تسع سنوات على 11 سبتمبر.. مَن يزرع الشوكَ لا يَجْنِ العِنَبْ
4 شوال 1431
د. محمد بسام يوسف

بَعد أقل من أربعٍ وعشرين ساعة، كانت قد مضت على تشييع ضحايا آخر قصفٍ جويٍ أميركيٍّ-بريطانيٍّ للمدنيين العراقيين في بغداد.. وعلى تشييع عددٍ من شهداء انتفاضة الأقصى في فلسطين، الذين قضوا نحبهم بيدٍ صهيونيةٍ وأسلحةٍ وتقنيةٍ أميركية.. وقع الزلزال المذهل في (نيويورك) و(واشنطن)!.. فانهارت أبنية (مركز التجارة العالمي) و(البنتاغون)، الرابضة في قلب أميركة، لتنهار معها أسطورة الأمن الأميركية، التي تَقلَّب في نعيمها الشعب الأميركي دون غيره من شعوب العالم، لأكثر من نصف قرن، وبالتحديد، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية!..

 

العالَم الذي ألِفَ مشاهد ضحايا الاعتداءات الأميركية في العراق، قبل أحداث أيلول (سبتمبر) بأكثر من عشر سنوات، وضحايا الإرهاب الصهيونيّ في فلسطين العربية المحتلة، طوال عشرات السنين.. هذا العالَم، ارتفعت عقيرته في الحادي عشر من أيلول، وهبّ مندّداً، ومتوعّداً (الأشباح الإرهابيين). وفي الحقيقة: إنّ سياسة الكيل بمكيالين أو أكثر، هي السمة البارزة التي ميّزت ما يسمى بالنظام العالميّ الجديد!.. وهي -فضلاً عن أنها تمثل وجهاً من وجوه الإرهاب- تُصرّ على أن تشدّ من أزر القويّ الظالم الجبار، وعلى أن تسحق الضعيف المضطهَد!.. وبذلك تختلّ أهم مقوّمات العدالة والنـزاهة، ولعلّ الإصرار الغربيّ على هذه السياسة الظالمة العرجاء، يمثّل طليعة الأسباب، التي قادت إلى الصدمة شديدة العنف في قلب الولايات المتحدة الأميركية.

 

سياسة الظلم، التي تشكّل البنية التحتية للحضارة الغربية بشكلٍ عام، والأميركية بشكلٍ خاص.. ليست حديثة العهد، وليست حقيقةً طارئةً في حياة العالَم الغربيّ والأميركيّ.. فالظلم والاحتكام إلى القوّة الغاشمة، من أهم أدوات الإرهاب العالميّ، الذي لا يعرف الحدود أو القوانين البشرية أو الشرائع السماوية، أو الخلق الإنسانيّ السويّ!.. فأميركة هي التي غَزَتْ (غرينادا)، كما غزت (هاييتي) و(بَنَما)، وقبلها غزت (فيتنام) و(كورية)، وارتكبت خلال تلك الغزوات والاحتلالات أفظع الجرائم بحقّ الشعوب.. وأميركة هي الدولة الوحيدة في العالَم، التي استخدمت السلاح (النوويّ) في (هيروشيما) و(ناغازاكي)، الذي فتك بمئات الآلاف من البشر.. وأميركة مع دول الغرب الاستعمارية، هي التي حاصَرَت شعوباً ودولاً ذات سيادة، فمنعت عنها الغذاء والدواء، ليموت ألوف الشيوخ والأطفال والرجال والنساء، ضحايا عتوّها وجبروتها وعدوانها.. وإرهابها، وأميركة هي التي تهيمن بالقوّة الغاشمة على دول العالَم الفقير، فتنهب النفط، وترابط جيوشها في المياه الإقليمية لدول العرب والمسلمين.. وأميركة هي التي تقتل وتفتك وتسفك الدماء الإنسانية، مرةً هنا، وأخرى هناك.. في هذا العالَم، من غير رقيبٍ أو حسيب.. وأميركة هي التي تستخدم حق النقض (الفيتو)، ضد كل قرارٍ عالميٍ يتعرّض لعدوان الكيان الصهيونيّ المغتصِب على الشعب الفلسطينيّ.. وأميركة هي التي احتلّت العراق وأفغانستان، وما تزال، وهي التي اقترفت فيهما، وما تزال، كل الجرائم الإنسانية، وبأبشع صورةٍ عرفها البشر!..

 

* * *
نعم.. أميركة تقترف كل ذلك وغيره.. ومع ذلك، مع ذلك كله.. هي ليست دولةً إرهابية!.. ولا تحمي الإرهاب أو ترعاه، أو تصنع أدواته!.. لأنّ الإرهاب في المفهوم الأميركيّ الغربيّ، هو كل ما يطال مصالحهم، أما ما يحقق تلك المصالح فليس إرهاباً، ولو كان دون ذلك إفناء شعوبٍ وأمم!..
أما (إسرائيل) -ربيبة أميركة وصنيعة الغرب- فهي دولة متحضّرة، وقلعة متقدّمة لمقاومة الإرهاب!.. ومجازرها ومذابحها بحق الأبرياء مباحة لدى المجتمع الدوليّ الغربيّ والأميركيّ، لأنه عند إرهاب (إسرائيل) تُطَأطَأ الرؤوس، ويتوقّف كل حديثٍ عن الإرهاب!.. ووعد (بلفور) لشعبٍ مركّبٍ من مختلف الأعراق، بدولةٍ على أرضٍ ليست أرضه.. واقتلاع شعبٍ كاملٍ من أرضه، وقتل أبنائه وتشريدهم في جهات الأرض الأربع.. ليس إرهاباً!.. أما مقاومة المحتلّ الغاصب، والوقوف أمام صلفه وطغيانه وهمجيته.. فهو الإرهاب في عُرْفِ أميركة والدول الغربية الاستعمارية، التي ترعى الإرهاب الصهيونيّ، وتحميه، وتؤجّج ناره، وتطوّر أساليبه!..
* * *

 

لقد أمعنت أميركة في غيّها وطغيانها وغرورها، فزرعت الشرّ في كل مكانٍ في العالَم، واستخفّت بشعوب الأرض، وبأرواحهم وحُرُماتهم، وتآمرت على مصالحهم، ونهبت ثرواتهم.. فنثرت بذلك بذور الكراهية والحقد والرغبة في الانتقام.. فكان العالَم على موعدٍ مع قَدَر الله عز وجلّ في إبادة مواضع الشموخ والكبرياء الأميركي، بكلّ جبروته الاقتصاديّ والسياسيّ والعسكريّ والمعنويّ، وبأبسط الأدوات وأقلّها كلفةً.. ليكشف قَدَر الله أنّ أميركة ليست إلا نمراً من ورق، عندما يتصدّى لها المظلومون ويجابهون باطلها وغيّها!..لأنّ السياسات العدوانية التي استفزّت أميركة بها شعوب العالَم طوال أكثر من نصف قرن، وفي طليعتها الشعوب العربية والإسلامية، هي التي قادتها إلى ذلك المأزق في عُقر دارها!..
كما تسلّطت معظم أنظمة الحكم في العالَم الإسلاميّ على مقدّرات الأوطان والشعوب المسلمة، بمباركةٍ أميركيةٍ ودعمٍ غير محدودٍ منها، ومارست الاستبداد والظلم والاضطهاد، واستخدمت لذلك كل الأدوات الإرهابية، من اعتقالٍ وتعذيبٍ واغتصابٍ لإرادة أبناء الأمة، وسلبٍ للأموال العامة والخاصة، وامتهانٍ لكرامة الإنسان، وقهرٍ وبغيٍ، وتزويرٍ لرغبات الشعوب في الحرية والعدل والمساواة.. فكانت أميركة المسؤول غير المباشر، وأحياناً المباشر، عن استعباد هذه الشعوب وإرهابها، لتضمن استمرار تحقيق مصالحها الدنيئة، في الاستغلال وامتصاص الخيرات الوطنية، للدول العربية والإسلامية، وغيرها من دول العالَم الثالث!..
لذلك كله، وحدها أميركة، تتحمّل مسؤولية ما حدث في صباح يوم الثلاثاء الواقع في الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) لعام 2001م!..

 

سيسجّل التاريخ، أنّ يوم الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) لعام 2001م، كان يوماً فاصلاً في حياة البشرية الحديثة.. وعلى الرغم من المشهد الأليم الصاعق، الذي صوّر للعالَم مأساة إزهاق آلاف الأرواح الإنسانية البريئة، ومهما قيل بشأن الجهة المسؤولة عن الهجمات الصاعقة، التي لم تستطع أميركة تحديدها بدقةٍ حتى الآن.. فإنّه من المؤكّد أنّ مَن قام بهذا العمل، مخترقاً قلعة الجبروت والإرهاب العالميّ، هو إحدى الجهات الكثيرة، التي تشعر بالانسحاق والظلم، نتيجة الممارسات الإرهابية الأميركية والغربية.. لذلك فهذه الجهات ليست -كما يصوّرها الإعلام الغربيّ والصهيونيّ- مجرّد حفنةٍ من القَتَلَة الذين يُضَحّون بأرواحهم بهذه الطريقة المذهلة، بل هي جهات لها منهجها وقاعدتها العَقَديّة والفكرية، التي تعتقد بموجبها أنّ أميركة فرضت عليها وعلى شعوبها حرباً ضاريةً شرسة، فتعاملت مع العدوّ الأميركي بنفس طريقة تعامله معها. ولا يغيّر من هذه الحقيقة وقوع بعض الأخطاء أثناء تنفيذ الهجومات.. فهي من نفس نوع الأخطاء، التي أزهقت أرواح مئات النساء والأطفال والرضّع، في (ملجأ العامريّة) في قلب بغداد، إبّان حرب الخليج الثانية في عام 1991م!.. ومن فئة الأخطاء التي دمّرت مصنع الدواء السودانيّ في عام 1998م!.. ومن مجموعة الأخطاء التي ذبحت عشرات النساء والرجال والأطفال، وحوّلتهم إلى أشلاء متناثرة، في (قانا) جنوبيّ لبنان!.. ومثلها عشرات الأخطاء الأميركية والصهيونية والأوروبية، التي ارتُكِبَت في فلسطين والعراق وأفغانستان، وهنا وهناك في هذا العالَم المترامي الأطراف!..
* * *

 

لا يقدر أحد من البشر على إنهاء ما يسمّونه (إرهاباً)، أو على التخفيف من موجة العداء العارمة لأميركة، التي تجتاح الدول والشعوب المسحوقة.. لا أميركة، ولا أوروبة، ولا توابعهما من أنظمة العالَم الثالث.. فما يسمّونه (إرهاباً) ينتهي فحسب، عندما تعيد أميركة النظر في كل سياساتها الإرهابية العدوانية تجاه الشعوب، وعندما تتخلّى عن مهمة العَوم ضد سُنَنٍ الله عز وجلّ في هذه الأرض، فسنن الله سبحانه وتعالى ماضية لا رادَّ لها، ومَن يرغب أن يسير وفق هذه السنن الإلهيّة، فعليه أن يعيد النظر بعقلانيةٍ وثقة، بأنّ هذا الذي يسمّونه (إرهاباً)، لن يتوقّف إلا بإيقاف مبرّراته، وإنهاء أسبابه، التي تتمثّل في: الاحتلالات، والتسلّط والعدوان، والاستعباد، ونهب ثروات الشعوب، والتآمر على حرّيتها، وامتهان كرامتها، والظلم والاستبداد والقهر والقمع وسحق الإنسان، وعدم تحقيق العدالة والمساواة، وعدم إحقاق الحقّ وإنصاف المظلومين، وعدم التعامل مع الأمم والشعوب على أساس الاحترام، وعدم الاعتراف بحقها في العيش بسلامٍ وأمن، وبكامل حقوقها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية والثقافية!.. ما يسمّونه (إرهاباً) يتوقّف فحسب.. عندما تتخلّى زعيمة (الإرهاب) العالميّ: أميركة، عن لغة الغطرسة والغرور في تعاملها مع الأمم والشعوب، وعندما تقوم بقراءة العالَم، بعينٍ أكثر عدلاً، وأقلّ تسلّطاً وبلطجةً، بمراجعةٍ حقيقيةٍ مع النفس، لإزالة كل الأسباب المؤدّية إلى ما يسمّونه (إرهاباً)، وفي مقدّمة هذه الأسباب، ممارسة أميركة نفسها للإرهاب!..

 

إنّ الحملات الأميركية المنظّمة، لاحتلال أوطان العرب والمسلمين، تثبت أنها ما تزال تحتكم إلى مقولة (حاييم هيرتزوغ) رئيس الكيان الصهيونيّ الأسبق، التي أطلقها في بداية التسعينيات من القرن المنصرم: [إنّ الأصولية الإسلامية أكبر خطرٍ يواجه العالَم]!.. وإلى أحد (مانشيتات) صحيفة (الواشنطن بوست) بالأحمر العريض: [الإسلام هو العدوّ رقم واحد للغرب]!.. أي أنّ أميركة ما تزال تنطلق في تعاملها مع العرب والمسلمين، من خلفيةٍ عنصريةٍ صهيونيةٍ صليبيةٍ حاقدةٍ.. من جهة، ومن منطلق سياسة الاستعلاء والغطرسة والاحتكام إلى القوّة الغاشمة، التي أثبتت فشلها على غير صعيدٍ.. من جهةٍ ثانية!.. وهي في ذلك، إنما تزرع شوكاً في كل بقعةٍ من هذه الأرض، بما فيها الوطن الأميركيّ، ولن تحصد إلا زقّوماً وعلقماً، لأنّ مَن يزرع الشوك، لا يَجْنِ العِنَب!.. والله سبحانه وتعالى يقول في محكم التنـزيل: (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ، أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ، أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (النحل:45، 46، 47).

 

* * *
بعيداً عن المفهوم الأميركيّ-الصهيونيّ-الغربيّ المشوَّه للإرهاب، الذي تروّجه الدوائر الأميركية والغربية والصهيونية، فإننا نؤكِّد للبشرية بشكلٍ واضحٍ لا لبس فيه، أنّ (الإرهاب) في المنهج الإسلاميّ هو: إخافة العدوّ، وردعه، لمنعه من التفكير بإيذاء المسلمين والأبرياء الذين يدخلون في عهدهم، أو الاعتداء عليهم وعلى حُرُماتهم.. و(الإرهاب) هو امتلاك القوّة الحقيقية بكل أشكالها وأدواتها ووسائلها، لإرهاب عدوّ الله وعدوّ المسلمين وعدوّ الإنسان، لمنعه من الاعتداء على المسلمين وحُرُماتهم، وهذا ما أكّده القرآن الكريم بقوله: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ..) (الأنفال:60).. فالإرهاب في المفهوم الإسلاميّ، مناقض تماماً للبغي والعدوان والطغيان والظلم والجَوْر والغدر والقتل وسفك الدماء بغير حقّ.. بل هو كل ما يمنع وقوع تلك الشرور بين البشر، بهدف تحقيق العدل والمساواة والتراحم والسعادة للناس: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). (النحل: 90).. وأمام هذا البغي وهذا الخواء الذي تعاني منه البشرية في هذا العصر.. فإنّ المسلمين مطالبون أكثر من أي وقتٍ مضى، بتقديم المنهج الربّانيّ العادل للناس، الذي لن يكون هناك غيره علاجاً لكل الأزمات والجراحات، التي سبّبتها المناهج الظالمة الباغية، فهل سيكون المسلمون، وفي طليعتهم الحركات الإسلامية المتنوّرة، على مستوى حمل هذه الأمانة الثقيلة، فتتحرّر البشرية –بالحكمة والوسطية والهدى والموعظة الحسنة- على أيديهم، بما في ذلك أميركة الإرهابية، من الظلم والاحتلال والجور والقهر والاستبداد والاضطهاد؟!..
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: 143).
11 من أيلول (سبتمبر) 2010م.
* * *