".
وتابع قائلا: "بات في وضوح الشمس مجددا أن الناس في هذه البلاد كانوا دائما متطلعين إلى نظام أكثر ديمقراطية ما سنحت لهم الفرصة.. ولهذا السبب بالتحديد، ولسنوات طويلة حاولت النخبة الأتاتوركية اختطاف السلطة من الشعب بالوسائل السلطوية".
وأشار إلى أن كافة الأحزاب سواء العلمانية أو الليبرالية سواء التي قاطعت الاستفتاء أو التي شاركت فيه خرجت من الاستفتاء خاسرة، باستثناء حزب العدالة والتنمية الذي عزز من وضعه.
لقد أصبح "الأتاتوركيين" أو العلمانيين الآن تحت طائلة القانون، بعد أن كان الدستور الذي وضعه العسكر يمنحهم حصانة في مواجهة أي محاسبة على أفعالهم إبان الانقلاب الأخير عام 1980.

واستطاع حزب العدالة بهذه التعديلات الحد من سلطة الجيش الذي يمثل معسكر العلمانيين، والحد من سلطات القضاء الذي صار الملاذ الأخير للعلمانيين خاصة مع تراجع قوة الجيش جراء الإصلاحات التي يطالب بها الاتحاد الأوروبي.

 

 

محاسبة جنرالات الانقلاب
ودفع إقرار التعديلات جماعات حقوق الإنسان إلى تقديم سيل من الطلبات لمحاكمة قادة انقلاب 1980 الذين جردوا من الحصانة بموجب أحد التعديلات في حزمة الإصلاحات الدستورية. وتقدمت بعض الجماعات بالتماسات بمكتب مدعي أنقرة لمحاكمة قادة الانقلاب وبينهم الرئيس السابق الجنرال كنعان أفرين على جرائم ضد الإنسانية.
وفي ذلك الإطار اعتبرت صحيفة "صباح" الموالية للحكومة أن "تركيا تنظف عار الانقلاب"، حيث كان نحو 50 شخصا أعدموا في أعقاب الانقلاب، كما اعتقل الآلاف وعذب الكثير ومات المئات في الاحتجاز واختفى آخرون.

وهذه التعديلات تخول الحكومة أيضا أن تضع قبضة حديدية حول أعناق المتهمين بالتورط في مخططي "المطرقة" و"أرجينيكون"؛ وهي شبكات كشفتها وسائل الإعلام التركية، حيث سعى جنرالات ورجال في الحكومات العلمانية السابقة إلى تنفيذ اغتيالات وتفجيرات بحق شخصيات ومؤسسات علمانية، وذلك بهدف زعزعة الاستقرار والإيحاء بأن حكومة "العدالة والتنمية" غير قادرة على حفظ الأمن في البلاد.

 

 

تقليص القيود على الحجاب في الجامعات
أحد أهم الأهداف التي يسعى لها أردوغان من خلال تمرير هذه التعديلات هو توسيع الحريات العامة والدينية، وهو ما يصب بالأساس لصالح الفتيات المحجبات اللاتي يعانين الحرمان من الدراسة في الجامعات التركية بسبب ملابسهم التي لا تروق للعلمانيين المتحكمين في أغلب المنشئات الثقافية.
لقد عانى المسلمون الأتراك من رغبة العلمانيين الدائمة في تغريب الهوية الإسلامية وتغييبها عبر منع المرأة المسلمة من ارتداء الحجاب أو إعاقة الحياة أمامها. والكل يدرك أن حزب العدالة التنمية يضع هذه القضية في صدر أولوياته. وكيف لا وقد اكتوى أردوغان نفسه بتلك القيود التي فرضت على المسلمات، وهو ما اضطره إلى إرسال ابنتاه إلى الدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية للتتمكنا من الاحتفاظ بحجابهما.
لقد عمدت الحكومات العلمانية السابقة إلى إصدار القوانين المانعة للحجاب بكافة صوره، بدءاً من قانون "القيافة" الذي أصدره أتاتورك ذاته عام 1934 وحتى قانون منع الحجاب في الجامعات الذي أصدره الحكم العسكري عام 1981 عقب الانقلاب.
وفشلت محاولات الحكومات الإسلامية السابقة في منع هذه القوانين بسبب تدخل السلطات القضائية وإبطال هذا المنع، والإبقاء على القوانين التي تحظر الحجاب.
ومنذ ذلك الحين تضطر آلاف الطالبات المسلمات المحجبات للسفر إلى آذربيجان والمجر والنمسا وغيرها لاستئناف دراستهن الجامعية، لكن المؤسسات والحكومات العلمانية سعت دائما إلى رفض اعتماد شهاداتهن الجامعية التي يحصلن عليها في الخارج.
ويدخل ملف الأكراد أيضا في إطار سعي الحكومة من خلال تلك التعديلات إلى توسيع الحريات المدنية والثقافية، فقد عمدت حكومة العدالة والتنمية منذ توليها الحكم عام 2002 إلى الابتعاد عن النعرة القومية التركية، والتقريب بين الأتراك والأكراد، في محاولة لحل ملف الأكراد المعقد.

ودأبت الحكومة على منح الأكراد المزيد من الحقوق الثقافية وأنشأت أول قناة تلفزيونية رسمية ناطقة بالكردية في اعتراف ضمنى بالهوية الكردية وهو الأمر الذي كان مرفوضا في عهد القوميين الأتاتوركيين. وتأتي هذه التعديلات في استكمال لتلك الجهود بهدف إنهاء الأزمة التي تهدد المنطقة الجنوبية الشرقية للبلاد.

 

 

البورصة صوتت لصالح التعديلات
قبيل ساعات من الاستفتاء كان المستثمرون في الاقتصاد التركي يترقبون النتيجة بحثا عن أي دلائل تعزز فرض فوز حزب أردوغان في الاستفتاء، إذ إن هذا من شأنه أن يعزز فرصه أيضا في الاستمرار على رأس الحكومة بعد انتخابات يوليو 2011، وهو ما يدعم استقرار الاقتصاد ويدفعه إلى الأمام على غرار ما حدث منذ توليه الحكم عام 2002، وهي النقلة النوعية في تاريخ الاقتصاد التركي الذي ورثه أردوغان محملا بديون بلغت أكثر من 200 مليار دولار ونسبة بطالة بلغت 20%، فاستطاع انتشاله حتى بات أقوى اقتصاد في المنطقة.
وبالفعل صعدت نتيجة الاستفتاء بالأسواق المالية (البورصة) التركية حيث رفعت الأسهم إلى مستوى قياسي. واعتبر المستثمرون نتيجة الاستفتاء دعما للاستقرار ولفرص فوز الحكومة بفترة ثالثة. كما سجلت الليرة أقوى مستوياتها مقابل الدولار في شهر.